يعد كتاب «العلمانيات والمجتمعات المتوسطية» ثمرة للمناظرة التي عقدتها مؤسسة «كوليج دو بيرناردان» الفرنسية في الدورة السنوية لعام 2010-2011، والتي وزعت على عشر جلسات بتنشيط باحثين ومفكرين انكبوا، كل في ميدانه، على إشكالية «الحوار المتوسطي في الفكر الديني وعلمنة المجتمعات». وتشمل القائمة 21 باحثا ومفكرا، وأشرف على تنظيم هذه الندوات وأعد الكتاب كل من فالانتين زوبير وجاك هينتسينجير. وكانت الغاية من المحترفات الثقافية المتوسطية هي مناهضة فكرة صدام الحضارات، التي غذت العقد الأخير، منذ هجمات الحادي عشر من شتنبر 2001. منذ تدشينه عام 2008 أطلقت «كوليج دو بيرناردان»، وهي مؤسسة ثقافية وفنية يقع مقرها في كنيسة قديمة بالمقاطعة الخامسة بباريس، برنامجا للندوات والمحاضرات في مواضيع تهم الدين، السياسة، المجتمع، البحث الموسيقي... إلخ، بغية مسايرة قضايا الساعة والوقوف عند مشاغلها الآنية والمستقبلية. ومن بين الندوات التي عقدها مؤخرا، بتعاون مع معهد العالم العربي (في إطار فعاليات خميس المعهد)، تلك التي انصبت على معالجة إشكالية «الربيع العربي والمسألة الدينية»، بمشاركة ريجيس دوبريه، عياض بن عاشور، عبده الفيلالي الأنصاري، فانسان جيسير، جاك هينتسينجير، عبد المجيد الشرفي. هذا الكتاب هو ثمرة للمناظرة التي عقدتها نفس المؤسسة في الدورة السنوية لعام 2010-2011، والتي وزعت على عشر جلسات بتنشيط باحثين ومفكرين انكبوا، كل في ميدانه، على إشكالية «الحوار المتوسطي في الفكر الديني وعلمنة المجتمعات». وتشمل القائمة 21 باحثا ومفكرا، من أبرزهم توفيق أكليماندوس (مصر)، سميم أنغونول (تركيا)، جان بوبيرو (فرنسا)، عبد المجيد الشرفي (تونس)، عبده الفيلالي الأنصاري (المغرب)، محمد الصغير جنجار (المغرب)، إلياس صنبر ( فلسطين) ...إلخ. وأشرف على تنظيم هذه الندوات وأعد الكتاب كل من فالانتين زوبير وجاك هينتسينجير. وفي التقديم العام أشار هذا الأخير إلى أن طرح النقاش في موضوع الإسلام من طرف مؤسسة كاثوليكية، مثل مؤسسة «كوليج دو بيرناردان»، يندرج في إطار «الحوار الثقافي المتوسطي»، وهو المشروع الذي سبق أن أطلقه الرئيس السابق جاك شيراك. والغاية من المحترفات الثقافية المتوسطية هي مناهضة فكرة صدام الحضارات، الذي غذى العقد الأخير، منذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001. كما أن محصلة هذا الحوار يمكن أن تكون سندا لمسلسل فكري وثقافي تعمل في أفقه «كوليج دو بيرناردان». واستندت هذه المحصلة على ثلاث فرضيات: فرضية «صدام الحضارات»، التي تنحو إلى التشديد على تباعد ضفتي المتوسط: ضفة علمانية وضفة دينية. ثم فرضية تطور الوضع الديني في العالم العربي، العالم التركي والإيراني. وأخيرا فرضية الإسلام في أوروبا، بمعنى مكانة الإسلام ضمن أوروبا المسيحية واللائكية في نفس الوقت. في اتجاه العلمانية التحليل الذي أسند هذه الأطروحات الثلاث كان قائما على مفهوم «التعقد» la complexité ، وهو المفهوم الذي صاغه إدغار موران. ليس هناك تطور خطي بين للعلاقة بين ما هو ديني واجتماعي وسياسي في العالم الإسلامي، بل تطورات متباينة، متناقضة، وهي علامة من علامات مسلسل انتقالي، هو اليوم قيد الإنجاز في العالم العربي الإسلامي. مسلسل ينخرط ضمن مواجهة مع الحداثة ومطالب بالرد عليها. لكن العالم العربي، بشكل إجمالي، هو اليوم قيد التغير في اتجاه العلمانية، من دون أن يتنصل مما هو ديني. وقد تحدث المفكر مارسيل غوشي عن علمانية متباينة مع العلمانية الغربية. علمانية متأخرة بعد قرون من الانحسار، علمانية مرفوقة ب«عودة الديني» على شكل إسلام يقوم على الهوية، إسلام احتجاجي، بل إسلام راديكالي يعارض أنظمة سياسية سلطوية لائكية. بعبارة أخرى، «تعقد» يتزاوج فيه الإسلام بمسلسل العلمانية، ليمس في العمق المجتمعات، وبالأخص الأجيال الجديدة. إن النقاشات التي تم خوضها في موضوع الإسلام، سواء في فرنسا أو على المستوى الأوروبي، أو الإسلام في علاقته بالعلمانية، وفي موضوع وزن المجموعات الإسلامية ضمن المجتمعات الأوروبية ذات الثقافة المسيحية تبدو اليوم بأنها قضايا كبرى لمجتمعاتنا المعاصرة. أي إصلاح ديني وسياسي؟ من بين المواضيع التي هي مثار نقاش، هناك موضوع الإصلاح، وعلاقة الإصلاح الديني بالإصلاح السياسي. أليس إصلاح المجتمع والمؤسسات السياسية مستهلا للإصلاح الديني أم العكس هو الصحيح؟ هل الإصلاح إسقاط في اتجاه المستقبل أو عودة إلى الماضي؟ في الإسلام، يجب التمييز بين الإصلاح كموقف حنيني إلى الماضي والإصلاح كحركة نهضة متجهة نحو العلمانية. في الإسلام، ثمة منحى إلى إدماج الإصلاح داخل التراثية والسلفية. رهانات العولمة بجنوب المتوسط، الذي شكل أحد محاور النقاش، جر البعض، وخاصة جان بوبيرو، المتخصص في المسألة العلمانية، إلى الحديث عنها بصيغة الجمع، وإلى تعريف المفهوم والإطار وموقع الخطاب الذي يعرض منه التحليل. ويرى أن مسلسل العلمنة ينبثق في اللحظة التي تفقد فيها الدولة شرعيتها الدينية ولما يخوض كل المواطنين النقاش بشكل سلمي وفي نوع من المساواة لممارسة سيادتهم في ميدان تجريب السلطة السياسية. العلمانية بصيغة الجمع لقد ألفنا أن يتم الحديث عن العلمانية بصيغة المفرد، في الوقت الذي أكد المؤرخون والفلاسفة وعلماء الاجتماع على طابعها وصيغتها المتعددة. يقطع المؤرخ وعالم السوسيولوجيا، إذن، مع التقليد الحصري القائل إن فرنسا هي أم العلمانية، ليقترح أطروحة تقول بعلمانية بصيغة الجمع مع التشديد على فكرة أن العلمانية ليست بمفهوم خالص ومجرد يتجاوز الأزمنة والأمكنة، بل هي محصلة مسلسلات تاريخية متنوعة ومتباينة، وأنها تترجم أسسا فلسفية تطابق حقائق اجتماعية، ثقافية وسياسية. هذا لا يعني بأن هذه العلمانيات تتساوى فيما بينها، بل تفترض في كل موقع وكل وضع، على الأقل، تجاوز العتبة الأولى. يبقى تدخل جان بوبيرو في الموضوع حاسما بالنظر إلى تكوينه العلمي والمعرفي في الموضوع. ويلاحظ جان بوبيرو أن العلمانية تحتل اليوم قلب النقاش السياسي، بمعزل عن نوعية القناعات الدينية السياسية بسبب انبثاق المسألة الدينية والإسلاموية في المشهد العام. وقد جاءت مداخلة جان بوبيرو لرفع اللبس الحاصل بين مفاهيم العلمنة، sécularisation، مسلسل العلمانية laïcisation والعلمانية laïcité. ويشير جان بوبيرو في مؤلفه «العلمانيات في العالم» إلى أن كلمة علمانية غير قابلة للترجمة إلى لغات أخرى، وبالأخص إلى الإنجليزية. أصل الكلمة إغريقي (لاووس)، ويقال في اللاتينية لايكوس (الشخص الذي لم يتلق الأوامر الدينية). استعملت اللغة الإنجليزية كلمة Layman، وقدمت الأكاديمية الفرنسية تعريفا للعلمانية بصفتها مذهبا «يعترف للعلمانيين بحق تسيير الكنيسة». في القرن العشرين استعمل الإنجليز مفهم laicization في إشارة إلى تنامي سلطة اللائكيين (الملك ومستشاروه السياسيون، الخ) داخل حكومة الكنيسة. من هنا أصل التعقيد الدلالي أو السيمانطيقي الذي يرافق هذه الكلمة. في اللغة الفرنسية تطورت دلالة العلمانية بالتدريج لتعني في الأخير «الاستقلال تجاه أي معتقد ديني وتجاه أي مبدأ له صبغة دينية»، تبعا للتعريف الذي قدمه معجم «لاروس» عام 1888. وللحصول على الاستقلال كانت اللحظة العلمانية المناهضة للسلطة الدينية من المتطلبات الحيوية. وفي بريطانيا دعا تيار مناهض للإكليريكية إلى تقوية «النزعة العلمانية». وقد أسس دعاة هذا التيار المجتمع العلماني الوطني National Secular Society تترجم الوثائق الدولية كلمة «علمانية» ب«Secularism» والعكس بالعكس. ويقدم منظرو العلمانية ثلاثة مؤشرات للتعريف بالكلمة: حرية المعتقد، المواطنة اللائكية (بمعنى أن الحقوق والواجبات لا علاقة لها بالانتماءات وبالمعتقدات الدينية)، وأخيرا الفصل لما تتأتى شرعية الدولة من مصدر لائكي ينبني على موافقة المحكومين، مقابل حفاظ الدولة على حيادها، أي لا تدافع ولا تمول أي تيار ديني. الدرجة صفر للعلمانية من بين الأسئلة التي انكبت على مناقشتها إحدى حلقات هذه الندوة إشكالية التوافق أو عدمه بين الإسلام والعلمانية. وقد أجمعت العديد من المداخلات على أن الإسلام لا يشكل عائقا أو حاجزا في وجه تطور مسلسل العلمانية. ذلك أن الفصل بين الديني والدنيوي ليس في حد ذاته مشكلا لأن العلاقة تتم بواسطة الكلام، الذي هو الواسطة بين الخالق والمخلوق، وأن القرآن وسيرة النبي يسيران في هذا الاتجاه (القرآن بصفته وحيا منزلا بلغة يفهمها البشر). وتشير الآية «لا إكراه في الدين» إلى أن الإنسان مسؤول عن أقواله وأفعاله، وإلى أن الدين مسألة شخصية. كما أكد الرسول على فكرة أنه لا يعدو كونه بشرا وبأنه لا يمكنه ضمان التطبيق الحرفي للقوانين. فهم الخلفاء الراشدون أنه ليس بمستطاعهم تحمل أي مسؤولية دينية. أول دولة في الإسلام كانت دولة شعبية بلا أسس دينية. وقد ركز الخلفاء جهودهم على الفتوحات لنشر الإسلام. أما على مستوى تسيير المجتمعات، فقد حصل اختلاط بين التعاليم الدينية والعادات والمعتقدات القبلية، فالأمويون تصرفوا كما لو كانوا قادة قبائل، ولم يظهروا إلا اهتماما ثانويا بالمسائل الدينية. أما العلماء فلم يتدخلوا ألبتة في شؤون الدولة. مع العباسيين تم تسخير الدين لإضفاء الشرعية على سلطتهم، فأيديولوجيتهم تعارضت مع الإسلام، الذي يحرم منطق العشائر. تحت سيادتهم تمت مسرحة الدين من خلال إعادة تأويل رموز الإسلام. كان الهدف من هذه المسرحة تهيئة الشعب لتلقي الرسالة السياسية كرسالة ربانية. بدءا بهذه الفترة، أصبحت طاعة الخليفة رديفا لطاعة الخالق والعكس بالعكس. وسبق للخليفة المنصور أن أشار في إحدى خطبه إلى أنه «ظل الله على الأرض». وقد تحدث كمال عبد اللطيف في هذا الشأن عن «تسييس الرباني» و«تأليه السلطة». وقد ساهم العلماء في تقوية سلطة الخلفاء العباسيين بإدماجهم القواعد الأخلاقية في القواعد القضائية والحقوقية. بعد العباسيين أخذ الدعاة الكلمة والسلطة باسم الخالق ليركبوا على الأزمات الاجتماعية حتى يحصنوا نفوذهم. وبهذه المناسبة تم الرفع من قيمة المرحلة المدنية على حساب المرحلة المكية. كما أضفيت صبغة النموذجية على شخصية الرسول. وطيلة قرون، عمل العلماء على تسخير الرموز الدينية كما ساهموا في ترسيخ سلوكات الاستسلام والطاعة. واليوم تشيع بعض الأدبيات الإسلامية، عبر الفيديوهات ومواقع الإنترنت دلالة واحدة للقرآن، وهي دلالة تستحسنها آذان الشباب المسلم، دلالة تمكنها من مواجهة إمبريالية يعتبرونها ظالمة ومشينة. الشباب متعطش، اليوم، للانخراط في الحداثة، وفي القيم الاستهلاكية. لكن في غياب حرمانه من الثقافة والشغل، قد يتجه هذا الشباب صوب دعاة يستغلون ضعفه ويسخرونه لمثل عليا زائغة. يشكل هذا النوع من الأسلمة خطرا على العلمانية، التي لا تتعارض في الحقيقة مع الإسلام. كما أن المثقفين المستقلين هم عرضة أحيانا للتهديدات ويعتبرون كفارا وزنادقة. وحتى النساء لا يفلتن من هذه التهديدات.
العلمانية والتطورات التي يعرفها العالم الإسلامي بعد أن ناقشت المداخلات مسألة العلمانيات، بعد عرض مقارن لتداخل نماذج العولمة في أوروبا وتحليل رهاناتها بجنوب المتوسط، تركز النقاش حول الطابع المعقد للتطورات في العالم الإسلامي ومختلف أقطابه ونماذجه، ليخلص إلى الفكرة الرئيسية القائلة بأن العالم الإسلامي هو قيد التحول تحت مفعول حداثة اجتماعية داخلية وتحت مفعول العولمة. ينفتح على نوع معين من العلمانية، مختلفة عن تلك التي عرفتها أوروبا، علمانية متوافقة أحيانا مع الدين مثلما عليه الحال في تركيا. على أي، وكما أشار محمد الصغير جنجار، توجد بالكاد دينامية علمنة في البلدان العربية الإسلامية من الضفة الجنوبية للمتوسط. ويلاحظ بالفعل أن تسيير وتحكم الدولة في التوترات المتأتية عن هذه الدينامية غالبا ما تنتج بعضا من النجاعة الاجتماعية لما هو ديني. من جهة أخرى، فإن مسلسل العلمنة يولد داخل الحقل الديني توترات داخلية. من شأن هذه التوترات أن تقود عموما الدين إلى إعادة النظر وإلى البحث عن تقليص طموحاتها الاجتماعية. يجب إمعان النظر في هذا المعطى بشكل عميق من خلال جميع المحاولات النظرية الساعية إلى تحديث الإسلام، وأيضا من خلال التحولات التي تعرفها القيم، والتصورات والممارسات الدينية في جنوب المتوسط، يقول جنجار.