لماذا قفز موضوع المرجعية الدينية في التشريع المغربي بقوة حين طُرحت مسودة مشروع القانون الجنائي؟ هل هو قانون للحلال والحرام؟ هو لم يقفز، ولكن تم إبرازه من طرف فئة لها موقف وحساسية مع المجتمع المغربي ومرجعيته الثقافية بما في ذلك دينه وأعرافه وتقاليده. ومن حق هذه الفئة أن تكون لها مواقفها وحتى حساسيتها هذه، ولكن ليس من حقها أن تفرض توجهاتها على المجتمع بكامله. ولذلك، فالسؤال الحقيقي هو: لماذا تريد هذه الفئة المحدودة جدا أن تفرض على مجتمع بكامله أن يتنكر لمرجعياته الفكرية والثقافية والدينية؟ إذا كانت تريد إقناع المجتمع بوجهة نظرها، فلها ذلك وفق مسار ديمقراطي لا مجال فيه لتوبيخ المجتمع على مرجعيته أو للاستبداد، خصوصا استبداد الأقلية. أما لماذا أثير هذا النقاش حول المرجعية؟ فلأن هذه الفئة تستغل كل الفرص لتطرح آراءها الرافضة لمرجعية المجتمع الذي تعيش فيه، فهي تعاني من اغتراب فكري وإيديولوجي، وعوض أن تراجع اغترابها هذا تريد الهيمنة على المجتمع بأفكارها، وهذا غير ممكن ليس في المغرب فقط، بل في كل المجتمعات، حيث تستند كل التشريعات إلى ثقافة المجتمع ومرجعياته دون احتقار للأقليات والفئات. لماذا لا يثار موضوع المرجعية الدينية في قوانين أخرى رغم علاقتها بأحكام دينية، مثل قوانين التجارة والأبناك وتضريب الخمور..؟ تعودنا في كل مناسبة أن تثار مسألة المرجعية، ولكن قوة إثارتها تتفاوت بشكل يتناسب مع الظروف، أي مع حجم بروزها في التشريع أو التدبير الذي تتم مناقشته، فهي إذن تثار في كل المناسبات، ولكن المراقب والمتابع قد لا يلمسها إذا لم يكن التشريع ذو طابع مجتمعي بارز، فقد أثيرت عند مناقشة مدونة الأسرة وخطة إدماج المرأة في التنمية، وأثناء مناقشة قانون كفالة الأطفال، وكذلك حين مناقشة القانون البنكي الذي يتضمن قسما عن البنوك التشاركية، وعند مناقشة موضوع الإعدام، وأثناء مناقشة دفاتر التحملات الخاصة بوسائل الإعلام المرئية… وستبقى تثار مستقبلا، وفي كل المناسبات، ولكن ستتفاوت درجة إثارتها حسب حساسية الموضوع ودرجة ارتباطه بالمجتمع، فكلما كان الموضوع أكثر ارتباطا بالفكر والثقافة والمجتمع، كلما كانت الإثارة قوية أو العكس. إلى أن تتفهم هذه الفئة أنه لا يمكن لأي مجتمع أن ينفصل عن مرجعيته، وبالتالي، فهذا ينطبق على المجتمع المغربي. أليست هناك بعض الانتقائية حتى داخل التشريع الجنائي، حيث يتم مثلا تجاوز ما يعرف ب«الحدود» في مقابل التركيز على الحكم الشرعي في مواضيع مثل الإجهاض والفساد..؟ أولا، لا يوجد في القانون الجنائي «حدود» بالمعنى الفقهي للكلمة. ثانيا، المرجعية التشريعية للقانون الجنائي ليست فقهية أو شرعية، بل هي مرجعية وضعية. لكن ضمن هذه المرجعية الوضعية تستصحب المرجعية الثقافية والدينية للمجتمع كما قلنا، وإلا لو كان القانون الجنائي مرجعية «فقهية شرعية»، لكنا بصدد مناقشة «الحدود» كما قلت. لذلك، لا يمكن، وفقا للمرجعية العامة، أن نتجاوز نظرة المجتمع إلى بعض القضايا المهمة مثل: الإجهاض والإعدام والعلاقات الجنسية غير الشرعية، كل هذا في ترابط مع الدستور وقوانين أساسية أخرى، وعلى رأسها مدونة الأسرة، وما يتعلق بالنسب والأبوة والأسرة، وهذه القضايا أثيرت في كل المجتمعات الأمريكية والأوروبية عند مناقشة مواضيع مثل هذه. ألا يتعارض الارتهان للأحكام الدينية والفقهية مع المنطق المؤسساتي للديمقراطية الذي يفترض إصدار القوانين بناء على مداولات وتصويت البرلمان؟ لا يوجد هناك ارتهان، كما لا يوجد انفصام، فباستثناء بعض القوانين القليلة، ومنها مدونة الأسرة التي تقنن أحكاما «فقهية شرعية»، فإن معظم القوانين المغربية لا تأخذ أحكامها من «المنظومة الفقهية الشرعية»، ولكنها تراعي عدم مخالفتها ما أمكن، أي أنها تأخذ بها كمرجعية لأنها مرجعية المجتمع ولا تأخذ بها كمصدر للتقنين والتشريع. ولذلك، فعلى سبيل المثال حينما نوقش قانون كفالة الأطفال المهملين تمت مراعاة هذه المرجعية دون الأخذ بكامل أحكامها حرفيا. وبالمناسبة، فقد أصبح هذا القانون مرجعية عالمية إنسانية في بابه، حيث اتصلت بنا كثير من سفارات الدول الأجنبية لتقتبس منه في تشريعاتها التي تعرف مفهوم التبني ولا تعرف مفهوم الكفالة، إذ اقتبس منه البعض ما يناسب مجتمعه ومصلحته. من جهة أخرى، لا يوجد تعارض بين الاستناد إلى مرجعية المجتمع وبين مناقشة القوانين في المؤسسة التشريعية، لأن أفراد هذه المؤسسة هم أنفسهم جزء من المجتمع ولهم المرجعية المجتمعية نفسها، ولا يمكنهم أن ينفصلوا عنها أبدا ولو بنسب متفاوته، وإلا انفصلوا عن مجتمعهم وحوسبوا مجتمعيا وسياسيا وانتخابيا على انفصالهم هذا، وهذا ما لا يرغب فيه أحد ينتمي إلى هذه المؤسسات لحد الآن على الأقل. فالديمقراطية في أحد مفاهيمها الأساسية هي أنها حكم الأغلبية، والأغلبية مسلمة مؤمنة فعلى من يمثلها ألا يتنكر لإيمانها وإسلامها، بل ينبغي أن يكون أول المتشبثين بالمرجعية والمدافعين عنها، والدستور نفسه حسم هذا الأمر بالنص على المرجعية الإسلامية للدولة المغربية، وبالتالي مؤسساتها. *عبد السلام بلاجي: برلماني عن حزب العدالة والتنمية