منذ أيام، رحل الرئيس الأمريكي جيمي كارتر، الذي كان يؤمن بضرورة أن يكون للجزائر "دور للقيام به"، وكانت أجهزته تعمل في هذا الأفق، وعيا منها أن "جزائر بدون دور هي عامل فوضى". وصلت القناعة إلى درجة أن كارتر كان قد منع المغرب من استعمال السلاح والعتاد الأمريكي الذي حصلت عليه الرباط في إطار اتفاقية 1960.. هذا التذكير لا يعني بأن الأوضاع ظلت كما هي، لكن الفكرة الرئيسية عن قناعة الأمريكيين بالدور الجزائري ظلت قائمة، بل يمكن القول بأنها ظلت قائمة إلى حدود ولاية بايدن الموشكة على الانتهاء. ولم تغب الجزائر كلاعب أمريكي (أوباما ومن سبقه من الديموقراطيين وفريقهم كانوا يميلون إلى مناصرة الطرح الانفصالي عبر مبعوثين أمميين كجيمس بيكر وكريستوفر روس مثلا).. ومع رحيل كارتر، نتذكر دائما أدوار الوساطة التي دفعت واشنطن (وعواصم غربية أخرى) بالجزائر للعبها في تونس، ليبيا، أو بين مصر وإثيوبيا. لا شك أن الكثيرين استحضروا الدور الذي كانت أمريكا تمنحه للجزائر (كما في قضية الرهائن الأمريكيين في طهران) الذي أفضى إلى مواقف جيمي كارتر الذي كان رأيه أن تعطى الجزائر أدوارا لشغلها وحتى لا تزرع الفوضى وتخلق النيران في جوارها.. وتغير الموقف في واشنطن مع تغير ساكن البيت الأبيض الذي جاء في سياق مخالف تماما، رافقه تغيير معطيات المعادلة في المنطقة وفي القارة. ولهذا تسابق الجزائر الزمن، قبل مجيء دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، لعلها تنجح في وضع ثقلها في ميزان المنطقة، لكن هوامش ذلك محدودة، وهي تتقلص مع قرب وصول ترامب… أولا: ظلت الجزائر تلعب على الحبلين، الإسباني والفرنسي، طوال مدة النزاع حول الصحراء. تاريخيا ظلت تتحالف مع إسبانيا تارة، وتفرض على فرنسا موقفا وسطا، والحال أن اللاعب الجزائري اليوم يشبه بهلوانا يتقافز في الهواء بعد أن سحب منه الحبلان الإسباني والفرنسي. ثانيا: خروج الدولتين المعنيتين من الحياد والبحث عن التوازن. وهو ما فسرته الطغمة الحاكمة بأنه تخل عن أي دور للجزائر في المتوسط وفي شمال إفريقيا، في منعطف تاريخي يغير كل معادلات المنطقة، منظورا إليها من زاوية النزاع المغربي الجزائري… فاللاعب الجزائري لم يفقد التوازن فقط، بل فقد دوره كلاعب مهم في المشهد، سقط في حوض المتوسط، ولهذا كان رد فعله قويا تجاه الدولتين معا، وأيضا توقعه للتغيير الذي يحصل في القضية موضوع النزاع، التي تكشف له ورقة تهديد جيوستراتيجي ليس للمغرب، بل للفاعلين الدوليين والإقليميين في المنطقة. علاوة على ذلك، يعني أي أفق للجزائر في محاربة المغرب شمالا كما فعلت دوما عبر تأجيج الصراع بينه وبين إسبانيا أو تقديم عروض لتأزيمه (حرب الإلهاء الشهيرة التي اقترحتها الجزائر علي إسبانيا فرانكو، والتي سبق أن نشرنا وثيقتها…). ثانيا :لا يمكن أن نفصل السلوك الجزائري إزاء دولة مالي، مثلا، عن مواقفها الفوضوية في فرنسا، سواء تعلق الأمر باعتقال بوعلام صنصال أو إطلاق جيوش الانترنيت وشيعتها إزاء المعارضين، وزرع الفوضى فوق التراب الفرنسي! وفي الشمال يصدق على فرنسا ما يصدق على باقي أوروبا، وهو التخوف من الهجرة التي قد يسببها وجود أزمة في البلاد الجارة، مصحوبة بوضع اقتصادي واجتماعي خانق .. لكن التساهل، الذي كان بسبب قوة الإزعاج التي كانت لدى الراحل معمر القذافي في زمن ما، وقدرته على خلق الفوضى، وتهديده الأوربيين بها، لم يستمر ولن يستمر، ومن الممكن أن يتكرر السيناريو نفسه مع الطغمة الجزائرية، وهو ما يبرر اللغة المتواترة والمتكررة حد الغثيان من أن الجزائر ليست سوريا، وليست أي دولة أخرى، وما يبرر الرهاب الذي يعلق بلغة النظام في كل حديث عن دور بلاده (القوة الضاربة). ثالثا، في أوروبا دوما:"النصيحة" الألمانية التي وردت في التقرير الذي تحدث عنه الملك، في 20 غشت 2021 (هناك تقارير تجاوزت كل الحدود، فبدل أن تدعو إلى دعم جهود المغرب، في توازن بين دول المنطقة، قدمت توصيات بعرقلة مسيرته التنموية، بدعوى أنها تخلق اختلالا بين البلدان المغاربية بإعطاء دور للجزائر وتوقيف نمو المغرب إلى حين تلتحق به الجزائروتونس)، لم تعد قائمة بتغيير موقف ألمانيا وخروجها من التقاطب الأورومتوسطي الذي كان سائدا، مما زاد من شعور الطبقة الحاكمة الجزائرية باللاجدوى.. رابعا: سعت الجزائر إلى محاولة لعب دور حاملة القلم في دول الساحل والصحراء! وتمنت الانتقال من دور الوساطة إلى دور"حاملة القلم"، في المنطقة المجاورة، ولا سيما مالي، فهي تتصرف كما لو أن لها تفويضا أمميا إذا استحضرنا أن الدولة"حاملة القلم" تترأس المفاوضات (اتفاقيات الجزائر 2015)، وتتخذ المبادرات بخصوص النزاع بما في ذلك المقابلات العاجلة ( استقبلت الأطراف التي تنازع الدولة المالية بدون حضورها في السنة الماضية) وتنظيم النقاشات المفتوحة . مالي التي رفضت في مارس السنة الماضية دور "حاملة القلم " من طرف فرنسا، ما كان لها أن تقبل الدور نفسه من الجزائر، ولعل هاته الأخيرة تمني النفس، في سياق الصراع مع باريس، بتعويضها بشكل كامل في البلاد. وكما حدث مع فرنسا تقدمت مالي بشكوى لدى مجلس الأمن ضد الجزائر باتهامها بالضلوع في زعزعة الاستقرار ودعم الانفصاليين واحتضان الإرهابيين. ولهذا نفهم التصعيد ضد فرنسا بما في ذلك التصعيد ضدها فوق ترابها! ولعلها تدرك بأن لا أحد يبحث لها عن دور، بما فيها الدولة التي تحتفظ بعقد ميلادها وخارطة حدودها الحقيقية. هذا الوضع، لو صادف دولة عاقلة، كان سيفرض عليها العمل من أجل تعاقد جديد مع المغرب، والتجاوب مع نداءات الملك من أجل عمل مستقبلي وطي صفحة الصراعات، ولعلها الفرصة الوحيدة لأجل لعب دور في المنطقة من أجل السلام ومن أجل الغد الطويل. هي لا تسمع، لأنها تعتبر بأنها ما زالت قادرة على الحكم والبقاء بواسطة الفوضى.. وهو خيار صعب أدت ثمنه أنظمة سبقتها، وهي تحلم بأن بمقدورها أن توقف الدينامية الدولية في الصحراء، وتجمد المسلسل السياسي، وتنجح في إقناع المجتمع الدولي بأن السلام مهدد بسبب إلغاء وقف إطلاق النار، وبالتالي لا بد من تغيير معادلات القضية، ومعايير الحل !