كل الذين سقطوا في الهجمات الإرهابية التي هبّت على باريس عاصمة الأنوار، مثل عاصفة صحراوية هوجاء، هم أفراد فريدون، لا يشبه فيهم الواحد الآخر.. منهم من كان في مطاعم المقاطعة الحادية عشر فقط، للتخفف من التعب بعد أسبوع من القفز من محطة متيرو إلى أخرى.. ومنهم من كان هناك فقط، لتبديد الملل في هواء ليل باريس الخريفي.. ومنهم من كانت هناك لتحكي لصديقتها عن حب جديد، أو انتكاسة عاطفية جديدة.. أو فقط، لتسعترض رداءً جديدا يحتفي بأنوثة طافحة وتحتفي به.. ومنهم من جاء إلى هناك لينزوي في ركن على الطيراس «juste pour se rincer l'œil».. ومنهم من وجد نفسه هناك فجأة دون تخطيط مسبق، فقال في نفسه «le hazard fait bien les choses» ومنهم .. ومنهم.. ومنهم.. فالضحايا لا يتشابهون أبدا كما انتبهت إلى ذلك العين النفاذة لمحمود درويش، لكل أحلامه الخاصة وهمومه الخاصة ومعاركه الصغيرة الخاصة أيضا، وإن اشتركوا في لون الدم المهدور.. أما القتلة فيتشابهون كما يقول الشاعر الفلسطيني الكبير، فهم وإن تعددوا وتعددت رشاشاتهم كائن واحد لا ملامح محددة له ولا نعرفه سوى من الأثر الذي يتركه خلفه.. إنه قناع شبحي لإيديولوجيا الموت التي تقوم في تقديري على ثلاثة عناصر أساسية. فالذي تسللت هذه الإيديولوجيا إلى خلاياه – مثل كل أولئك الذين أثخنوا في القتل المجاني في ليل عاصمة الأنوار – لا يحب نفسه، بينما يؤكد علم النفس أن الكائن في حاجة إلى نسبة معينة من حب النفس والنرجسية حتى يكون بمقدوره حب الآخرين أو على الأقل تجنب السقوط في كراهيتهم كراهية عمياء. ويرى في الآخر تلك المرآة التي تعكس وجهه الجميل.. ذلك الوجه الذي لا يتحمله لأنه يكره نفسه كرها لا يطاق. فيخف للتخلص منه رمزيا أولا فيعتبره «كافرا»، ثم ماديا فيسعى إلى تصفيته وسفك دمه في أول فرصة سانحة. والكائن الذي استنشق هذه الإيديولوجيا حد الإشباع لا يحب هذه الحياة، وكل مظاهرها.. لا يحب شرايينها الكبيرة من مكتبات ومسارح مرورا بالملاعب والساحات، ويطيق عروقها الدقيقة التي لا حصر لها، من ضحكة الرضيع والغضب الحنون للأم، وهيبة الأب، إلى رائحة أكل الأم وعطر الحبيب أو الحبيبة… إلخ. وبدل ذلك يبحث عن حياة أخرى، يراها هناك في الضفة الأخرى.. هناك خلف حجاب الموت. فيسعى إلى بلوغ ما وراء هذا الموت، ولكن قبل ذلك، يتعهد بتدمير الحياة. الكائنات التي انغمست في إيديولوجيا الموت لا تحب الله وإن ادعت أو ظنت العكس. لأنها تقول إنه جبار ولا يعرف سوى معاقبة مخلوقاته، بينما هو يصر على القول إنه رحمان رحيم. وهي لا تحب الله لأنها ترى أنه في حاجة إلى دفاعها عنه.. وتعتبر أن أحسن طريقة لأداء «مهمتها» هي سفك أكبر قدر ممكن من الدماء وإحداث أكبر قدر من الخراب قبل الموت في نهاية المطاف. والخطير مع هذا التوجه أن السلاح غير كاف للقضاء عليها، فالقنابل والصواريخ لا تقتل الإيديولوجيات، إذ يتطلب الأمر استحداث أدوات وآليات ومفاهيم جديدة تجعل من اليأس، الذي أخذ يزحف على النفوس مثل ظلام قطبي، مجرد تلميذ للأمل لا ينجح «سوى في السقوط»، حسب تعبير الشاعر المغربي سعد سرحان.