سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
على هامش تعيين السيد امحمد بوستة على رأس اللجنة الاستشارية الملكية المكلفة بإصلاح مدونة الأحوال الشخصية..قراءة في الابتزاز السياسي والتوظيف الإيديولوجي لبلاغ الديوان الملكي
عاد النقاش من جديد حول قضية "الاجتهاد" على إثر تعيين رئيس جديد للجنة الاستشارية الملكية المكلفة بإصلاح مدونة الأحوال الشخصية، الذي اعتبر البعض أنه جاء نتيجة لفشل رئيسها السابق السيد الضحاك في تجاوز الخلافات بين بعض أعضائها حول بعض القضايا العالقة. كما تجددت التعليقات التي صاحبت إحالة الخلاف حول بعض القضايا التي كانت قد أثارتها "الخطة" المعلومة، إلى التحكيم الملكي، وكذا الانتقادات التي وجهت ل"حكومة التناوب" بسبب فشلها في إدارة ملف "الخطة المعلومة". والشيء ذاته بالنسبة لتركيبة اللجنة التي يبدو أن بعض الأطراف المتحمسة جدا لأوطروحات مؤتمر بيكين، ذات الصلة بعولمة القضية النسائية وفق المنظور الغربي الجندري بخلفياته وتوابعه التصورية والفلسفية، قد سعت بعد تشكيل اللجنة مباشرة والآن بعد تعيين رئاستها الجديدة لممارسة الضغط عليها في اتجاه استصدار المواقف نفسها التي رفضها الشعب المغربي في مسيرته المليونية بالدار البيضاء. الأطراف المذكورة تسعى هذه الأيام إلى أن تركب على البيان الصادر عن الديوان الملكي بمناسبة تعيين السيد امحمد بوستة رئيسا جديدا للجنة المذكورة، وذلك بالتركيز على الشق الثاني منه الذي يقول "بما يتوافق مع المواثيق الدولية كما هو متعارف عليها عالميا" وهي الصيغة التي تضمنتها ديباجة دستور المملكة وإغفال الشق الأول أي "إعمال الاجتهاد فيما لا يتنافى مع نصوص الشريعة الثابتة وأحكام الشريعة السمحة"، وذلك على طريقة "ويل للمصلين". بل لقد ذهب البعض منها إلى التأكيد على أن تركيبة اللجنة الحالية تضع عراقيل حقيقية أمام التوجهات الملكية! وهو ما يدل دلالة واضحة على درجة إيمان وتشبع هؤلاء بحق "الاختلاف" و"التعدد" و"الديموقراطية" التي لطالما عليها تباكوا وانتحبوا، وفي إشارة ضمنية إلى التخلص من بعض العلماء والشخصيات التي مهما تكن درجة اتفاقنا واختلافاتنا معها وجب توقيرها واحترامها وقبول رأيها باعتباره رأيا مخالفا. هذا إذا كان مجرد رأي اجتهادي يقبل الأخذ والرد فما بالك إذا كان الأمر يتعلق بحكم شرعي ثابت لا يجوز للعالم فيه أن يغير أو يبدل. الحملة المذكورة تقتضي وقوفا عند ثلاثة ملاحظات: الملاحظة الأولى تتعلق بالمواثيق الدولية المتعارف عليها عالميا التي جاءت في ديباجة الدستور، فالدستور ينبغي أن يقرأ باعتباره نصا متكاملا. فالمغرب إذ ضمن ديباجة الدستور ذلك التنصيص كان على حق إذ لا يمكن لدولة إسلامية إلا أن تكون مع كل حكمة إنسانية، والحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها وهو ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم عمليا حينما دخل في حلف الفضول وزكى ذلك الحلف بعد بعثته صلى الله عليه وسلم حينما قال: >لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم< وفي رواية >ولو دعيت به في الإسلام لأجبت< لكن هذا إقرار المغرب باحترام حقوق الإنسان كما هي متعارف عليها عالميا، يتضمن في الوقت نفسه تأكيده على حق التحفظ حول كل ما يتعارض مع مبدإ إسلامية الدولة، أي حول كل ما ليس متعارف عليه عالميا. ومن المعلوم أن خطة بيكين و"اتفاقية مكافحة كل أشكال التمييز ضد المرأة" لا تدخل في هذا "المتعارف" عليه عالميا إذ تحفظت عليها الدول الإسلامية وكثير من الدول الغربية نفسها بما فيها الولاياتالمتحدة وحظيرة الفاتيكان. والملاحظة الثانية وترتبط بالأولى تتعلق بالتعارض بين المرجعية الإسلامية والمرجعية العالمية، وإلى أيهما ينبغي أن نعطي الأولوية والأسبقية في هذه الحالة؟ يجيب أنصار خطة بيكين والحركات النسوانية، أن المغرب ملزم بحكم الديباجة المذكورة بإعطاء الأولوية للمرجعية (الكونية) (ونضع الكونية بين قوسين والواقع أنها المرجعية الغربية المملاة والمفروضة) أما الوسيلة إلى رفع هذا التعارض فيجيب أولئك أنها هي "الاجتهاد"! فالاجتهاد الذي ينادي به هؤلاء في هذه الحالة لا يغدو ضرورة تمليها حاجات واقعية ومجتمعية حقيقية، بقدر ما تمليها الرغبة في مسايرة التوصيات الدولية وإرسال التقارير إلى الجهات الدولية "المانحة" حول التقدم في إنجاز "خطة العمل"، وهي التقارير الأقرب إلى التقارير المخابراتية والوشاية بالدولة والمجتمع المحليين الساعية إلى الاستقواء بالغرب من أجل فرض تغييرات اجتماعية وقانونية قسرية. غير أنه من الإنصاف القول إن هناك عدة قضايا في المدونة تحتاج إلى "اجتهاد" وتطوير. وإيمانا منا بأن المدونة ليست نصا مقدسا فقد تقدمنا، سواء في إطار حركة التوحيد والإصلاح أو في إطار حزب العدالة والتنمية، بمذكرتين مفصلتين تضمان جملة من الاقتراحات التي نرى من اللازم العمل بها من أجل إنصاف المرأة (انظر ملخصا عن أهم ما ورد في المذكرتين مع هذا العدد)، لكن الحديث عن "الاجتهاد" يستبطن أمرين متلازمين: أولا التسليم بالمرجعية العليا للشريعة الإسلامية والانطلاق منها أساسا دون غيرها في السلوك الفردي والجماعي، وفي صياغة المواقف والتوجهات بما يستلزمه ذلك من علم بأحكامها ومقاصدها، والاستعداد في حالة تبين قطعية أحكامها إلى جعلها فوق هوى النفس والإذعان والتسليم لها، وتلك علامة من علامات الإيمان كما في قوله تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما). أما أن يكون الحديث عن الشريعة حديث المنافقين الذين قال فيهم تعالى: (وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وإن يكن لهم الحق ياتوا إليه مذعنين أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون). أما أن يكون الحديث عن الشريعة حديث المنافقين الذين يظهرون الانطلاق من الشريعة عندما يكونون في مواجهة الشعوب الإسلامية ثم إنهم إذا خلوا إلى أوليائهم ومناصريهم ممن يريدون استتباعنا وإخضاعنا للرؤية الغربية للحياة والمجتمع وذلك ما ينطبق فيه قوله تعالى: (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين) فإن ذلك يكشف دعوى من ينسبون أنفسهم إلى "الحداثة" إلى إعمال آلية الاجتهاد ويكشف عن المقصود ب"الاجتهاد" أي الاجتهاد لتطويع المرجعية الإسلامية للمرجعية العالمية العولمية.. ثانيا: امتلاك آليات الاجتهاد وشروطه وأدواته، والواقع أن كثيرا ممن يتحدثون عن الاجتهاد ليسوا كذلك. وإذا كنا نسلم أن مشكلة "الاجتهاد" هي مشكلة حضارية، ومشكلة أمة ككل فإنه تنبغي الإشارة إلى أمرين: هو أن اهتمام دعاة "الاجتهاد" الجدد بالشريعة وقضية "الاجتهاد" ليس اهتماما أصيلا نابعا من حرصهم على الشريعة وصلاحيتها الدائمة لكل زمان ومكان، وهو ما يتحقق من بين ما يتحقق به بالاجتهاد الذي يقف على أرضية الثقافة الإسلامية والاعتزاز بها، وكثير من أولئك إما خصوم إيديولوجيون لزمن طويل للعقيدة والشريعة بحكم انتماءاتهم الإيديولوجية الماركسية، وإما ماركسيون قدامى تأمركوا أو أصبحوا يتبنون الأطروحات الليبرالية وسموا أنفسهم "حداثيين". والدليل على ذلك أنهم يتمنون لو عطلت أحكام المدونة أصلا وأصبح التحاكم في مجال الأحوال الشخصية أصلا للقوانين الوضعية، ولو كانوا حقا من أنصار "الاجتهاد" لدعوا إلى تنزيل أحكام الشريعة وفق مقتضيات العصر في غيرها من القضايا الاجتماعية، على مستوى الاقتصاد والاجتماع والثقافة والفن... الخ فالاجتهاد انتصار لمبدإ المرجعية العليا للشريعة وعلوها على غيرها من المرجعيات... وشتان بين الدعوة إلى الاجتهاد من هذا المنطلق أي الاجتهاد الناصر لمبدإ الشريعة والاجتهاد المنافق الذي يروم التحلل من أحكامها، أي الاجتهاد الناصر لمرجعية الشريعة الدولية. إن اهتمام هؤلاء بقضية "الاجتهاد" ليس نابعا من الرغبة في الإجابة على إشكاليات حقيقية منبثقة من المشاكل الحقيقية التي يعانيها المجتمع المغربي، أو مستحضرة للمآلات التي أدى إليها الأخذ بمفردات توصيات بيكين في واقع المجتمعات الغربية من تفكك أسري واجتماعي وشذوذ جنسي وأمراض خلقية وجنسية وقضايا شائكة لا تكاد تنتهي في المحاكم الغربية، والتي أصبحت مصدرا كبيرا من مصادر اغتناء المحامين في الولاياتالمتحدة مثلا، وإنما هو نابع من الرغبة في تطويع الأحكام الشرعية لتتلاءم مع التوجهات العولمية في مجال الأسرة وأحكامها، إنه كما قلنا أعلاه اجتهاد ناصر لمرجعية الشريعة العولمية على حساب الشريعة الإسلامية. وهو ما يقصدون بتركيزهم على إضافة صفة "السمحة" للشريعة، أي يقصدون شريعة لا لون لها ولا طعم وقابلة كما يقول الحلاج لكل صورة، لقد صار قلبي قابلا لكل صورة فمرعى لغزلان ومعبدا لأوثان فهي شريعة لا تحرم الخمر ولا الربا، ولا يستنكر المنتمون إليها المدافعون عنها الفسوق والعصيان والعري وهي شريعة ترى أن من "الحداثة" الدفاع عن البورنوغرافيا والشذوذ في السينما وأن استنكار ذلك هو من التطرف و"الأصولية" ومن عدم التسامح...وهلم جرا.. وإذا فعل ذلك غيرهم من الإسلاميين فلهم من الأوصاف ما يتفنن فيه ويجيده دهاقنة "الحداثة" المكذوب عليها مثل: الرجعيين، والظلاميين، والماضويين... الخ. الملاحظة الأخيرة تتعلق بالسعي إلى الركوب على بلاغ الديوان الملكي وتقويله ما لم يقل. فقد تابع الجميع كيف حاولت بعض الجمعيات النسوانية ممارسة الضغط على اللجنة الاستشارية الملكية لإصلاح المدونة من خلال سيل من البيانات واللقاءات والتصريحات. وشاهدنا طيلة مدة كيف انتقدت بعض الجهات الإعلامية ذات التوجهات المعروفة في موقفها من الملكية المغربية حكومة اليوسفي للجوئها إلى "التحكم" الملكي، وللمسار الذي آلت إليه قضية النقاش الدائر حول إصلاح المدونة، عندما تم إنشاء اللجنة المذكورة، واعتبرت ذلك انتكاسة لأنصار الخطة ودعاة التحديث المفترى عليه، وهاهي ذي الجهات نفسها تسعى اليوم إلى محاولة ممارسة نوع من الابتزاز السياسي إلى أقصى قدر ممكن، وكفت عن الحديث عما كانت تروج له من أن الملكية بحكم تكوينها لا يمكن إلا أن تكون تقليدية ومحافظة غير قاردة على الاستجابة لتطلعات "التوجهات المجتمعية الحداثية"، والمقصود بطبيعة الحال هنا فئة قليلة من الجمعيات النسوانية المغربية التي تتكلم باسم نساء المغرب دون توكيل لهن من أولئك النساء. وهاهي ذي اليوم تتحدث عن "ملكية حداثية" وتسعى إلى إبراز الشق الثاني من بلاغ الديوان الملكي وإشارته إلى الالتزام الدستوري للمغرب المواثيق الدولية على طريقة ويل للمصلين. لكن ما لا يعلمه هؤلاء هو أن الملكية المغربية لم ولن تساير يوما أهواءهم العلمانية والعولمية كما أنها لا يمكن أن تتحول إلى ملكية بورقيبية لأنها بذلك ستضرب الأسس التي قامت عليها شرعيتها الاجتماعية وخصوصيتها التاريخية. لذلك فالاجتهاد الذي من خلاله يمكن أن نعيد به الاعتبار للمرأة في المجتمع المغربي هو الاجتهاد الذي لا يخرج عن أحكام الشريعة القطعية ومقاصدها الكلية، التي ترجع الكلمة فيها للعلماء المجتهدين حقا الذين ينطلقون في اجتهادهم من اعتبار مقاصد الشريعة الإلهية أولا، لامن مقاصد الشريعة الدولية ومن الحاجات الحقيقية للمجتمع المغربي ومراعاة لواقع هذا المجتمع. والملكية المغربية التي قامت على أساس الدين وتجعل من الوظائف الرئيسية للملك، باعتباره أمير المؤمنين، حماية الملة والدين، لا يمكن سواء في الحال والاستقبال أن تجعل من الاجتهاد ليًّا لأعناق النصوص الشرعية، كي تتماشى مع الشريعة العالمية ومع أهواء المنظمات النسوانية. وذلك ما يفهم من بلاغ الديوان الملكي وهو ما ينبغي أن تحرص عليه الرئاسة الجديدة للجنة الاستشارية الملكية المكلفة بإصلاح مدونة الأحوال الشخصية. وذلك ما سيحرص عليه دون شك السيد امحمد بوستة داخل اللجنة مع مراعاة الروح والفلسفة التي بنيت على أساسها اللجنة، أي العمل الجماعي والتقريب بين جميع الاجتهادات في إطار روح الشريعة ومقاصدها ومن مقاصدها دون شك ولا ريب تحقيق العدل وإنصاف المرأة، لا أن يبدأ بطرد المخالفين في الرأي ومطالبتهم بالاستقالة كما دعا إلى ذلك السيد عبد الهادي بوطالب فيما نقلت عنه "الأحداث المغربية" إن صدقت!! ذ.محمد يتيم