إذا كان الراحل عبد الوهاب المسيري، رحمه الله، قد أجاب عن السؤال «هل أنت ماركسي؟» قائلا: «نعم، أنا ماركسي على سنة الله ورسوله»! فهل يا ترى يمكن أن نطمع في إجابة من هذا القبيل، الواضح والصريح، من طرف سعد الدين العثماني ومحمد المختار الشنقيطي ومحمد جبرون، بصدد منشوراتهم الأخيرة حول المسألة السياسية في الإسلام، إذا ما وجهنا لهم السؤال التالي: «هل أنتم علمانيون على سنة الله ورسوله»؟ من المؤكد أن كل واحد من هؤلاء سيقول لنا إن مقالاته تهمّ شؤون الحكم والدولة والسلطة، وتتوافق مع كتاب الله وتسير وفقا لمنهاج النبوة. لكنه، سيتحاشى، في الوقت ذاته، ذكر الكلمة «الرجيمة»، بتعبير جورج طرابيشي، كلمة «العلمانية» حتى ولو بمعناها الجزئي عند عبدالوهاب المسيري! لكن أن يتعمد أصحابنا، عن سبق إصرار وقصد، عدم استعمال لفظ «العلمانية»، لا يعني، بالضرورة، أن ما يكتبونه من اجتهادات في الفكر السياسي بعيد عن العلمانية وتصوراتها ورؤاها للعلاقة بين الديني والسياسي. فهذا الشنقيطي يقرأ ما سمّاه ب»السنة النبوية» على ضوء مكتسبات الفكر السياسي المعاصر، من خلال منهج انتقائي واستنطاقي. حيث ينتقي بعناية بعض السوابق السياسية من العهدين النبوي والراشدي، ويستنطق بدهاء فقهي ملحوظ بعض النصوص الدينية، كما تزكي مواقفه المسبقة حول إلزامية الشورى، ورجحان رأي الأغلبية، وحق المرأة في المشاركة السياسية الكاملة، والدور الذي ينبغي أن يكون لأهل الخبرة والكفاءة في الدولة، بما هم أصحاب سلطة علمية. أما سعد الدين، فهو ينشر منذ مدة، سلسلة مقالات، تحت عنوان: «الدولة المدنية في ظل مقاصد الشريعة الإسلامية»؛ ومن دون الدخول في جدل حول معنى مدنية الدولة، هل هي دولة لا دينية كما تطورت في السياق الغربي، أو على الأقل، دولة محايدة دينيا، أم هي بالمعنى الغامض عند إسلاميي الربيع الديمقراطي، «دولة مدنية بمرجعية إسلامية»؟ من دون الوقوف عند هذا الشق الأول من العنوان، فإن التمعن في شقه الثاني «في ضوء مقاصد الشريعة» يدل على وعي العثماني بمحدودية المنهج الانتقائي، الذي وظفه الشنقيطي في قراءته للسنة السياسية، مفضلا القراءة المقاصدية للشريعة الإسلامية، حتى يتحرر من الشواهد والآثار والنصوص التي تتعارض في ظاهرها، على الأقل، مع ما يرمي إليه الكاتب من تأصيل للفصل بين الديني والسياسي، وبين التشريع القانوني بمعناه المعاصر وبين التشريع الديني، وتمييز للأمة السياسية عن الأمة الدينية، بالإضافة إلى أن العثماني لم يجد حرجا في الجمع بين قولين متعارضين، وهما قوله بأن «سمات الدولة المدنية متوفرة في نظرة الإسلام للسلطة»، وقوله في الوقت ذاته، كما قال علي عبد الرازق، الذي نعته الإسلاميون بأبشع النعوت، إن الكتاب والسنة لم يحددا أي شكل للحكم والسلطة! إن هذا التناقض عند العثماني لا يمكن رفعه إلا بالإقرار بتلك الأطروحة الملتبسة حول الدين العلماني عند المفكر الإيراني عبد الكريم شروس. إن الفرق بين علي عبد الرازق من جهة، وبين شروس والعثماني والشنقيطي وجبرون، كما سنرى ذلك لاحقا، من جهة ثانية، هو أن الأول كان واضحاً بإعلانه أن الدين لم يحدد أي شكل للنظام السياسي، فأعفى بذلك نفسه من جهد البحث الانتقائي وتعب التأويل الاستنطاقي. في حين ما يزال الآخرون يقتنعون بأن كل ما وصلت إليه الإنسانية المعاصرة من صيغ عقلانية للحكم الرشيد تجد سندها في الكتاب والسنة وسير الخلفاء الراشدين. هكذا يتبين لنا أن الأمر يتعلق باختلاف في التكتيك وليس في الاستراتيجية، التي هي واحدة عندهم جميعا، ممثلة في تبيئة مفاهيم الحداثة السياسية، في تربة ذات تقاليد سلفية، كما سيظهر ذلك بوضوح من خلال تأملنا في عنوان كتاب الدكتور محمد جبرون: «مفهوم الدولة الإسلامية- أزمة الأسس وحتمية الحداثة»، الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. إذا كان الباحث محمد جبرون يعترف، في مقدمة بحثه، أنه يرمي، من خلال ما خطته يمينه، من أفكار ونظريات، في كتابه الذي بين أيدينا، إلى «تأسيس مشترك ثقافي بين (…) الإسلاميين والعلمانيين»! فإننا نتساءل هل ستتم هذه العملية التأسيسية من خلال علمنة الإسلاميين، أو عن طريق أسلمة العلمانيين، أو بواسطة خلق حالة لا تتقيد بقاعدة الثالث المرفوع، يتخلى فيها العلماني عن علمانيته والإسلامي عن إسلاميته، قد نسميها مثلا بما بعد العلمانية وما بعد الإسلامية؟! يرفض الكاتب كل هذه الحلول باعتبارها لا تضع الأصبع، على ما يعتقد أنه هو المشكل الحقيقي، ممثلا في «العطب الإصلاحي- التاريخي الذي حدث قريبا من عهدنا خلال القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين». هكذا يكتشف قارئ الكتاب نزعة خلدونية قوية الحضور عند صاحبه، حيث اعتمد منهجية تاريخية نعتها ب»فقه التاريخ والفكر التاريخي»، القادر وحده، من دون المناهج الفقهية والكلامية والفلسفية، على تشخيص الداء واقتراح الدواء. تتجلى خلدونية جبرون في موقفه اليائس والمتشائم من كل محاولة لإحياء الدولة الإسلامية في أشكالها التقليدية القديمة، فالدولة مثلها مثل الكائن الطبيعي تمر من مراحل عمرية معينة، حتى تصل إلى مرحلة الهرم والموت، لذلك سيكون من العبث مواكبة محاولات إحياء نموذج الخلافة الراشدة، لأن حتمية الحداثة والتحديث قدر تاريخي لا مفر للأمة اليوم منه، فدولة المسلمين المعاصرة إما أن تكون حديثة أو لا تكون. لكن جبرون لا يذهب بالمنهجية الخلدونية إلى حدودها القصوى، بل إنه سيتخلى عن نزعتها التشاؤمية، ولو مؤقتا، ليبشرنا بإمكانية الحلم بنموذج جديد للدولة الإسلامية جاذب للحداثة السياسية، تأتى له من خلال منهج «القلب في مصادر الإسلامية ومبادئها». ليس منهج «القلب» المشار إليه، سوى العودة إلى ما يعتبره جبرون «منهج الصحابة» في التعامل مع الكتاب والسنة، والذي لم يلتزم به الإسلاميون المعاصرون في قراءاتهم للنصوص الشرعية. فإذا كان الإسلاميون قد أعطوا الأولوية للأحكام بدل الحكم، واهتموا بالجزئيات على حساب الكليات، فإن جبرون يعدنا بأنه سيقوم بالعكس، حتى لا يفوّت على نفسه فرصة ما يعتقد أنه «الوعي بالمصادر الكلية ل»الإسلامية» في النص الشرعي». وقد قاد هذا النمط من القراءة صاحبه إلى استخلاص ثلاث صفات ل»إسلامية» الدولة وهي: البيعة والعدل والمعروف. وقد كانت الدولة في السياق التاريخي العربي، من دولة الراشدين إلى اليوم، محاولة لتنزيل هذه المبادئ، وفق المتاح التاريخي. يميز جبرون، في تاريخ الدولة الإسلامية، بين مرحلتين، هما مرحلة دولة الراشدين، ومرحلة دولة الإسلام السياسي التاريخي القائمة على العصبية. فأما دولة الخلفاء الأربعة فلم تكن نموذجا كاملا للدولة في الإسلام، بل مثلت مجرد مرحلة بحث عن هذا النموذج، وبالتالي لا يستطيع أحد، سواء من القدامى أو المعاصرين، إثبات الأصالة الدينية للاختيارات السياسية للخلفاء الراشدين، لأنها كانت مجرد اجتهادات بشرية، يمكن العمل بها، كما يمكن تركها، فضلا على أن النموذج، الذي حاولوا تشييده، لم تتحقق فيه كل أوصاف الإسلامية، كما حددها جبرون. فإذا كانت صفتا البيعة والعدل قد تحققتا بقدر ملحوظ في هذه التجربة، فإن صفة «المعروف» وما يرتبط بها من عناية بالمصالح الاقتصادية وتطوير العمران وازدهار العلوم والثقافة، لم تتحقق ولو في حدودها الدنيا. وعلى خلاف ما درج عليه التقليد الإسلامي، السني خاصة، في اعتبار نموذج الخلافة الراشدة، هو النموذج الشرعي للسلطة في الإسلام، فإن محمد جبرون يفاجِئنا في اعتبار دولة الملك القائم على العصبية، دولة «تامة الشرعية، ومتحققة من أوصاف «الإسلامية»! فقد عوضت شرعية العصبية شرعية الأمة وحلت محلها، نظرا إلى استحالة تحقيقها، أي شرعية الأمة، تاريخيا في تلك المرحلة، مما وفر للدولة كل أسباب الاستقرار والاستمرار، سنح لها بالقيام بوظائفها، و»في مقدمتها القيام بالعدل والرفع من منسوبه في الحياة»، بحيث عرفت العدالة، في نظر جبرون، ازدهارا في بعض المراحل «فاق في الكثير من الجوانب ما تحقق في دولة الراشدين». لكن صفة المعروف، بالرغم من استفادتها من تطورات كثيرة، فإنها بقيت محدودة، لا بسبب تقصير الخلفاء الأمويين والعباسيين، الذين تعاقبوا على حكم دولة العصبية، ولكن بحكم أن اللحظة التاريخية، المرتبطة بطبيعة الدولة في العصر الوسيط لم تكن تسمح بأكثر مما تحقق. لكن إذا كانت دولة العصبية هذه دولة إسلامية، كاملة الأوصاف الإسلامية، فلم لا يمكن الاستمرار في نموذجها المنتشر حاليا في مناطق مختلفة من الوطن العربي؟ يعود محمد جبرون إلى «الحتمية الخلدونية»، قائلا: «إن الشيء إذا ما تم نقص، ومن بلغ النهاية انتهى»، وأن أزمة عميقة قد مست أسس دولة الإسلام التاريخي، تستحيل معها كل محاولات الإنعاش والإنقاذ، وأن موتها ونهايتها تعد قدرا قاهرا لا مفر منه. هذا الواقع الموسوم بأزمة الأسس يفرض على الفكر الإسلامي أن يتجه مباشرة إلى الاستفادة من مكتسبات الحداثة السياسية من أجل تأسيس نموذج الدولة – الأمة، القادر وحده على مسايرة العصر. وهو نموذج لا يمكن أن يقوم إلا على توافق، يتم ب»منطق تاريخي لا بمنطق فكري»، حسب جبرون، إذ تتلاشى فيه الأسس الموضوعية لاستمرارية التيارين الإسلامي والعلماني، مما سيؤدي إلى نهايتهما وظهور تيارات جديدة جدة كاملة. لكن إذا كانت التيارات الجديدة، التي يبشر بها جبرون، لا هي بالإسلامية، ولا هي بالعلمانية، فما عساها تكون؟ إنها تيارات عهد «نهاية الإيديولوجيا»، لا شك في ذلك، لكن ألا يقودنا ذلك إلى السقوط في فخ فكرة «نهاية التاريخ»، وما تشرعن له من هيمنة ليبرالية مطلقة؟ أليست تلك صورة من صور العلمنة في حدودها القصوى كما يراد لعصرنا الانتهاء لها؟ ألا يغلق هذا النمط من القول، من حيث لا يقصد، كل إمكانية لفصل الحداثة السياسية عن الغرب، باعتبارها رأس مال بشري مشترك، قابل لأن تستثمره الإنسانية بأشكال مختلفة، وأن تعبر عنه بأصوات متعددة؟ كاتب وباحث مغربي