في السنين القليلة الأخيرة (وخصوصا منذ 2007)، كثر الحديث عن "الشذوذ الجنسي" بالمغرب، الذي أصبح الموضوع المفضل لكثير من الصحف خصوصا بعد أحداث القصر الكبير في 2007. ثم عاد "الشذوذ الجنسي" بقوة إلى الواجهة بمناسبة الاحتفال السنوي بموسم سيدي علي بن حمدوش بمكناس (ربيع 2009) الذي اعتبرته بعض الصحف ملتقى سنويا رسميا للشواذ. يضاف إلى ذلك نشر حوارات مع ممثلين لجمعيات تدافع عن "الشذوذ الجنسي" وتطالب بتطبيعه وإلغاء تجريمه من القانون الجنائي المغربي. وعندما نقرأ ما تكتبه "المساء" عن "الشذوذ الجنسي" بالمغرب، وغيرها من المنابر التي تتحدث بمبالغة عن الظاهرة كوباء جارف وزاحف يهدد المغرب والمغاربة، وتدعو السلطات إلى التدخل العاجل لوقف انتشار الشذوذ قبل فوات الأوان، عندما نقرأ كل ذلك يُخيّل إلينا أن المغرب أصبح "سوأة" العالم ولا شيء غير ذلك. وقد تدخلت السلطات بالفعل، إذ اضطرت وزارة الداخلية إلى إصدار بلاغ (مارس 2009) يتوعد ب"التصدي بكل حزم وفي إطار القوانين الجاري بها العمل لكل الممارسات المنافية لقيمنا ولكل المنشورات والكتب والإصدارات التي ترمي إلى المس بقيمنا الدينية والأخلاقية"، وذلك بهدف "صيانة الأمن الأخلاقي للمواطن وتحصين مجتمعنا من كل تصرف غير مسؤول مُسيء لهويته ومقوماته الحضارية"، مع التذكير "أن المصالح الأمنية والسلطات الإدارية تسهر وبدون هوادة على محاربة كل المظاهر المرتبطة بالانحراف الأخلاقي وتبادر إلى اتخاذ التدابير والإجراءات اللازمة على المستويين الوقائي والزجري وتتدخل بشكل يومي كلما دعت الضرورة لردع مقترفي الأفعال المخلة بالآداب والأخلاق العامة". سنعود إلى بلاغ وزارة الداخلية بعد توضيح لمعاني مفهوم "الشذوذ الجنسي". عبارة "الشذوذ الجنسي" أصبح لها مدلولها المعروف الذي يعني ممارسة الجنس بشكل غير طبيعي: الرجل مع الرجل أو المرأة مع المرأة. وإذا كانت كلمة "شذوذ" لا تطرح أي مشكل، لأن لها معنى واحدا وهو الخروج عن القاعدة، عما هو سوي، عما هو طبيعي، عما هو معروف ومألوف، فإن صفة "جنسي"، التي ينعت بها "الشذوذ"، هي التي تطرح بعض المشاكل الدلالية والمعجمية. فالمعنى المرتبط ب"الجنس" و"الجنسي"، الذي يحيل على علاقة الجِماع (بين المرأة والرجل أو الرجل والرجل كما في "الشذوذ الجنسي")، هو معنى مستحدث وجديد في اللغة العربية وليس معنى قديما وأصليا. فلا نجد في المعاجم العربية القديمة، مثل "لسان العرب"، أية علاقة للفظ "جنس" بمعانٍ تفيد الحب والجِماع بين الرجل والمرأة، أي تفيد ما نعنيه اليوم ب sexe, sexuel التي تترجم في العربية إلى "جنس" و"جنسي". أما المدلول الأصلي للفظ "جنس" في اللغة العربية، فيعني الصنف البشري الذي ينتمي إليه هذا الإنسان أو ذاك، أي القوم، الشعب، الهوية الوطنية، كما في مفهوم "الجنسية" Nationalité، الذي يعني الانتماء الهوياتي والقومي لشخص ما، كأن يكون ذا جنسية مغربية أو إيرانية أو ألمانية... إلخ. لكن أمام ضغط المصطلحات الجديدة للغات الأجنبية، مثل sexe, sexuel، والتي كان لا بد للغة العربية أن تجد لها مقابلا حتى يمكن استعمال وتداول هذه المصطلحات، تم اختيار كلمة "جنس" و"جنسي" للدلالة على sexe, sexuel التي تعبر عن العلاقة الجِماعية. هناك إذن شذوذان جنسيان اثنان: شذوذ قد يخص العلاقة الجِماعية، وشذوذ قد يتعلق بالهوية والانتماء القومي، وفق المعنى الأصلي لكلمة "جنس" في اللغة العربية. بلاغ وزارة الداخلية يقصد طبعا الشذوذ بمفهومه الأخلاقي، لكنه سكت عن الشذوذ بمعناه القومي والهوياتي، مع أنه أكثر انتشارا وممارسة بالمغرب وأشد "إساءة لهويته ومقوماته الحضارية" كما جاء في بلاغ وزارة الداخلية، وهي تقصد النوع الأول من الشذوذ. إذا كان "الشذوذ الجنسي" الأخلاقي، الذي هو موضوع بلاغ وزارة الداخلية، يتمثل في تغيير الرجل لدوره الذكوري الطبيعي والأصلي إلى دور أنثوي (الجنسية المثلية)، غير طبيعي وغير أصلي، عندما يفعل مع رجل مثله ما تفعله الإناث مع الذكور، فإن "الشذوذ الجنسي"، بمعناه الحقيقي الأصلي والأول، المتعلق بالهوية والانتماء القومي، يتجلى في تغيير شعب لانتمائه الهوياتي والقومي، الطبيعي والأصلي، إلى انتماء هوياتي آخر، غير طبيعي ولا أصلي، كما حصل في المغرب عندما تحول من بلد أمازيغي ذي هوية أمازيغية إلى بلد "عربي" بهوية عربية. وإذا كانت الدولة مصممة على محاربة "الشذوذ الجنسي" الأخلاقي، فإنها، على العكس من ذلك، تشجع على الشذوذ الجنسي الحقيقي، أي القومي والهوياتي، لأنها هي أول من يمارسه ويشجع عليه ويموّله من الخزينة العامة. فالمغرب، البلد الأمازيغي ذو الانتماء الأمازيغي، أصبح بلدا "عربيا" تحكمه سلطة عربية وبدولة عربية عضوة بجامعة الدول العربية. وهذا التحويل لهوية المغرب من بلد أمازيغي إلى بلد عربي يعبر عن أقصى درجات الشذوذ الجنسي الذي أصبح سياسة رسمية للدولة منذ 1912، تتبناه وتمارسه وتدافع عنه وتكافئ عليه. وإذا كانت الدولة قد أعلنت، من خلال بلاغ وزارة الداخلية، "أن المصالح الأمنية والسلطات الإدارية تسهر وبدون هوادة على محاربة كل المظاهر المرتبطة بالانحراف الأخلاقي"، فإنها في نفس الوقت، تشجع على الانحراف الهوياتي للمغرب والمغاربة بتحريف هويتهم الأمازيغية إلى هوية عربية. إذا كان "الشذوذ الجنسي" الأخلاقي تحرّمه الأديان والقيم الأخلاقية، فإن الشذوذ الجنسي الهوياتي هو كذلك محرّم لأنه نوع من الشرك بالله، الذي اقتضت إرادته أن يخلق سكان شمال إفريقيا أمازيغيين وبهوية أمازيغية ولغة أمازيغية. لكن "الشذوذ الجنسي" للدولة تحدى إرادة الله عندما عملت هذه الدولة على تحويل الجنس الأمازيغي إلى جنس عربي. وإذا كان "الشذوذ الجنسي" الأخلاقي ممارسة شخصية تتعلق بالحياة الخاصة للأفراد، فإن "الشذوذ الجنسي" الهوياتي للدولة أصبح، ومن هنا خطورته التي تفوق خطورة "الشذوذ الجنسي" الأخلاقي، ممارسة جماعية توجهها الدولة وتعمل على نشرها وتعميمها مستعملة في ذلك ما تتوفر عليه من سلطة ووسائل الإكراه والإغراء. وهو ما يعرّض هذه الدولة للعقوبات المنصوص عليها في الفصل 489 من القانون الجنائي المغربي الذي ينص على أنه "يعاقب بالحبس من ستة أشهر إلى ثلاث سنوات وغرامة من مائتين إلى ألف درهم من ارتكب فعلا من أفعال الشذوذ الجنسي"، والفصل 503 1 الذي ينص على أنه "يعاقب بالحبس من سنة إلى سنتين وبالغرامة من خمسة آلاف إلى خمسين ألف درهم، من أجل جريمة التحرش الجنسي كل من استعمل ضد الغير أوامر أو تهديدات أو وسائل للإكراه أو أية وسيلة أخرى مستغلا السلطة التي تخولها له مهامه، لأغراض ذات طبيعة جنسية". وإذا كان "للشذوذ الجنسي" الأخلاقي مصحات خاصة لتغيير الأعضاء التناسلية وإجراء عمليات جراحية، باهظة الثمن، لتحويل الرجل إلى امرأة، فإن للشذوذ الجنسي الهوياتي كذلك مصحات ومختبرات لتحويل الجنس الأمازيغي إلى جنس عربي، وهي مصحات ومختبرات، عكس الأولى ذات التكلفة الغالية، مجانية ومتوفرة بكل المدن والقرى والبوادي: إنها المدرسة العمومية التي تجري عمليات تغيير الجنس الأمازيغي إلى جنس عربي. يتحدث بلاغ وزارة الداخلية عن "تحصين مجتمعنا من كل تصرف غير مسؤول مُسيء لهويته ومقوماته الحضارية". لكن هل هناك شيء يسيء إلى هوية المغرب ومقوماته الحضارية أكثر من التعريب العرقي والسياسي والهوياتي وليس اللغوي الذي تنهجه الدولة كسياسة رسمية ينتج عنه "شذوذ جنسي" حقيقي لأنه "يخصي" الهوية الأمازيغية للمغاربة ويزرع مكانها الهوية العربية كما يجري ذلك في العمليات الجراحية للشواذ، والتي تبتر عضو التذكير للرجل لتزرع مكانه ما يشبه فرج المرأة؟ إن الذي تسهل عليه خيانة جنسه القومي والهوياتي بتحويله إلى جنس هوياتي وقومي آخر، تسهل عليه خيانة وطنه وأرضه التي هي منبع هويته. وهذا ما يفسر أن الذين رحّبوا بالاستعمار الفرنسي وقبلوا "حمايته" لهم، هم الذين كانوا قد تنكروا لهويتهم الأمازيغية واعتنقوا هوية عربية لا علاقة لها ببلدهم ووطنهم. فالأجنبي دائما يناصر الأجنبي ويتحالف معه، لأن "كل غريب للغريب نسيب" كما قال شاعر الجاهلية امرؤ القيس. أما الأسوياء الذين لم يسقطوا في "الشذوذ الجنسي" ولم يغيروا هويتهم وبقوا متمسكين بانتمائهم الأمازيغي، فهم الذين حاربوا الاستعمار وقاوموا الاحتلال لأنهم رفضوا "الشذوذ الجنسي". تتباكى الدولة، من خلال بلاغ وزارة الداخلية، على "الأمن الأخلاقي للمواطن"، هذا الأمن الذي أصبح مهددا من قبل "الشذوذ الجنسي". لكن هذه الدولة تناست الأمن الهوياتي الذي هي أول من يهدده ويخلّ به وينتهكه. فأكبر "الشواذ" بالمغرب هو الدولة نفسها التي غيرت جنسها الأمازيغي، بمساعدة جرّاحين فرنسيين، إلى جنس عربي بدل أن تبقى دولة بهوية أمازيغية انسجاما مع الأرض الأمازيغية التي تعيش فوقها هذه الدولة. إن ما نحتاجه في المغرب، ليس حملة ضد "الشذوذ الجنسي" للأشخاص، بل حملة ضد "الشذوذ الجنسي" للدولة للقضاء على "شذوذها" حتى تعود دولة سوية وغير شاذة ، وذلك باستعادة جنسها الأمازيغي الذي بترته وزرعت مكانه جنسا عربيا في المصحات الجراحية الخاصة للحماية الفرنسية. وهذه الحملة من أجل الهوية الأمازيغية، والتي ينبغي أن تتوحد حولها الحركة الأمازيغية، هي أيضا حملة من أجل الأخلاق لأنها تحارب "الشذوذ الجنسي" الأكبر للدولة، علما أن "الشذوذ الجنسي" الأصغر هو الذي تحاربه الدولة عبر بلاغ وزارة الداخلية، والذي يتعلق بالأفراد والخواص. فالارتباط بهوية الأرض والافتخار بها والدفاع عنها قيمة أخلاقية ودينية عليا. فحب الأوطان من الإيمان. ومن لا يحب هوية وطنه لا يمكن أن يحب هذا الوطن الذي هو منبع تلك الهوية. وهذا ما يجعل إيمانه ناقصا وغير صادق، مثل إيمان المنافقين والانتهازيين.