الوجوه التي اعتادت كاميرات الإعلام الرسمي على رصدها في جنائز الشخصيات الرسمية وأقاربهم، لم تكن في الموعد هذا اليوم بلدة صغيرة هادئة صافية الهواء، تحوّلت مؤخرا إلى وجهة مفضّلة لبعض من أبناء بورجوازية العاصمة، لاقتناء عقار وتشييد سكن راقي الشكل والمناخ. سيدي علال البحراوي، جوار الطريق السيار الرابط بين سلا والخميسات، لم يكن الكثيرون يعرفون أنها الأرض التي ستحتضن جسدا خبر العيش تحت التراب قرابة عقدين من الزمن، ويعود إلى بنت الكولونيل، زوجة الجنرال، ضحية انتقام الملك، الراحلة فاطمة الشنا، زوجة الجنرال الذي نكّل بالمعارضين ثم انقلب على السلطان، الراحل محمد أوفقير.
السماء تتراجع عن البكاء كانت الأجواء غائمة والسماء ملبّدة وكئيبة لدرجة أوشكت معها على البكاء، لكنها سرعان ما تراجعت وأفرجت عن خيوط أشعة الشمس الدافئة، مفسحة المجال أمام أبناء الجنرال للبكاء وهم يلقون النظرة الأخيرة على جثمان والدتهم، داخل بيت الكولونيل الشنا، أشهر من سكنوا هذه البلدة الهادئة. الراحلة أوصت بدفن جثمانها بالقرب من والدها وباقي أفراد أسرتها. وربما لم تكن بحاجة لتوصي، بما أن الكولونيل الشنا، خلّف بقعة أرضية داخل مقبرة البلدة، مخصصة لدفن جثامين أفراد عائلته، وفيها بات يرقد رفات فاطمة الشنا إلى جانب بعض من إخوتها وأقاربها بجوار قبر الوالد. لم يكن في مدخل البلدة ولا في شوارعها ما يوحي بكونها على موعد مع جنازة استثنائية. بالكاد تظهر آثار بعض عناصر الدرك الملكي، المكلّفين بتأمين البلدة رغم نموها بدرجة باتت معها أكبر من بعض الحواضر وأكثر تقدما منها عمرانيا. مقاهي الشواء في الشارع الرئيسي تطلق العنان لأعمدة الدخان، والعثور على بيت أسرة الشنا حيث ستجرى الجنازة، يحتاج إلى بعض التجوال وترديد السؤال. أمام مقهى « bella rosa » كانت سيارة فارهة من نوع "أودي" سوداء اللون، تتوقف مثيرة الانتباه لكونها حتما جاءت إلى هذا المكان حاملة مسؤولا كبيرا يرغب في حضور الجنازة. حدس سرعان ما أكدته فروة شعر يغلب عليها البياض، لرجل يقتعد أحد كراسي المقهى منكبا على شاشة حاسوب محمول، إنه رئيس المجلس الوطني لحقوق الانسان، إدريس اليزمي.
اليزمي.. الرسمي الوحيد اقتربنا من إدريس الذي ورث منصب الراحل إدريس بنزكري، وسألناه عما إن كان حلّ بالبلدة لحضور الجنازة، فأكد ذلك، مبديا الاستعداد الكامل لإرشادنا إلى مكان الجنازة، فور وصول الدليل الذي كان يجلس في انتظاره بالمقهى. بسرعة سيارات المسؤولين الكبار الفائقة في السير، أرشدتنا ال"أودي" السوداء إلى زقاق خلفي للشارع الرئيسي، غير بعيد عن المسجد الذي بناه الكلولونيل الشنا بالقرب من بيت أسرته. وبين المسجد والبيت، انتصبت خيمة كبيرة أعدت لتلقي العزاء. وبمجرّد وصول سيارة رئيس المجلس الوطني لحقوق الانسان أمام مدخل البيت، سارع أحد أفراد أسرة الراحلة لاستقباله واصطحابه إلى داخله. جنازة امرأة كان مسجد الحي على موعد معها عصر يوم أول أمس الثلاثاء 17 دجنبر، وبيت الشنا الكبير بدوره كان يضج بالنساء. تحلّقن حول موائد أقامها أحد كبار الممونين، فيما كان الزوار من الأقارب وأفراد الأسرة يدخلون إلى الغرفة حيث يرقد الجثمان، لإلقاء آخر نظرة عليه والترحم على الراحلة. الوجوه التي اعتادت كاميرات الإعلام الرسمي على رصدها في جنائز الشخصيات الرسمية وأقاربهم، لم تكن في الموعد هذا اليوم. بقي على موعد أذان صلاة العصر أقل من ساعة، ووحدهم الأهل والأقارب يأتون لتقديم العزاء، باستثناء رجلين يمكن وصفهما بالسياسيين، الكومسير والزعيم الحزبي السابق محمود عرشان، وابن مؤسس حزب الحركة الشعبية، اوزين أحرضان. هذا الأخير كان يرتبط بعلاقة وثيقة بالأسرة، حسب أحد أبناء الراحلة، والكوميسير محمود عرشان جاء بحكم انتماء عائلة الشنا إلى المجال الترابي الذي اعتاد الترشّح فيه وخوض الانتخابات داخله. فيما كان أحد أبرز وجوه الحركة الأمازيغية الضيف المفاجأة في بيت العزاء، وهو المحامي أحمد الدغرني. هذا الأخير حرص على حضور أطوار الجنازة من بداياتها إلى آخر لحظات الخروج من المقبرة، وسبب وجوده يتمثل في دعوته العائلة إلى التقدّم بملف للاستفادة من مسطرة المصالحة التي استفاد منها ضحايا سنوات الرصاص. الفنان والعضو السابق في المجموعة الغنائية جيل جيلالة، محمد الدرهم، حرص على الحضور المبكر وأخذ يواسي أفراد عائلة الراحلة واحدا واحدا، حيث أوضحت مصادر من العائلة ارتباطه بعلاقة أسرية مع الراحلة.
التصوير ممنوع استنفار خاص أبدته عائلة أوفقير منذ الوهلة الأولى التي وصلت فيها طلائع الصحافة إلى بيت جدّهم. "أرجوكم بكل المبادئ والقيم التي تؤمنون بها، ألا تلتقطوا صورا للنعش، إنها وصية المرحومة وعلينا جميعا احترامها"، يقول أحد أبناء فاطمة أوفقير، موضحا أن الوفاة والجنازة أمر يندرج في خصوصيات العائلة ومن حقها الحفاظ على حميميته. كل من البنت والابن الأكبر سنا من بين من خلّفهم الجنرال محمد أوفقير، مليكة ورؤوف، أبديا كثيرا من المسؤولية والتحدّث باسم باقي إخوتهم. وفيما كان بعض أفراد العائلة ينفلت من أعصابه ويشن هجوما قويا على الصحافيين الحاضرين، كان الابنان الأكبر سنا يتدخلان بلطف لإطفاء نار الغضب. وبعدما أسفرت تسوية أولى على السماح للصحافيين بتصوير لحظة إخراج النعش من المسجد إلى سيارة نقل الأموات التي أخذته إلى المقبرة، كانت خطة أخرى قد أعدت لضرب الحصار على المقبرة، وتشديد الحراسة عند بوابتها، مع فرض قانون "الصحافة ممنوعة". قبيل أذان العصر، حلّت لحظة إخراج النعش من بيت الكولونيل الشنا نحو المسجد الذي شيّده. أعلنت حالة الاستنفار، وطُلب من الجالسين الوقوف احتراما للنعش. أبناء الراحلة حملوا نعشها، يتقدّمهم الأخوان الأكبر سنا، فيما كانت النسوة هنّ من يتبعهم مردّدين أذكارا دينية، وما هي إلا بضع خطوات، حتى أدخل النعش إلى المسجد، هناك كانت بنات أوفقير تخرجن منهارات، تكفكفن دموعهن وتتعانقن بحرارة، فقد كانت تلك آخر محطة يصلها جثمان والدتهن قبل أن يودع في مثواه الأخير. "كانت هي سندنا وحمايتنا ومصدر تماسكنا وقوتنا طوال هذه السنين العصيبة التي عشناها بين الحياة والموت"، تقول إحدى بنات الراحلة، فيما يوضّح مصدر آخر من العائلة، أن فاطمة الشنا ظلت محافظة على وعيها الكامل إلى آخر لحظات حياتها.
قبر الحياة سبب الوفاة "كانت تعاني من المرض هذا صحيح، واحتاجت إلى تدخلات طبية متوالية، لكن أكثر ما أنهكها وأتعبها وقضى على حياتها، هو توالي المحن التي عاشتها، وآخرها المحنة التي قتلتها كمدا"، يقول أحد أبناء أوفقير ل"اليوم24"، موضحا أن الأمر يتعلّق ببيت مكوّن من شقتين « duplex »، كانت قد اقتنته في مدينة مراكش، "ورغم كونه لا يساوي شيئا مقارنة مع ما أخذ منها غصبا بعد رحيل الوالد، إلا أنها وجدت أخيرا البيت الذي يمكننا أن نجتمع فيها ونسافر ونعود إليه". سبب المحنة، حسب أحد أبناء الراحلة، هو أن أحد كبار المقاولين العقاريين المعروفين في مراكش، وبعدما باع المنزل للراحلة، عاد ليطالبها بثمنه مستعملا وثيقة يقول المصدر إنها وقعتها بحسن نية، وتفيد بأنها لم تدفع له ثمن المنزل. مصدر آخر من أفراد العائلة، أوضح ل"أخبار اليوم" أن الراحلة عاشت محنة عصيبة في الشهور القليلة الماضية، "ظلّت تتردد على الرباطوالدارالبيضاء ثم تعود إلى مراكش، بحثا عن منفذ لإيصال مظلوميتها واستعادة حقها، لكن القدر لم يمهلها وسرعان ما أصبحت طريحة فراش المستشفى العسكري بمراكش. وتضيف المصادر أن فاطمة الشنا حملت ملف بيتها المراكشي، ووضعته على مكتب أحد كبار المحامين، هذا الأخير اقتنع بكون القضية مربوحة، "لكن المرحومة كانت تعرف أن اسم أوفقير سيكون أكبر مغرّق يواجهها داخل المحاكم، لهذا تراجعت عن قرارها، وطلبت من أحد المعارف إيصال ملفها إلى أحد كبار مستشاري الملك كي يقوم بحلّه بعيدا عن القضاء، لكن القدر لم يمهلها".
نريد أملاك أمنا فتح سيرة الممتلكات يفجّر سيلا من مطالب أبناء الجنرال أوفقير، "فنحن لم نتنازل بعد عن ممتلكات والدتنا التي نهبها منا أحد المقربين من الجنرال الدليمي، استغل ثقة أمنا وتوكيلا مزورا، ليستولي على جميع ممتلكاتها بعد وقوعنا في الأسر"، يقول أحد أبناء أوفقير. ممتلكات تقول مصادر من العائلة أنها تضم عقارات وجواهر وأحجار كريمة وهدايا ثمينة كانت فاطمة الشنا تعود بها من كل زيارة يقوم بها زوجها الجنرال إلى أحد رؤساء أو حكام العالم. "في العقار فقط نحن متأكدون من أن هذا الشخص استولى على 23 بيت في سلا و6 أخرى في القنيطرة، وعمارتان سكنيتان في الرباط، والجميع يعرف بوجود محضر أعده أحد الأجهزة الأمنية يقرّ بأن هذه الممتلكات تعود إلينا، لكن أحدا لم ينصفنا". مصار عائلية من خارج لائحة أبناء أوفقير، تقول إن هذا الأخير عندما تزوّج من فاطمة الشنا، "كانت هي صاحبة الجاه والثروة، بينما كان زوجها ضابطا عاديا. المصادر تقول إن الكولونيل الشنا كان صاحب نفوذ وثروة وعائلة كبيرة. ووقفت "اليوم24" في العزاء على وجود آخر زوجاته، حيث كان قد تزوّج أربع نساء، آخرهن هي التي حضرت جنازة الراحلة فاطمة الشنا، وهي نفسها كانت تشتغل في السابق داخل القصر كمدبرة »gouvernante ». "لم يكن عمري يتجاوز السادسة يوم قابلته للمرة الأولى عند شقيقته، أبدى اهتمامه بي ربما لأنني كنت فتاة لا تشبه البقية كانت نظرتي كئيبة، فقد كنت قد فقدت والدتي ثم أنني كنت أعيش في مدرسة داخلية وكانوا يسمحون لي بالخروج يوم الأحد" تقول الراحلة فاطمة الشنا عن زوجها الجنرال أوفقير، في برنامج "زيارة خاصة" الذي شاركت فيه في قناة الجزيرة. "أما في المرة الثانية التي قابلته فيها فقد كنت في الثانية عشر أو الثالثة عشر، عندها كنت قد أصبحت فتاة شابة ينظر إليها الناس باهتمام، إذ كنت قد بدأت أصبح بالغة قليلا"، تضيف الراحلة.
امرأة وثلاثة ملوك وفيما يتبادر إلى ذهن كل من سمع اسم فاطمة أوفقير، علاقة هذه الأخيرة لثلاثة ملوك عرفتهم عن قرب وعاصرتهم، أولهم محمد الخامس وآخرهم محمد السادس، وبينهما الراحل الحسن الثاني؛ كشف أحد أبناء الراحلة فاطمة أوفقير، التي فارقت الحياة نهاية الأسبوع الماضي بمدينة الدارالبيضاء، أن تعليمات ملكية صدرت بمجرد انتشار خبر وفاة أرملة الجنرال محمد أوفقير، تنص على التكفل بجميع مراسيم الجنازة ونقل الرفات إلى منطقة سيدي علال البحراوي بضواحي الرباط. ابن الراحلة قال إن والدته أوصت في آخر أيامها بدفنها بجوار قبر والدها الموجود في ضواحي العاصمة، مضيفا أنها كررت وصيتها بالتشبث بحب البلاد والإخلاص اليها، "قالت لنا حمروا الوجه وكونوا في المستوى". وفيما أحجمت وسائل الإعلام العمومية والرسمية عن إعلان خبر وفاة أرملة الجنرال محمد أوفقير، أكد أحد أبنائها في حديث ل"اليوم24" بعيد وصول الجثمان إلى بيت الكولونيل محمد الشنا، وهو والد الراحلة، أن السلطات أخبرتهم بتلقيها تعليمات ملكية بالتكفل بجميع إجراءات ومراسيم تشييع ودفن الراحلة. "عندما وصلت وجدته مهيأ وموضوعا في كفنه، كان هناك وشاح أبيض يحيط بوجهه وكان هناك ثقب في الجهة اليسرى من رأسه، وبالطبع لم يكن أوفقير يستعمل يده اليسرى هذا كل ما رأيته، ثم أن شقيقه اصطحب معه طبيبا وهو مدير مستشفى ابن سينا، وكان فرنسيا في ذلك الوقت وقد أجرى فحصا على الجثة وصرح أن الجنرال أوفقير قد قتل بخمسة طلقات، واحدة في الكلية وأخرى في القلب وأخرى في عظم الترقوة وأخرى في الذراع ورصاصة في الرأس للقضاء عليه، لا يمكن أن يُنهي حياته بخمس طلقات" تقول الراحلة فاطمة أوفقير، في برنامج قناة الجزيرة، ملخصة مشهد الموت الذي كان ينتظرها بعد أربعين سنة من ذلك الحدث المتمثل في محاولة الانقلاب على الحسن الثاني. "مرت أربعة أشهر وعشرة أيام وهي فترة الحداد" تقول الراحلة في ذات البرنامج، أي بعد أربعة أيام من انتهاء فترة الحداد، "تم نقلنا إلى الجنوب أي ألف وثمانمائة كيلومتر جنوبالرباط، أمضينا أربعا وعشرين ساعة في السيارة حتى نصل، وعندما وصلنا كانت صدمتنا كبيرة كنا قد تركنا منزلنا ذي التدفئة المركزية وكل هذه الأشياء لنجد أنفسنا في قلب الجنوب في كوخ صغير لم يسكنه أحد منذ عشرين سنة مليء بالدبابير، بالعقارب، بالسحالي، وكل أنواع الأفاعي، وصلنا في منتصف الليل فوجدنا طاولة من الفورمايكا عليها تسعة صحون وتسع علب سردين ورغيف خبز كبير كانت صدمتي هي إنني جررت معي إلى مأساتي ستة أطفال أكبرهم كان في الثامنة عشرة وأصغرهم كان في الثالثة".