لم أكن متفقا مع أستاذ التاريخ والجغرافيا لما كنت في الباكالوريا في أواخر الثمانينيات، ولكن التشبيه الذي أقامه بين "الغشاش" في الامتحان واللص كان مثيرا فعلا. عند أي فرض في القسم كان يقول بصوته المهيب وثقة غريبة في النفس: النقّال بحال الشفار.. إلى نقل وما حصلش راه ربح.. ولكن إلى حصل كيخلص"، يرافق كلامه بابتسامة خبيثة وحركة من يده لم يكن معناها ليخفى علينا. لم أكن محتاجا إلى "النقلة" في حصته، ولكنني لم أكن أمانع أبدا في الحصول على مساعدة من أحد الأقران في مواد أخرى، خاصة الرياضيات والفيزياء اللتين كنت أحس بأن الأساتذة أنفسهم لم يكونوا يستوعبون جيدا المعادلات التي يمطروننا بها بشكل ميكانيكي. لم يحصل قط، أن أحسست أنني لص يسرق شيئا ما ليس له، بل كنت أشعر أن أحدا يرمي بي، في حلبة مبارزة مع عملاق دون أن يزودني، أنا الكائن الضعيف التائه، بأي سلاح أو أي درع يقيني ضرباته. ولكنني لم أكن "نقّالا" جيدا، إذ كنت أحصل دوما على نقاط ضعيفة في تلك المادتين رغم أنني، يا حسرة، كنت في الشعبة العلمية! لا أستسيغ كثيرا كل هذه الادعاءات بالنقاء المصاحبة لخطابات الإدانة التي تحلق في سمائنا هذه الأيام والموجهة إلى تلاميذ الباكالوريا بالتحديد. ويخامرني ظن شيطاني أن جل (إن لم يكن كل) هؤلاء الذين يصدحون بهذه الخطابات ويعززونها بكثير من الأسف والحسرة على جدية الامتحانات في أيامهم، لم يفلتوا الفرصة للغش في امتحان أو أكثر من الامتحانات الكثيرة التي خضعوا لها، سواء في قاعات الدرس أو خارجها. في تقديري، لا ينظر الكائن المغربي إلى الاختبار (أي كانت طبيعته) على أنه محاولة لاختبار قدراته وكيفية توظيفه لما استطاع امتلاكه من معارف أو خبرات، بل يعتبره سلطة أخرى تحاول مضاعفة قهره.. لا تريد قياس طريقة تدبيره لمعارفه، بل تسعى إلى استنطاقه والإيقاع به. ولا سبيل له للإفلات من جبروتها وتجاوز عراقيلها سوى بالخروج عنها لما يستطيع إلى ذلك سبيلا، تماما كما يفعل مع شارة الضوء الأحمر، ومباريات الولوج إلى الوظائف أو المدارس العليا، وقوانين الانتخابات حين يكون مرشحا بالخصوص… إلخ. إن مفهوم "الامتحان" أو "الاختبار" مرتبط في تقديري مرة أخرى بمفهوم مهم آخر، ولكنه غائب في مجتمعي، هو "الفرد" (individu) الكامل في فردانيته. ف"الامتحان" بالنسبة إلى الفرد فرصة تقييم قدرته على تدبير معارفه، ومحاولة منه لفرض نفسه كفرد قادر على الملاحظة ثم التحليل، فالاستنتاج. أما الكائن في نموذجنا التعليمي القائم في عمقه على الاستظهار والنسخ، فينظر إلى الامتحان، فضلا عن كونه سلطة قاهرة، إلى أنه مجرد اختبار لقدراته على الاستظهار والنسخ، وبالتالي فلا مانع لديه أن يستعين بالوسائل (البدائية والتكنولوجية) التي تعينه على إتقان هذا الاستظهار وهذا النسخ.