بحكمة القضاة وكياسة رجال القانون، أطفأ قاضي بني ملال شرارة الفتنة، وأفرج عن شابين مغربيين عرضا أمامه بتهمة الشذوذ الجنسي، وذلك وسط حملة تضامن في الداخل والخارج مع الشابين اللذين تعرضا لهجوم وحشي من قبل خمسة شباب اقتحموا عليهما حرمة المنزل، وسحلوهما في الشارع العام منددين بمثليتهم، ثم وثقوا الجريمة بالفيديو، ووضعوا الشريط على اليوتيوب لتأكله مواقع الإثارة الجائعة. القاضي أمامه وقائع واعترافات وقانون يجرم المثلية الجنسية، ومع ذلك اختار أن يستعمل سلطته التقديرية فأفرج عن المتهمين، وحكم عليهما بأربعة أشهر موقوفة التنفيذ، فيما حكم على المعتدين عليهم بستة أشهر للأول وأربعة أشهر للثاني وثلاثة أشهر للثالث، وكلها عقوبات حبسية نافذة مع الغرامة المالية. ماذا يعني هذا الحكم؟ أولا: هذا معناه أن القاضي اعتبر أن الاعتداء على حرمة الأشخاص في منازلهم وتعذيبهم وتشويههم جريمة أخطر وأفظع من ممارسة شخص الجنس خارج الطبيعة وأحكام الدين الإسلامي، وما تعارف عليه الجمهور، وهذا تطور كبير في الاجتهاد القضائي المغربي الذي كان، إلى وقت قريب، يهتم بالأخلاق بمفهومها الضيق أكثر من اهتمامه بالحقوق الفردية والحريات العامة. فلو لم تكن هناك ضغوط دولية ومحلية، إعلامية وحقوقية، لكان جل القضاة قد اهتموا بمؤخرة المواطن أكثر من حريته، وبجنسه أكثر من حرمته، وربما التمسوا ظروف التخفيف ل«لجان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» الذين سحلوا الشابين، والتمسوا ظروف التشديد للشواذ، لكن الذي حدث الآن هو العكس تماما. ثانيا: لم يكن أمام القاضي إلا أن يحكم بإدانة الشابين لأن القانون الجنائي في المادة 489 يجرم الممارسة الجنسية الشاذة، ويعاقب عليها من ستة أشهر إلى ثلاث سنوات، لأن القاضي لا يحكم إلا بما وضعه المشرع من قانون، وإلى أن يتغير هذا القانون، فإن العمل القضائي وسلطة الملاءمة لدى النيابة العامة يمكن أن تدبر هذا التوتر الحاصل بين مجتمع محافظ لا يتسامح مع الشذوذ الجنسي إطلاقا، وتنامي نزعة الحريات الفردية لدى النخبة ولدى الرأي العام الخارجي الذي يعتبر أن القانون الجنائي لا دخل له في الممارسات الجنسية الطوعية بين الراشدين (قبل سنوات كان قاضٍ فدرالي كبير في أمريكا على وشك الدخول إلى المحكمة للفصل في نزاع معقد بين إحدى الولاياتالأمريكية وقبيلة من الهنود الحمر طعنت في قرار الحكومة المحلية نزع أرضها للمصلحة العامة، فيما يقول الهنود إنه إجراء تمييزي للقضاء على ما تبقى من آثار للهنود في بلاد العم سام، فصاحت سيدة من الهنود الحمر في باب المحكمة موجهة كلامها إلى القاضي: «احكم بالعدل يا سيادة القاضي»، فلما دخل كبير القضاة إلى المحكمة وقبل أن يتلو حكم الهيئة اختار أن يرد على السيدة أولا وقال لها: «نحن يا سيدتي نحكم بالقانون وليس بالعدل، ونأمل أن تصادف أحكامنا العدل وإلا فإن أيدينا مغلولة»). ثالثا: سجلت الجمعيات الحقوقية نصرا صغيرا في قضية بني ملال، كما في قضية فاس، كما في واقعة انزكان، حيث وجهت أنظار القضاة -وهم عادة شريحة محافظة جدا، بل وبعضهم منغلق جدا ويحاول تطويع نص القانون ليخدم قناعته لا ليخدم الحقيقة وجوهر النص- والنيابة العامة والقضاة والرأي العام إلى أن الاعتداء على الأشخاص وتعذيبهم وتصويرهم والتشهير بهم جناية كبيرة أعظم عند الله وعند القانون وعند البشر العقلاء من شخص زلت قدمه إلى ممارسة جنسية غير طبيعية، مهما كانت شائنة، فهي تتعلق بالشخص وحسابه عند خالقه وليس بيد البشر، مادام لم يجاهر بها أمام الخلق. هذا معناه أن مجتمعنا يتطور، ويخلق صيغا جديدة/قديمة للتعايش مع الدين والعصر، مع القيم والحرية، مع الإسلام والتعددية، مع الجماعة والفرد، مع قانون الأغلبية وحقوق الأقلية. الشذوذ ليس جديدا على مجتمعنا ولا على مجتمعات أهل الأرض، لكنه ممارسة جنسية عاشت تاريخيا على هامش المجتمع، ولم تتحول إطلاقا إلى المركز، ولم ولن تصير قاعدة حتى في غياب الدولة والقانون الجنائي والقضاة والمطاوعة… واليوم نحن مدعوون إلى الاحتكام إلى العقل وإلى قيم الدين الصافية، وإلى الحفاظ على التعايش وحكم القانون، والانسجام مع العصر الذي نعيش فيه. لا يمكن أن نسمح للأقلية بفرض نزواتها على الأغلبية واستفزازها، ولا يعقل أن يصير الشذوذ قيمة فنية أو أدبية أو جمالية أو فكرية يتباهى بها الإنسان، لأن الميول الجنسية للأفراد مسألة شخصية لا دخل لها بالحياة العامة (إذا ابتليتم فاستتروا)، وفي المقابل، لا يمكن باسم دين الأغلبية أن نطارد الشواذ، وأن نعلقهم على المشانق ونحرقهم في الساحات العامة. أصلا، لا أحد طلب منا ذلك، ففي الإسلام وأحكامه الفقهية فإن جل محرمات الدين متروكة لضمير المسلم وليس للقاضي الجنائي مادامت لا تضر المجتمع، فالصلاة والصيام والحج… وهي من أركان الإسلام، متروكة لضمير الفرد ووجدانه وقناعته، ولا يمكن للقانون الجنائي والشرطة القضائية والمخابرات المدنية والعسكرية أن تتدخل لتلزم مسلما بالصلاة أو الحج أو الصيام… ثم إن أخذ الحق -على فرض أنه حق- باليد معناه أننا خرجنا من الدولة ودخلنا إلى الغابة، خرجنا من القانون ودخلنا إلى الفوضى.