مرابطلم يفاجئني مطلب فوزي لقجع، رئيس الجامعة الملكية المغربية لكرة القدم ومدير الميزانية في وزارة الاقتصاد والمالية، بمنع صحافي من الكتابة، بقدر ما نبهني مرة أخرى إلى تلك العلاقة المتوترة التي مازالت للكائن المغربي، في عمومه، مع الكتابة مهما كانت، وخوفه الدفين من كل شيء مكتوب، من توصيل الكراء إلى عقد الزواج ووثيقة الطلاق، مرورا بمختلف التمائم التي تؤثث حياته. لو رفعنا ولو قليلا تلك الستائر السميكة التي تشكلها الدوافع المباشرة، وغير المباشرة للدعوى التي رفعها مدير الميزانية ونوايا ورهانات كل طرف من طرفي هذه القضية، وأطللنا لوجدنا، في تقديري، ذلك الخوف الخرافي من الكتابة الكامن هناك في عمق الكائن المغربي.. ذلك الخوف الذي لم تفلح عصرنة هذا الكائن في تبديده، بل شكلت له مظلة وارفة الظل توهم باختفائه بينما هي تخفيه عن الأنظار المتلصصة فقط. ومدير الميزانية يمثل أسطع مثال لهذا الكائن المغربي الذي يلف نفسه في مظاهر العصرنة ويتقن اللعب بالأرقام وتسطير الجداول، ولكن في العمق مازال كائنا معتقلا في السجن اللامرئي للثقافة الشفاهية، ويعتبر الكتابة – خاصة عندما لا تكون ريشتها منقوعة في دواة يعرفها أو يأمنها- عدوا أو في أحسن الأحوال كائنا مبهما يثير التوجس أكثر مما يبعث على الاطمئنان. فالكتابة كانت دائمة تمثل، في المجتمعات الشفوية مثل مجتمعنا، سلطة سحرية، وكانت دائما محتكرة من طرف من يملكون زمام الأمور: سلطان البلاد وديوانه، وشيخ القبيلة وكتبته، وإمام المسجد وامتلاكه لسلطة فك شفرات النص المقدس، وذلك الفقيه الذي يفك الطلاسم ويشفي بالكتابة.. وحتى ذلك «الطالب» في المسيد، الذي يقرأ الرسائل التي لا تصل إلا بين زمن وزمن وفيها رائحة البعيد وأخباره. ومع الاحتكاك بالغرب، وانتشار التعليم في القرن العشرين توسع نسبيا مجال الكتابة، ولكنها مع ذلك ظلت سلطة. إذ يحاول الكثير من مالكي السلطة السياسية والاقتصادية مواصلة احتكارها أو على الأقل توجيهها ومراقبتها حتى لا يمتد مدادها إلى كل تلك المناطق التي يهيلون عليها الكثير من العتمات. بيد أن هذه الكتابة، أخذت تتمرد أكثر فأكثر، وصار مدادها مثل ذلك الماء الذي يتقن التسلل، بصبر وهدوء، من كل الشقوق مهما كانت صغيرة. فيبدد العتمات ويعري ما تحتها على بياض الصفحات. وتملك الكتابة، كذلك، سلطة أخرى هي «الديمومة»، ولعل ما قاله سيناتور روماني قبل مئات السنين أكثر صدقا في عصرنا وما سيليه: «vebra volant, scripta manent» (الكلام زائل، أما المكتوب فباق). وهي سلطة مخيفة في المجتمعات الشفاهية، أو التي لم تتحرر بعد من القيود غير المرئية ل»الشفوي»، خاصة إن كانت بين يدي من لا يملكون أي سلاح آخر غير المداد. وهذه الديمومة ازدادت وستزداد قوة، في تقديري، مع هيمنة العوالم الافتراضية. فالكلام يتلاشى من أن يلامس الهواء، ولا حتى إن احتمى بالذاكرة، فإنها زائلة بشكل أو بأخرى، بينما الكتابة أصبحت لها مع التكنولوجيات الحديثة حيوات لا نهائية لها، إذ تظل معلقة في سماء الافتراض إلى الأبد، وتكفي نقرة واحدة للوصول إليها.