تمثل إشكالية الإفتاء في الواقع المعاصر وما تثيره من تفاعل متجدد بين السياسي والديني إحدى الإشكالات التي تؤثر سلباً وإيجاباً على التطور العام للحركة الإسلامية، إذ تؤدي درجة استيعاب الحركة للتحديات المرتبطة بها من جهة، ومستوى تفاعلها مع القضايا التي تثيرها من جهة أخرى إلى تحديد آفاق تطورها وامتدادها في المجتمع بمختلف فئاته ونخبه ومؤسساته، وكذا التحكم في مدى قدرتها على التحقق بمقتضيات التجديد والاجتهاد، أو الجمود على خطابات التقليد والمحافظة. نقف على أبعاد الخلاصة الآنفة الذكر من خلال تتبع مسار السنوات العشر الأخيرة من تطور تجربة المشاركة العامة للحركة الإسلامية بالمغرب عموما وحركة التوحيد والإصلاح خصوصا، وهو المسار الذي اكتسب زخما إعلاميا خاصا في الأشهر الأخيرة تداخل فيه ما هو علمي بما هو سياسي وإيديولوجي، خاصة بعد أن نظم المجلس العلمي الأعلى ندوة هامة حول الإفتاء بين الضوابط الشرعية والتحديات المعاصرة. في الماضي، كانت قضية الإفتاء تثار كأحد تجليات المنازعة في الشرعية الدينية بين الحكم والحركات الإسلامية في العالم العربي، خاصة في حالة النموذج المصري، لكن في الحالة المغربية نجد أن اعتمادَ قطاعٍ معتبر من الحركة الإسلامية لمرجعية المذهب المالكي، ثم نأي عموم مكونات الحركة عن تبني خيار الاصطدام بمؤسسة العلماء، بل ولجوؤها في الغالب إلى الارتباط بها والسعي نحو التعاون معها، ثم برز هذا التفاعل بشكل جلي في حالة النقاش الذي احتد في المغرب أثناء الإعلان عن مشروع الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية، والجدل حول شرعية التعديلات التي اقترحتها لمدونة الأحوال الشخصية (مدونة الأسرة حالياً)، وهو ما أدى تدريجياً إلى ضمور هذا الإشكال لمصلحة تصور يقوم على فكرة الجبهة الدينية التي تجمع في بنيتها مختلف الفاعلين المعنيين بقضية الهوية الدينية المغربية بغض النظر عن مواقعهم السياسية أو الحزبية أو انتماءاتهم الفئوية والمجتمعية. وعوضاً عن ذلك أخذ إشكال آخر في التبلور على مستويين، الأول يهم الدولة، والتي بدأت تلاحظ تنامي اللجوء إلى مؤسسات وهيئات الإفتاء خارج المغرب ليُسْر التواصل معها، واستعدادها للجواب السريع بفعل ثورة الاتصالات الحديثة، وبروز ظاهرة فتاوى الفضائيات بما يهدد سمات الهوية الدينية المغربية، خاصة أن الإفتاء عملية اجتهادية تفرض قدرة على استيعاب المتغيرات المعاصرة و المرتبطة بواقع طالب الفتوى. أما المستوى الثاني فيهمّ التدافع السياسي والمدني في المجتمع وتحوّل قضية الإفتاء ومضامينها إلى محور من محاور هذا التدافع، وذلك عبر التركيز على ثلاث إشكاليات فرعية،وذلك من خلال التشكيك في قدرة الحركة الإسلامية على تجسيد خطاب التجديد والاجتهاد الذي تحمله، وهو تشكيك يصل في بعض الحالات إلى الاتهام الصريح بانغلاقها من جهة أولى، ومواجهة ما يفترض تداخلا بين الديني والسياسي يؤدي إلى تمكين الحركة الإسلامية من عنصر تفوق في التنافس الانتخابي إزاء الأطراف الأخرى، إذ توظف آلية الإفتاء بحسب هذا الخطاب لتوسيع القاعدة الانتخابية من جهة ثانية، والسعي في حالات أخرى إلى إثارة إشكال التعارض بين الفتوى والقانون والالتزامات الخارجية للدولة والحق في إصدار فتاوى تقع في هذا التعارض، وهي اشكالات تم اللجوء الإنتقائي إلى بعض الفتاوى وبعضها تم تصحيحه من أجل الاستدلال على تلك المقولات. وهو تدافع برز في سلسلة من المقالات والحوارات الصحافية في الشهرين الماضيين بالمغرب، وارتكز على نقد سلسلة من الفتاوى التي صدرت في يومية التجديد، وحملت إجابات لعلماء من المجلس العلمي الأعلى أو المجالس العلمية المحلية عن قضايا طب التوليد والعمل في البنوك والتأمين التجاري وغيرها من القضايا ذات الإثارة الإعلامية، وهو نقد افتقد في عدة حالات احترام القواعد العلمية القائمة على مناقشة مضامين الفتاوى كما جاءت وليس تحريفها وتقويلها ما لم تقل مما حال دون تحديد الخطأ الذي قد يرد في بعض الفتاوى وسبل تجاوزه. لكن ما هي نتيجة هذا التدافع في مستوييه؟ سيكون من اللافت القول بأن المحصلة في عمومها إيجابية، مما يحمل ردا ضمنيا على الإشكالات المثارة آنفاً في التدافع، وذلك لاعتباراتٍ، أولها: حصول تعزيز الاهتمام بمرجعية الإفتاء في الحياة الدينية للمغاربة ومسؤولية الدولة عموما ومؤسسة العلماء خصوصا في النهوض به ودعم مؤسساته وتقوية استقلاليتها، وثانيها: تنامي تأكيد موقع المرجعية الإسلامية في الحياة العامة، والعمل على مناقشة الفتاوى عبر البحث على اجتهادات جديدة من داخل المرجعية، وثالثها: انحسار خطاب التوظيف الإيديولوجي والسياسي لهذا النقاش بعد أن كان بارزا في بداية هذا السجال، وظهور مخاطر التسييس على إقامة نقاش علمي هادئ، وفي مقابل ذلك تنشيط حركية التجديد في الوسط الديني، والدفع نحو إعادة التفكير في القضايا الفقهية المستجدة.