رجل له شارب كث ونظرات صقرية تزيد من حدتها النظرات السميكة، يتقدم، مثل سلطان صغير، محاطا بأعوانه وبحفنة من "المخازنية" بزيهم الزيتي الداكن وأحذيتهم "البرودكان"، وخصوص ملامحهم المكفهرة دوما، والكل لا يملك سوى الانحناء لفظاظة لسانه وتجاوز يده وأيد أعوانه. لسنوات كانت هذه هي الصورة التي تتبادر إلى ذهني كلما سمعت "القايد"، وغالبا ما كانت تُنطق الكلمة محفوفة برهبة في الصوت والنظرات، خاصة بين نساء وشيوخ حينا البسيط. أما "السيد العامل" فكنت، أنا وأقراني الصغار، نسمع به فقط، ونحسبه كائنا أسطوريا يمارس سلطته على حياتنا الصغيرة، وعلى حينا البسيط من مكان بعيد ومهيب اسمه "العمالة". ثم اكتشفت أن "القُيّاد" لا يضعون كلهم النظارات السميكة التي تزيد من حدة نظراتهم الصقرية، ولا يتحدثون بفظاظة كل الوقت، بل وفيهم من جمعتني بهم مقاعد الدراسة أو مكاتب العمل؛ وأن أعوان السلطة والمخازنية ليسوا كلهم عدوانيون، بل فيهم من لهم تكوين أكاديمي متقدم، خصوصا في أحيائنا الحضرية. ولكن هذا التطور الذي طرأ على هذه "الكائنات" لم يخلخل بشكل كبير مؤسسة "القايد" العتيقة التي تبسط في نهاية الأمر سلطتها على من يدخل متاهاتها، طوعا أو صدفة.. وهذا التطور لم يفلح في تهشيم "تمثل القايد" الذي انغرس في جسد الكائن المغربي و"انوشم" في ذاكرته ونفذ عميقا إلى لاوعيه. وغالبا ما يبرز الوجه الحقيقي لمؤسسة "القايد" (والعامل ورجل السلطة عموما)، وذلك التمثل القابع في عمق الكائن المغربي، في البوادي والضواحي وحتى "الحواضر" التي أرادت لها الجغرافيا أن تسكن ذلك "المغرب غير النافع". فهناك يتحرر ذلك الوجه، وذلك التمثل من "التخدير" الذي تسعفنا به مظاهر "العصرنة" لحجبهما، أو في أحسن الأحوال لتلطيف الصورة وتشذيب السطح. وفي تقديري، فإن قضية "قايد الدروة" (بغض النظر عما يكتنفها من عتمات متعددة) وقرار عامل ورزازات منع الأساتذة المتدربين من مغادرة المدينة وفرض نوع من "الإقامة الجبرية المجالية" عليهم، تكشفان هذه الحقيقة المرة التي يحاول بريق العصرنة إخفاءها عنها، والتي تسعفنا الشبكة العنكبوتية في السنوات الأخيرة في الانتباه إليها. وأنا مستعد للمراهنة على وجود حالات أخرى مشابهة (أقل حدة أو أكثر) فقط، لم تصلها خيوط تلك الشبكة. في الحالتين يعتبر المسؤول الترابي نفسه صاحب سلطة واسعة، بل يرى نفسه امتدادا لسلطة السلطان.. ذراعه.. صوته وسوطه في الآن ذاته. وهذا يجعله (كما وقع في حالة "قايد" الدروة بغض النظر مرة أخرى عن العتمات التي تحيط بالملف) يحس أن قوانين البلاد لا تسري عليه، بل ويمكنه تأويلها وفق ما يراه (حالة عامل ورزازات هذه المرة، الذي رأى في منع مسيرة الأساتذة، مبررة كافية لمنعهم من حقهم الدستوري في التنقل). إن رجل السلطة في المغرب لا يرى في نفسه ممثلا لجهاز الدولة المؤطر بقوانين تحدد سلطاته وطريقة تعامله مع الناس، بل يتعامل مع الدستور (وأي قانون آخر) بما يسميه عبدالله العروي "التأويل السلفي"، أي أنه يعتبر نفسه امتدادا للسلطان الراعي المكلف ب"رعاية" الرعية في التي "ترعى" في المجال الترابي المحدد له. وله الحق في التصرف في ذلك المجال وفق ما يراه، بما فيه الاسترخاء في بيوت الناس وغرف نومهم بالملابس الداخلية.. لأن سلطته تعطيه الحق في جعلها امتدادا لبيته الخاص. إن رجل السلطة في بلدي لا يعتبر نفسه في خدمة الكائنات المغربية، بل هو جزء من تلك "الخاصة" التي تحمل مظلة السلطان وتعتبر امتدادا لظله، وبالتالي لا يحس بأنه مدين لتلك الكائنات بأي خدمة في العمق وكل ما قد يقدمه من "خدمات" فما هي سوى "مكرمات" مركزه. في رواية يوسف فاضل،"قط أبيض جميل يسير معي"، يقول مهرج الملك "الجميع يخشاني هنا، يدركون المكانة التي صارت لي…لا أخاف عقابا.. سموت فوق كل عقاب". هكذا يحس ذلك الرجل ذو الشارب الكث والنظرة الصقرية التي ارتبطت عندي صورته بصورة "القايد" وأنا صغير.