ثمة عقدة محكمة الربط لا تكاد تنفك لدى بعض الحساسيات الحقوقية والنسائية، فكلما أثير النقاش حول مدونة الأسرة وتقييم حصيلة تطبيقها، وأثرها في تحقيق الإنصاف داخل الأسرة المغربية، يثار النقاش حول الازدواجية القانونية في المغرب بين سلطة الشريعة وسلطة القانون الوضعي، بل توجه النقد المباشر إلى الشريعة، كما ولو كانت مشكلة المرأة والأسرة في الواقع المغربي معلقة على الشريعة، وأن الطريق السالكة لتحقيق الإنصاف والمساواة، يمر بالضرورة عبر بوابة إلغاء الشريعة، حتى تساءلت أحد أعضاء جمعية "عدالة" في ندوة خصصت للموضوع، بكل جرأة، عن الداعي الذي يجعل مدونة الأحوال الشخصية في المغرب وحدها تحتكم للشريعة وتشكل الاستثناء من بين القوانين الأخرى التي تحتكم إلى القانون الوضعي، معتبرة أن المعيقات التي تحول دون تطبيق مبدأ الإنصاف و المساواة كلها مرتبطة بالشريعة، ممثلة لذلك بتعدد الزوجات وزواج القاصرات، وتطليق الشقاق، وآليات الصلح، وإسقاط الحضانة وغيرها! والحقيقة، أن النقاش على هذا المستوى لا يفزع، لاسيما وأن معظم النقاط التي تطرح بهذا الشأن مرتبطة بالاجتهاد الفقهي أكثر مما هي مرتبطة بالنص الشرعي، مما يعني أن النقاش المفيد كان ينبغي أن يكون تحت سقف المدونة وليس خارجها، أي ضمن المرجعية التشريعية التي احتكمت إليها لا خارجها. وحيث إن النقاش اختار وجهة أخرى، بالتقاط قضايا باتت اليوم تمثل أولويات المنظمات الحقوقية الدولية المنشغلة بمقاربة النوع والمساواة بين الجنسين، ومحاولة وضعها في دائرة التركيز والاستهداف، والانطلاق منها لاستهداف مرجعية تشريعية وطنية بزعم أنها تمثل الاستثناء الذي ينبغي أن يقاوم حتى يصير التشريع القانوني المغربي كله على سنن واحد، وضعيا لا موقع فيه للشريعة، فإن القضية تطرح علامة استفهام كثيرة لا نحب أن نخوض فيها حتى لا نتهم بعقلية المؤامرة. المنطق البسيط والسليم، يقتضي أنه إذا كانت هذه القضايا التي تنتسب أغلبها إلى الاجتهاد الفقهي تضر بمبدأ المساواة والإنصاف - بزعم بعض الحساسيات الحقوقية- ، فهل هذا يبرر الدعوة إلى التخلي عن مرجعية الشريعة كأساس تشريعي لمدونة الأحوال الشخصية، أم أن ذلك مدعاة إلى البحث من داخل المرجعية الإسلامية عن اجتهادات أرجح تناسب أكثر الواقع المغربي ومتطلبات الإنصاف داخل الأسرة المغربية؟ المنطق السليم كان يقتضي أن يفتح النقاش أولا داخل المدونة ومن داخل مرجعيتها التشريعية حتى ستنفذ الغرض من فضاء اجتهادها الرحب، لا أن يتم بهذه السرعة الحكم على الشريعة بأنها عائق أمام المساواة لتبرير الاحتكام إلى القوانين الوضعية في مدونة الأحوال الشخصية. والحقيقة أنه لا شيء يبرر هذا الاستعجال في الاستنتاج، سوى أن القناعة جاهزة، وأنها ربما سابقة عن الواقع وعن تقييمه، وأن الأمر لا يتطلب سوى البحث عن مؤيدات صغيرة أو كبيرة لتبرير مطلب إلغاء الشريعة كمرجعية لمدونة ألأسرة المغربية. والمفارقة، أنه في الوقت الذي يتم فيه البحث عن تحقيق الإنصاف والمساواة، لا تتم المبالاة بالبدائل التي يتم طرحها وأثرها على الهوية والانتماء وعلى قواعد الاجتماع المغربي وعلى بينة السلطة وهويتها السياسية والدينية، وغيرها من القضايا الاستراتيجية التي تشكل المرجعية الإسلامية لحمتها الأساسية. نعم، من حق هذه الحساسيات الحقوقية أن يكون لها تقييمها الخاص، ومن حقها أيضا أن تخلص إلى أن المشكلة هي في الشريعة لا خارجها، لكن، هذا الحق الذي تملكه هذه الحساسيات، لا يختلف في شيء عن حقوق الأقلية المجتمعية التي يكفل لها القانون الحق في التعبير، ولا يكون لرأيها أي ثقل يذكر ما لم تكن له قاعدة اجتماعية تسنده وتقره ضمن الآليات الديمقراطية المعروفة. معنى ذلك، أن على هذه الحساسيات الحقوقية التي انتهى علمها إلى أن مدخل الإنصاف والمساواة يكون بنبذ الشريعة في مدونة الأحوال الشخصية أن تتحول من الرهان على الإسناد الخارجي لأطروحاتها إلى المهمة الصعبة المتمثلة في النزول إلى الشعب، ومحاورة أطيافه الواسعة بدل إرسال المواقف من قاعات فنادق خمس نجوم. دعوا أجندات المنظمات الدولية جانبا، فالكل يدرك أنها تريد أن تشطب التشريعات الوطنية بأسرها، وتستبدلها بما يوائم فهمهما وتأويلها لمرجعية حقوق الإنسان، ثم حددوا الإشكالية بدقة، وانزلوا إلى حيث يوجد الشعب، وباشروا مهمتكم الصعبة، ثم مارسوا بعد ذلك تمرين تقييم الحصيلة، وربما تدركون أشياء مهمة تفيدكم في ترتيب مهامكم النضالية القادمة.