لقد هزت الصور والفيديوهات التي يظهر فيها مقاتلو الدولة الإسلامية وهم يقطعون الرؤوس العالم. المشاهد انطوت على منسوب عنف غير مسبوق، مع إصرار من المتطرفين على الذهاب بعيدا في إظهار القسوة. الضحايا في أغلب الفيديوهات كانوا في حالة استسلام قبل لحظات من قتلهم، ومن مارس فعل الذبح بدا ثابتا، في مشاهد طرحت أكثر من علامة استفهام على تناقضات تلك اللحظة المغرقة في الوحشية. «اليوم24» تحاول قراءة ما خلف الصورة الدموية، لتفهم نفسية القاتل والمقتول، والدلالات النفسية الثاوية خلف السلوك، والرسائل الاجتماعية والسياسية. «جئناكم بالذبح». هذا الكلام يعتبر أحد أهم الشعارات التي يرفعها مقاتلو تنظيم الدولة الإسلامية، المعروف اختصارا ب»داعش»، ومشاهد الذبح كانت أهم رسائل التواصل بين التنظيم والعالم، عبر فيديوهات وصور تتعمد إظهار القسوة والعنف. لقد شكلت عمليات الذبح التي يجري تعميمها على الإنترنت إحدى الرسائل القوية على ما يمكن أن يفعله التنظيم المتطرف بأعدائه ومخالفيه، وقد ركز على أن تكون الرسالة أقسى عندما يكون الضحايا من غير المقاتلين، بل مدنيين ينشط بعضهم في منظمات إنسانية وإغاثية، إذ وصلت سيوف مقاتلي «داعش» إلى رقاب رهائن أجانب من جنسيات مختلفة لا علاقة لهم بالمواجهات، وفي أحايين أخرى يمتد الذبح إلى مسلمين (سنة وشيعة) رفضوا الخضوع ل»أصحاب الراية السوداء». الزرقاوي أبو الدمويين في غشت 2003، نشر تنظيم القاعدة في بلاد الرافضين، الذي كان يتزعمه أحد أكثر المتطرفين دموية أبو مصعب الزرقاوي، فيديو لذبح رهينة أمريكي يدعى «نيكولاس بيرج». لحظتها كان الشريط صادما، خاصة وأن العالم لم يتعود على تلك المشاهد، وقد أثار استهجان العديد من المراقبين، وانبرى لتجريم هذا الفعل عدد من علماء الإسلام. بعدها نشر الزرقاوي رسالة شهيرة رد فيها على كل من استنكر عملية الذبح، محاولا التأسيس شرعيا لهذا السلوك، حيث قال: «بعد عملية »ذبح الأمريكيين على يد الدولة الإسلامية، بدأت أصوات المنهزمين والمنبطحين تعلو وتستنكر وكأن الدولة الإسلامية تتورع أصلا عن عمليات الذبح.. أرشيفها يعج بذبح الكفار والمرتدين.. ألم يقل نبينا وهو الرحيم الشفوق صلى الله عليه وسلم: «لقد جئتكم بالذبح»، فوجلت منها قلوب العتاة القساة من ملأ قريش، فهابوه وخافوه، وأقبلوا يسترضونه ويستعطفونه، وقد كانوا قبل ذلك يسخرون منه». هذا المقطع من رسالة الزرقاوي، والذي سمّاه «وصية إلى المجاهدين»، ظل أثره نافذا في منهج المقاتلين المتطرفين، ليصل إلى «داعش»، التي تعتبر الامتداد الإيديولوجي والجهادي لجماعة الزرقاوي. «اليوم24» سألت أحد مقاتلي الدولة عن أصول ومبررات هذه العمليات الوحشية، فلم يتردد في ترديد المعنى نفسه: «عدو صليبي حقود جاء بمخطط رهيب لإخضاع الأمة والتمكين لليهود، فحارب الشريعة، واغتصب الحرمات، وانتهك الأعراض، ألا يجوز في حقه أن يقام عليه حد الحرابة؟» ترهيب الداخل والخارج في شتنبر الماضي، فوجئ سكان مدينة الموصل العراقية بأعضاء تنظيم الدولة الإسلامية في الشام والعراق ينصبون تجهيزات وشاشة عملاقة وسط إحدى أكبر ساحات المدينة. مقاتلو التنظيم كانوا ينوون تشييد «دار للسينما» من نوع خاص في الهواء الطلق، عرضوا عبر شاشتها مقاطع فيديوهات لإعدام الرهائن. العرض الأول المرعب حضرته العديد من العائلات مرفوقة بأطفالها دون أن تكون على علم بما سيعرض، ما تسبب في صدمة للسكان، لكن رسالة التنظيم كانت واضحة لا لبس فيها: لا رحمة لمن يخالف ولا شفقة. من حضر هذا الاستعراض الدموي من سكان الموصل فَهِم المقصود، ووفقا لشهادة أحد السكان «فإن مقاتلي البغدادي لجؤوا إلى مثل هذه الخطوة لتخويف سكان الموصل وترهيبهم من فكرة مقاومة الدولة». غير أن رسائل «داعش» من عمليات الذبح تتجاوز الأهالي في مناطق نفوذها إلى الخارج الذي تعتبره «كافرا معاديا». الكاتب والحقوقي الجزائري، أنور مالك، كتب بعد نشر فيديو إعدام جيمس فولي، أول رهينة أمريكي يقتله «تنظيم الدولة»: «عمليات ذبح الرهائن الذين تعتقلهم «داعش» تتم على يد شخص بريطاني، وهي رسالة واضحة توجهها «داعش» للغرب الذي يغزو الدول ليقضي على ما يسميه بالإرهاب، غير أن هذا الإرهاب صار يأتي من دياره ويتخرج من مدارسه العلمانية ويكتوي به أبناؤه رغم زعمه أن أجهزته يقظة للغاية». وبعد ذبح موظف الإغاثة البريطاني، ديفيد هينز، صرح خبراء لقناة CNN الأمريكية «أن بث عمليات القتل الوحشية ليست سوى استراتيجية منخفضة التكلفة من أجل جذب أنظار العالم وتوسيع كوادر التنظيم القتالية». وكان من أبرز التعليقات التي أعقبت نشر فيديو ذبح هينز ما قاله بيتر نيويمان، أستاذ الدراسات الأمنية بكينغ كوليدج البريطانية: «داعش تنظر إلى عمليات الذبح كاسترايتيجية منخفضة التكلفة لجذب أنظار العالم وتجنيد أشخاص لم يعودوا بحاجة إلى الحديث عن تدمير أبراج مركز التجارة العالمي أو ضرب البنتاغون». وغير بعيد عن رسالة الترهيب، هناك تعليل آخر يُسوّقه مقاتلو البغدادي، يفيد بأن الذبح رد على من أرسل قواته لمحاربة الدولة الإسلامية في العراقوسوريا. وفي نهاية الأسبوع الماضي، أعلن تنظيم «داعش»، في شريط فيديو نشر على الإنترنت، أن ذبح الرهينة الأمريكي بيتر كاسيغ، الذي كان خطف في سوريا العام 2013، يأتي رداً على إرسال جنود أمريكيين إلى العراق. استراتيجية الذبح لدى تنظيم الدولة وسعت دائرة استهدافها لتتجاوز الأجانب الذين يسقطون رهائن في أيدي مقاتليه، ففي اليوم نفسه، الذي عرض فيه فيديو ذبح «كاسيغ»، عرضت مواقع موالية للتنظيم شريطا مصورا يوثق لعملية ذبح جماعية شملت 15 شخصا على الأقل، قالت «داعش»: إنهم عسكريون سوريون. عندما زارت « اليوم24» الأراضي السورية، في شتنبر الماضي، فوجئت يوم وصولها بخبر إعدام أحد المخالفين ل»داعش»، كان الإعدام قد نفذ رميا بالرصاص بعدما قاوم المتهم عملية ذبحه. أحد شهود العملية أبو شاكر، قائد لواء التوحيد في الجيش الحر، قال في تصريح ل» اليوم24»: « إن الهدف من عملية الذبح، هو تخويف الناس بهذه الطريقة، فأغلب الناس يتمنون الموت رميا بالرصاص على أن يُذبحوا بسكين.. إننا أمام عملية ترهيب وليست إقامة حد». الترهيب هو أحد أهم أهداف عمليات الذبح، ذلك أن الغاية منه هي زرع الخوف في صفوف أي مخالف لداعش، يضيف أبو شاكر، «طبعا هم يقومون بجمع الناس المدنيين والأطفال لكي يعرفوا أن كل شخص يتمرد عليهم هذا مصيره، بالإضافة إلى ذلك يبقونه مدة ثلاثة أيام بعد قطع رأسه في إحدى الساحات ليراه كل الناس». سيكولوجية الذابح والمذبوح عملية الذبح، في العادة، تولد وضعا نفسيا مشحونا يتقاسمه القاتل والمقتول على السواء، لكن في كثير من العمليات التي نفذتها «داعش» بدت على الضحية علامات استسلام غريبة أثارت الكثير من التساؤل حول شخص يبقى هادئا وهو لا يفصله عن الموت بطريقة بشعة سوى دقائق. إحدى القنوات الفرنسية تولت تحليل شريط ذبح جيمس فولي رجحت فرضية تعريض الرهائن لجرعة قوية من المخدرات، فيما يشرح المراسل الحربي الفرنسي ديدييه فرانسوا (كان رهينة في سوريا لدى تنظيم «داعش»، وقدم شهادته بناء على مشاهداته) أسباب عدم ظهور التوتر على الرهائن قبل ثوان من ذبحهم، عبر صفحات يومية «الديلي ميل»، بقوله: «تظهر على الرهائن في أشرطة فيديو إعدام داعش الهدوء، لأنهم لا يدركون أنهم على وشك الموت. فهؤلاء السجناء تعرضوا للتهديد مع عدم التنفيذ عدة مرات، حيث قام المتشددون من داعش بعمليات وهمية توحي بإمكانية قتلهم دون حصول ذلك»، مضيفا: «إنهم حقا لا يدركون أن هذه المرة ستكون حقيقية». في المقابل، يقف الذابح مستعدا لتنفيذ ما يعتقد أنه «أمر إلهي». الأخصائي النفسي رضا امحاسني يتأمل في نفسية الداعشي الجلاد انطلاقا من عملية الذبح، «عند إقدامه على الذبح، فإنه يتجرد من كل مكتسباته الحضارية، أي أن الأنا تختفي تماما تحت نوع من التنويم المغناطيسي الجماعي عندما يشار إلى الضحية كأنها خائنة أخذت ماله وقتلت عائلته.. غريزة القطيع تصبح أقوى من الأنا العليا، وفي هذه الحالة يمكن للفرد أن يفعل بشكل جماعي ما لا يستطيع فعله بشكل فردي». وفي قراءة لهذا الفعل الذي يتطلب اختلالا نفسيا قويا، فإن مدرسة التحليل النفسي تعتبر أن المحرك الرئيس في القدرة على القتل بهذه الطريقة انهيار محرم من المحرمات الكبرى، وهي تحريم القتل، «فتحريم القتل هو الشرط الأساسي للحياة البشرية، وحسب علم النفس، فإن المعادلة النفسية لتحريم القتل تعتبر شرطا أساسيا للبنية النفسية الطبيعية»، وهو ما يعلق عليه امحاسني: «النزعة الجرمية للذبح لا يمكن اعتبارها جريمة اعتيادية، فنحن أمام مظهر آخر للفرد الداعشي الذي جرد من ذاتيته، وهو ما لا يمكن اعتباره من الناحية المرضية النفسية جنونا، فهو يعتبر أنه يقوم بواجب أخلاقي لا يخالف الدين، مع أنه أقصى درجات العدوان والعنف، وهناك تمييز لدى الداعشي بين الواقع النفسي والواقع المادي، حيث يلغي التمييز بين الواقعين، وهذا الإلغاء تجسده نفسية الذابح التي تريد بعث رسالة أنهم يحملون بديلا ومشروعا، كما أنها تنقل تماهيا مع فعل الاعتداء ربما كان قد تعرض له قبل التحاقه بداعش»، قبل أن يضيف: «إن الاعتمالات النفسية للداعشيين تظهر أنهم يبحثون عن انتماء، وهو أحد ركائز التنويم الجماعي». ويختم المحلل النفسي امحاسني حديثه بالتأكيد على أن قراءة نفسية لمقاتلي داعش يجب ألا تغفل «سيكولوجية الحرب»، وهي تشمل الجماعة ككل، «فالجماعة تعاني من الرعب المجهول، ما يجعل الوعي العام لديهم وعيا مستلبا يعتقد معه أنهم لا يستطيعون السير في اتجاه معاكس للجماعة المتقوقعة، على مستوى الأثر العام، خطورة ذلك تكمن في ما يمكن أن يخلفه من تماه وإعجاب على المجتمع العالمي الانتباه إليه». اليوم، حسب مواقع موالية ل»داعش»، يوجد عشرات الرهائن الأجانب، فضلا عن آلاف السكان السوريين والعراقيين، مسلمين وشيعة وأكراد وازيديين ومسيحيين، مهددون بالذبح من طرف مقاتلي الدولة، ويؤكد العديد من الخبراء أن التجربة أثبتت أنه كلما ضاقت حول المتطرفين الدائرة، كلما لجؤوا إلى مزيد من القتل. أشهر القتلة من مصادرها الخاصة، تمكنت « اليوم24» من الوصول إلى اسمين تخصصا في ذبح المخالفين والأجانب، شخصان يكفي ذكر اسميهما لتسري في الأبدان رعشة الخوف. أحدهما اسمه البتار، وهو أحد المقاتلين الذين لا يكشف عن أسمائهم، ويتكلف بأغلب عمليات الذبح، فيما ينافسه في «مهمة» جز الرؤوس، سوري يُدعى أبو سليمان. وفي 13 من أكتوبر الماضي، نشرت صحيفة «الشرق الأوسط»، تقريرا عن دور «مصريين» في تأسيس «داعش»، وكشف أن أخطر قيادات التنظيم ضابط شرطة، اسمه حلمي هاشم، المكنى ب»شاكر نعم الله»، وهو ضابط من إحدى قرى الصعيد ومن سكان حي المطرية القاهري، ويعد من أعتى غلاة التكفير والتطرف، ويقول التقرير إنه «وضع أسلوب الذبح الذي استخدمه التنظيم في ذبح كثير من الرهائن الأجانب». السكنفل: عمليات الذبح لا سند لها في القرآن ولا في السنة الفقيه لحسن السكنفل، رئيس المجلس العلمي لتمارة، يعتبر مبررات «الداعشيين» للذبح مردودة ولا سند لها في أصول العقيدة الإسلامية، إذ قال في حديث خص به « اليوم24»: «هذا الأمر لا سند له لا في القرآن ولا في السنة، ولو فرضنا جدلا أنها حرب بين دولتين، فإن التعامل مع الأسرى له ضوابط شرعية وتحكمه أحكام فقهية، فلا يعدم الأسير ولا يقتل إلا إذا قتل أسير لدى العدو، ولم يثبت أن الرسول (ص) قتل أسيرا، بل إنه تعامل مع أسرى بدر تعاملا إنسانيا، وجعلهم يُعلمون أبناء المسلمين كفدية. وأضاف السكنفل: «عند فتح مكة وقد دخلها رسول الله على رأس عشرة آلاف مجاهد، قال أحد الصحابة وكان يحمل لواء الإسلام، هذا يوم الملحمة، يوم تذل فيه قريش وتستباح الحرمات والدماء، فبلغ الخبر الرسول، فغضب وأمر بنزع الراية منه، وقال، بل هذا يوم المرحمة.. والرسول (ص) حين قال: إذا قتلتم فأحسنوا القتل، وإذا ذبحتم، فأحسنوا الذبح فكلامه موجه للخراف والأضحيات وليس لبني الإنسان». وردا على فهم «داعش» كونها تقيم حد الحرابة، قال رئيس المجلس العلمي لتمارة: «حد الحرابة يُقام على الخارجين عن الأمة، وليس على الخارجين عن الإسلام، أولا، ثم هو حد شرعي لمن خرجوا عن إجماع الأمة وأشاعوا فيها القتل والفتن، فهم من يجب أن يُطبق عليهم حد الحرابة لما فعلوه ويفعلوه من أعمال لا تمت للإسلام بصلة».