يحتدم النقاش حول تأويل الخطاب الملكي كلما اقترن باستحقاق انتخابي، فيتم الاجتهاد في التماس العبارات المؤنبة لهذا الحزب أو ذاك، والبعض يذهب به سوء الظن كثيرا، فيبحث في الخطاب الملكي عن الرسائل "المشفرة"، هكذا بهذه التسمية القدحية، كما ولو كان الملك ينزل إلى حلبة التنافس السياسي مع الآخرين وتعوزه الشجاعة لقول الحقيقة فيصرفها بهذه الطريقة! هذه المشكلة طرحت بحدة مع الموجة الجديدة من الخطابات الملكية التي تتفاعل مع التطورات الداخلية، وتمارس النقد والتقويم للسياسات والاستراتيجيات، وتنبه أطراف الفعل السياسي، أغلبية ومعارضة، وتوجه أحيانا نقدا لاذعا لبعض القطاعات. والواقع أن هذه الموجة من الخطابات الواقعية والصريحة، هي في جوهرها ذات بعد توجيهي واستراتيجي، فالمؤسسة الملكية- بما تتمتع به من وضع دستوري يجعلها فوق الأحزاب، ويربطها بكل ما هو استراتيجي، ويمنحها قوة التحكيم- أصبحت الأقدر على التنبيه إلى ما يتلاءم مع الخطوط الاستراتيجية وما يتعارض معها، وما يشوش عليها، بل صارت تدرك بشكل دقيق أولويات المرحلة ورهاناتها وأيضا تحدياتها الكبرى. ماذا قال الملك إذن في خطاب العرش؟ التقدير أن أهم ما قاله الخطاب الملكي للنخب السياسية هو أن تعيد توجيه بوصلتها من جديد في ضوء التقدير الصحيح للوضع الذي يعيشه المغرب، والإمكانات التي يتوفر عليها، والطموحات التي يتطلع إليها، والتحديات الكبرى التي تواجهه، وبناء السلوك السياسي بناء على هذا التقدير. المغرب لا يتوفر على غاز ولا بترول، وإنما يتوفر فقط على موارده البشرية، وهو من الدول الاستثناء في العالم العربي التي تتمتع بالاستقرار والأمن بفضل خيارها الديمقراطي وإجماع مكوناته السياسية على الملكية، وقد استثمر المغرب هذا الرصيد، بفضل العملية الديمقراطية التي أفرزت حكومة إصلاحية، في إعادة التوازنات المالية الكبرى للبلاد وإخراجها من الأزمة. وضعية الأمن والاستقرار هذه، جزء مهم منها ومفصلي مرتبط بثمرات الخيار الديمقراطي الذي التزمه المغرب، وجزء آخر مرتبط بيقظة الأجهزة الأمنية واستراتيجيتها الاستباقية والإمكانات المهمة التي رصدت لها. إذا كان هو تقدير الإمكان والرصيد، فالطموح والرهان هو اللحاق بالدول الصاعدة، ومقومات ذلك معادلة دقيقة تجمع بين التقدم السياسي، وبين تحقيق منسوب مهم من التنمية تصل ثمراته إلى الجميع، وبالأخص الطبقات الفقيرة والهشة، وانتهاج سياسية خارجية تدعم هذا النموذج وتقويه بتنويع الشركاء والامتداد في العمق الإفريقي وترصيد العلاقات الخارجية التقليدية للمغرب. التحديات تأخذ مستويين اثنين، الأول أمني مرتبط بمواجهة التهديدات التي يشكلها تنظيم داعش، والثاني سياسي مرتبط بقضية الوحدة الترابية التي ذهب خطاب العرش لاعتبار سنة 2016 سنة الحزم فيها. أين الاستحقاق الانتخابي ضمن هذة الرؤية؟ لغة الاستراتيجية واضحة، إن بلدا لا يمتلك من رصيده سوى استقراره وأمنه وتجربته الديمقراطية، ويواجه منذ مدة من خصومه تحدي توظيف الجانب الحقوقي لإضعاف مبادرته للحكم الذاتي لحل نزاع الصحراء، ويجتهد من أجل تقوية نموذجه التنموي، وتنقية مناخ الاستثمار، لا يمكن في لحظة ما أن يغامر بكل هذه المكاسب، ويسمح في هذه اللحظة التاريخية المفصلية بالمس بالمسار الديمقراطي، وبحياد الإدارة في العملية الانتخابية. نعم ظهرت في الأيام القليلة الماضية مؤشرات مقلقة، لكن هي بكل تأكيد رسائل موجهة إلى أطراف لتعديل مواقفها أكثر منها معالم تحول في خيار ديمقراطي. أهمية الخطابات الملكية التي تقترن بالاستحقاق الانتخابي أو تسبقه بقليل أنها تعيد التذكير بالموقف الاستراتيجي من العملية الانتخابية وطمأنة القوى الديمقراطية بأن الدولة ترعى الخيار الديمقراطي ولا يمكن لها بأي حال أن تسقط في خدمة حزب أو توجيهه أو خدمة أجندته.