إعداد : جواد غسال لم يدر في خلدي وأنا أتصفح مقال الاستاذ عبد الكبير طبيح المنشور في جريدة الاتحاد الاشتراكي، والذي يتهم فيه وزير العدل والحريات بتقديم قانون يقلص من مجال عمل المحامين، أن تبلغ بي المفاجأة حد الصدمة وأنا أحاول جاهدا أن أقتفي أثر الحقيقة في ما خطته يداه، لأجدني أمام جملة من المزاعم التي يؤسفني أن أصفها بأن لم تعد كونها مجرد تطويل وتهويل وتشعيب وتشغيب، أجهد فيها صاحب المقال نفسه ليصور مسودة مشروع المسطرة المدنية كما لو كانت قاصمة لا عاصم منها، وكارثة تنذر بالإجهاز على مهنة المحاماة، مع أن منطق الانصاف كان يقتضي من كاتب المقال مناقشة مقتضياتها نقاشا علميا رصينا لا تكدر صفوه المواقف المسبقة، ولا تعتم صبحه الخلفيات المصلحية التي تُعدم روح التجرد في صاحبها فتجعلَه مصرا على الأخذ بما سمع به، حتى وإن خالف ما يراه(…) وليسمح لي صاحب المقال أن أبادر إلى القول إنه ارتكب سبعة أخطاء لا أراها تليق بسمعته القانونية وهي: أولا: زعمه أن الوزير يقدم قانونا بيد أن الامر لا يتعلق سوى بمسودة مشروع قانون؛ ثانيا: ادعاؤه مس مشروع المسطرة المدنية بمقتضيات الدستور؛ ثالثا: ادعاؤه مس المشروع بمبدأ تراتبية القوانين؛ رابعا: زعمه تقليص وزارة العدل والحريات من مجال عمل المحامين؛ خامسا: عدم اعتباره لما نص عليه قانون مهنة المحاماة الجاري به العمل في المادة 58؛ سادسا: ادعاؤه حرمان المواطن من المساعدة القانونية والقضائية التي يقوم بها المحامي؛ سابعا: زعمه عدم وجود حاجة تدعو إلى قانون جديد للمسطرة المدنية. وسنتناول في ما يلي تفاصيل هذه الأخطاء. مسودة مشروع قانون فقط لقد زعم كاتب المقال أن وزير العدل والحريات يقدم قانونا، و الحال أن الحديث عن تقديم القانون في هذه المرحلة سابق لأوانه لأن الأمر لا يعدو كونه مجرد مسودة مشروع ما زالت قيد التنقيح حذفا وإضافة، بما في ذلك المادة 44 التي شكلت نواة الخلاف في وجهات النظر وبنى عليها الكاتب معظم مقاله. ولا حاجة في هذا المقام لاستعراض المراحل والاشواط التي يقطعها النص التشريعي قبل أن يصير قانونا لكون ذلك مما يدخل في باب «المعلوم من التشريع بالضرورة»، ولكني أريد التذكير بأن وزارة العدل والحريات قامت بنشر مسودة مشروع المسطرة المدنية على بوابتها الالكترونية، ودعت كل من يأنس في نفسه القدرة على الافادة بتعليقاته وملاحظاته أن يمدها بذلك لعرضها على اللجنة المكلفة بصياغة مشروع قانون المسطرة المدنية من أجل دراستها دراسة وافية، والاخذ بها متى تبينت لها وجاهتها. وقد تلقت الوزارة في هذا الخصوص ملاحظات وتعليقات عديدة، بعث بها مجموعة من القضاة والمسؤولين القضائيين، وبعض المهتمين والمتتبعين، وتم الأخذ بجملة غير يسيرة منها من طرف لجنة الصياغة. وما يهمنا بيانه هنا هو أن ما اعتبره كاتب المقال قانونا تم تقديمه، ليس سوى مسودة مشروع ما زالت لم تُعتمد بعد بشكل رسمي، والباب مُشْرَع على مصراعيه أمام كل من كانت له وجهة نظر وجيهة أن يفيد بها لجنة الصياغة التي لن تتوانى قطعا عن إيلائها ما يليق بها من اهتمام. ادعاء المس بمقتضيات الدستور استدل كاتب المقال بهذا الخصوص بمبدأ قانوني كرسه الفصل السادس من الدستور الذي نص على « عدم رجعية القوانين» معتبرا أن المادة 44 من مسودة قانون المسطرة المدنية توسعت في إخراج إحدى عشرة حالة من دائرة وجوب تنصيب محام بينما قصرها قانون المحاماة على حالات ثلاث، الأمر الذي اعتبره مسا بالحقوق المكتسبة للمحامين ومن ثم بمبدأ عدم الرجعية المشار إليه. وهذا المبدأ الذي لخصه جان إتيين ماري بورتاليس، أحد أهم واضعي القانون المدني الفرنسي، في قولته الشهيرة سنة 1801 «إن المهمة الأساسية للقوانين تنحصر في تنظيم المستقبل، و لا إمرة لها على الماضي»، هو مبدأ أشهر من أن يعرف به، لأنه من الأبجديات التي يتعلمها طالب الحقوق في سنين تحصيله الأولى. وأنا لم أتبين صراحة وجه إقحام هذا المبدأ فيما نحن بصدده. فمبدأ عدم رجعية القوانين يعني أنه لا يمكن تطبيقها بأثر رجعي على التصرفات والوقائع التي تمت قبل دخول القانون الجديد حيز التطبيق. وهذا لا يعني عدم إمكانية إعادة النظر في تنظيم مقتضيات تلك التصرفات والوقائع وفق ما تقتضيه المصلحة، بدعوى أن في ذلك مسا بحق مكتسب؛ إذ لو صح هذا التصور لتعذر تغيير معظم القوانين و لتعطلت عجلة التشريع. ولنفهم ذلك سنضرب له مثالا: فقبل أن يتم توسيع مجال تدخل المحامي في القضايا المعروضة على أنظار القضاء كان للمواطن الحق في التقاضي شخصيا في قضايا أصبحت حكرا على المحامي فيما بعد ، فهل يمكن القول تبعا لنفس المنطق أن قانون المحاماة قد مس بمبدأ رجعية القانون لدى صدوره باعتباره مس حق المواطن في الولوج الى القضاء دون ضرورة تنصيب محام، مع ما يعنيه هذا التنصيب من تكاليف مالية إضافية؟ بالطبع لا، لأن المصلحة اقتضت أن يكون الولوج إلى القضاء مستنيرا متبصرا، محققا للأمن والنجاعة القضائية فصارت مسألة تنصيب محامين متمرسين ذوي خبرة ودراية بالمساطر وقوانين الموضوع أمرا محتما في القضايا والمساطر المتسمة بالتعقيد، خلافا للقضايا البسيطة أو التي تتطلب السرعة في البت والتي جعلت فيها المسطرة شفوية. فجمع نظرية الحق المكتسب بمبدأ عدم رجعية القانون هنا ينم عن خلط لا مبرر له ، بل إنه ينقض الدعوى التي ادعاها كاتب المقال وينسفها نسفا لأنها بالكيفية التي تبناها تجعل دستورية قانون المحاماة موضع مساءلة ويثبت على نفسه ما يريد أن يرمي به غيره. كما أن الحديث عما سماه الكاتب حقا مكتسبا يحتاج إلى وقفة تأمل، إذ لا يجوز، في نظري، طرح المسألة من هذا المنظور لأن توسيع دائرة احتكار المحامي لتمثيل الاطراف أمام القضاء لم يكن بناء على حقوق وزعت على المحامين أو مزايا منحت لهم، وإنما بناء على ما اقتضته مصلحة المواطن نفسه. وأي حديث عن حقوق مكتسبة بالصورة التي ذهب إليها الكاتب، سيصور المحامي في صورة من يصادر الحق الأصيل للمواطن في تمثيل نفسه بنفسه وهو ما لا يجوز ولو مجرد الإيحاء به. فقرار المجلس الدستوري رقم: 14/ 943م. د الصادر في الملف عدد 14/1400 م د في شأن القانون التنظيمي رقم 066.13 المتعلق بالمحكمة الدستورية، الذي أحاله عليه رئيس الحكومة رفقة كتابه المسجل بالأمانة العامة للمجلس الدستوري في 4 يوليو 2014 قصد البت في مطابقته للدستور، قد اعتمد جملة من الحيثيات يهمنا منها في موضوعنا ما ورد في شأن إلزامية تنصيب محام حيث جاء بهذا الخصوص: « وحيث إن اشتراط تقديم العرائض الرامية إلى المنازعة في انتخاب أعضاء مجلسي البرلمان وجوبا من قبل محام، من شأنه ثني بعض الناخبين، وحتى بعض المرشحين، عن اللجوء إلى المحكمة الدستورية للطعن في صحة الانتخاب؛ وحيث إنه، تأسيسا على ما سبق، يكون ما تضمنته الفقرة الأولى من المادة 35 من هذا القانون التنظيمي من اشتراط تقديم عرائض الطعن من طرف محام مسجل في جدول هيئات المحامين بالمغرب، ومن اشتراط تضمين هذه العرائض عنوان المنتخب أو المنتخبين المنازع في انتخابهم، مخالفا للدستور». إن المتأمل في حيثيات هذا القرار ليجد فيه أجوبة عن كثير مما استحسنا السكوت عنه، ليقيني بأن القارئ لبيب تكفيه الإشارة. ادعاء المس بمبدأ تراتبية القوانين لقد أجهدت نفسي في محاولة فهم كلام الكاتب عن تراتبية القوانين في مقاله، ولكني للأسف لم أجد وجها أحمله عليه، لأنه بكل بساطة بعيد كل البعد عن مدلول التراتبية كما يشرحها فقهاء القانون الدستوري. وعلى هذا الأساس فالقانون يغير القانون ويلغيه، لكن القانون لا تؤثر عليها المراسيم التطبيقية وهكذا فالتراتبية تعني سمو القوانين الدستورية على ما سواها باعتبارها تنظم سير وعمل السلطات العامة داخل الدولة وتتلوها في السمو القوانين التنظيمية التي تعتبر امتدادا ماديا للقوانين الدستورية من حيث سعيها إلى تنظيم عمل السلطات العامة، محتلة بذلك مرتبة وسطى بين القوانين الدستورية والقوانين العادية وتتلوها في المرتبة المراسيم والقرارات التي تختص بها السلطة التنفيذية. وبهذا الاعتبار فبإمكان القانون أن يغير القانون أو أن يلغيه، خلافا للمراسيم التطبيقية التي لا يمكنها تغيير القوانين أو إلغاؤها. فإذا كان الامر كذلك فهل يصح الحديث عن وجود تراتبية بين القانون المنظم لمهنة المحاماة، وقانون المسطرة المدنية؟ بل هل يعقل أن يتم الحديث عن التراتبية بالشكل الذي بسطه كاتب المقال، بين القانون المنظم للمهنة ومجرد مسودة مشروع ما زالت قيد التنقيح والتلقيح؟ ! إن الحديث عن التراتبية هنا لا مجال له على الاطلاق ما دام الأمر يتعلق بقانونين من نفس الفئة من حيث النسق التراتبي. أما فيما يتعلق بالنسخ الذي ادعى كاتب المقال حصوله بالحلول المفترض لقانون المسطرة ( الذي ما زال مجرد مسودة مشروع) محل قانون المسطرة المدنية القائم حاليا فهو ادعاء تعوزه الدقة، لأن النسخ كما هو متداول بين فقهاء القانون هو: « إزالة ما استقر من الحكم القانوني بنص وارد متراخياً لولاه لظل الحكم السابق ثابتاً « وبه يتبين أن الأمر لا يتعلق بنسخ قانون المسطرة المدنية كله كما ادعى الكاتب وإنما ببعض مقتضياته مما تدعو إليه ضرورة ملاءمته مع التنظيم القضائي الجديد، وتقتضيه المصلحة، وتفرضه النجاعة القضائية، ويستوجبه الأمن القضائي، وتدعمه اجتهادات محكمة النقض التي كان لقضاتها فضل كبير في تعديل و إضافة كثير من الفصول بما يحقق الغاية المرجوة ويجعلها مسطرة متقدمة قياسا بالمسطرة المعمول بها حاليا. ولا بد من الإشارة هنا إلى أنه تم، قدر الإمكان، مراعاة البناء الهيكلي الحالي لقانون المسطرة إلا فيما استوجبت الضرورة تغييره. ادعاء تقليص مجال عمل المحامين حاول كاتب المقال المقارنة بين مقتضيات المادة 44 من مسودة مشروع قانون المسطرة المدنية و الفصل 32 من القانون المنظم لمهنة المحاماة، واستنتج من ذلك أن مجال عمل المحامين قد تقلص بتوسيع دائرة القضايا التي لا يشترط فيها تنصيب محام و ذلك برفعها إلى إحدى عشرة حالة، بينما لم يستثن القانون المنظم لمهنة المحاماة سوى ثلاث حالات (في القضايا المدنية) حددها في: - قضايا التصريحات بالحالة المدنية؛ - قضايا النفقة أمام المحكمة الابتدائية والاستئنافية؛ - القضايا التي تختص المحاكم الابتدائية بالنظر فيها ابتدائيا وانتهائيا؛ ولا بد عند مناقشة هذه النقطة من الإشارة إلى أن كاتب المقال ما كان له أن يستنتج ما استنتج لولا اقتناعه بأن شفوية المسطرة تعني فيما تعنيه عدم إلزامية المحامي. ذلك أن المادة 44 أخذت بمبدأ شفوية المسطرة في بعض القضايا البسيطة، وهو أمر سبق أن تبناه مشروع المسطرة المدنية الذي قدم على عهد وزيري العدل السابقين عبد الواحد الراضي والمرحوم الطيب الناصري، حيث احتفظت المادة 65 من ذلك المشروع بشفوية المسطرة في كل القضايا المنصوص عليها في الفصل 32 من المسطرة المدنية الحالية، وأضافت إليها قضايا الزواج والحضانة. ولم نسمع حينها همسا ولا ركزا من أحد، بخلاف ما يثارالآن من ضجيج حول المشروع الحالي، حيث كان على الأستاذ طبيح أن يقول أن الراضي والناصري والرميد يقدمون قانونا يقلص من مجال عمل المحامين. كما أن المادة 43 من المشروع القديم الذي تقدم به الوزيران المذكوران بينت الحالات التي يجوز فيها للمدعي تقديم مقال موقع من طرفه شخصيا، وجعلت من بينها الطلاق والتطليق والقضايا المتعلقة بالحالة المدنية، بينما اكتفى المشروع الجديد في موضوع الطلاق والتطليق بقضايا الطلاق الاتفاقي فقط، وقصرها في قضايا الحالة المدنية على التصريحات دون غيرها من القضايا. فأي المشروعين وسع من دائرة المسطرة الشفوية أكثر من الآخر؟ و أيهما ضيق من مجال الاستعانة بخدمات المحامي؟ نحن لا ننتظر الانصاف من كاتب المقال لعلمنا بخلفياته ودوافعه، ولو أنصف لسمعنا صوته يوم إعداد المشروع القديم ولما انتظر إلى الآن ليكتب ما كتب متجنيا على الحقيقة. لقد فهم الكاتب، حسبما يبدو من مقاله، أن مما تقتضيه شفوية المسطرة عدم اشتراط تنصيب محام، وهو في الواقع فهم يتماشى وما استقر عليه العمل القضائي في معظمه، حيث استقر التعامل في اطار هذا المبدأ بمختلف محاكم المملكة وعلى اختلاف درجات التقاضي، وهذا الامر أشهر من أن نحتاج إلى إقامة دليل عليه، بحيث بات في حكم المسلم به أن القضايا المنصوص عليها في الفصل 45 من قانون المسطرة المدنية، بالنظر إلى شفوية المسطرة، لا تحتاج إلى تنصيب محام لتمثيل الاطراف فيها. وهذا الاتجاه نفسه هو المعمول به في فرنسا حيث إن شفوية المسطرة تعني أمورا من جملتها عدم إلزامية تنصيب محام. إذن فمع وجود الفصل 32 من قانون المحاماة هناك عمل قضائي متواتر ومضطرد لا يشترط تنصيب محام في القضايا الاتي بيانها: - القضايا التي تختص المحاكم الابتدائية فيها ابتدائيا وانتهائيا؛ - قضايا النفقة والطلاق والتطليق؛ - القضايا الاجتماعية؛ - قضايا استيفاء ومراجعة وجيبة الكراء؛ - قضايا الحالة المدنية؛ أما مشروع المسطرة المدنية الجديدة فقد عالج هذه النقطة بوضوح لا غبار عليه وميز بين شفوية المسطرة وبين عدم الالزام بتنصيب محام ،بحيث استثنى القضايا التي لا يشترط فيها محام في الباب الذي خصصه لتقييد الدعوى وجعلها محصورة في حالات هي أقل بكثير مما هو معمول به في الواقع حاليا. و بخصوص ما أثاره كاتب المقال في شأن الحالة التي يكون فيها أحد طرفي الدعوى محاميا أو قاضيا فقد تم الاقتصار فيها على منح حق التقاضي شخصيا لمن يخاصمهما فقط، وتم استثناء كل من القاضي والمحامي من هذا الاعفاء تسوية لهما بباقي المتقاضين. وفيما يتعلق بادعاء توسيع مجال القضايا التي لا يلزم فيها تنصيب محام بالرفع من قيمة موضوع الطلبات فيها من 3000 إلى 5000 درهم، فهذا الأمر ليس معطى جديدا أتى به المشروع، إذ المادة السادسة من الظهير الشريف المتعلق بتنظيم قضاء القرب وتحديد اختصاصاته، الصادر في 17 غشت 2011 والمعمول بمقتضياته حاليا، قد نصت على أن المسطرة أمام هذه الاقسام شفوية ومجانية ومعفاة من الرسوم القضائية، ومعلوم أن الاختصاص القيمي فيها يصل إلى 5000 درهم. فهل يرى كاتب المقال ضرورة إلزام المتقاضي بتنصيب محام لتمثيله أمام القضاء في قضايا زهيدة مثل هذه؟ وأي معنى يتحقق به القرب إذن مع وجود هذا الالزام؟ وكم سيتقاضى المحامي من أتعاب في مثل هذه القضايا؟ ولكي لا يعتقد أحد أننا نتقول بلا بصيرة، فإننا نذكر بأن المادة 18 من قانون المسطرة المدنية الفرنسية عند حديثها عن الدفاع قد جعلت دفاع الأطراف عن أنفسهم هو الأصل ما عدا الحالات التي يكون فيها تمثيلهم ضروريا. كما أن المادة 20 أباحت للقاضي الاستماع الى الاطراف شخصيا في كل الأحوال. وجعلت المسطرة شفوية، مع ما يعنيه ذلك من عدم إلزامية تنصيب محام أمام ما يصطلح عليه ب(Les tribunaux d'instance) وشفوية في العديد من القضايا أمام ما يعرف ب( Les tribunaux de grande instance) بل إن الشفوية معمول بها حتى أمام المحاكم التجارية وفي غير ما حالة أمام المحاكم الإدارية. أما محاكم القرب (Les tribunaux de proximité)، التي لا يلزم فيها تنصيب محام في الأصل في النظام الفرنسي، فإن قيمة النزاع الذي يدخل ضمن اختصاص هذه المحاكم هو 4000 أورو، وهو مبلغ ندعو من يطالب بألا ترفع القيمة من 3000 إلى 5000 درهم في القضايا المعفاة من تنصيب محام، أن يتأمله جيدا وأن يستنتج منه ما يوافق المنطق السليم. أما في كندا (الكبيك) فإن القانون يستوجب مباشرة المعني بالأمر لدعواه شخصيا دون تمثيله بمحام فيما يطلق عليه قضايا «المطالبات الصغيرة» (Les petites créances) التي يصل قيمة الطلب فيها الى 7000 دولار كندي والتي سترفع في بداية يناير 2015 إلى 15.000 دولار ولا يمكن للمتقاضي في هذه الحالة سوى استشارة المحامي إن شاء، أو استشارة مؤسسة مختصة في الدعم القانوني دون أن يتم تنصيبهما. أولوية قانون المحاماة إذا تأملنا ملاحظات كاتب المقال حول المادة 44 من مشروع قانون المسطرة المدنية، فسيتبين لنا أنه يتمسك بمقتضيات القانون المنظم لمهنة المحاماة ويعطيها الاولوية في التطبيق على ما هو وارد في قانون المسطرة المدنية، على اعتبار أنها نص خاص في مقابل قانون المسطرة الذي اعتبره عاما. وأنا لن أناقش هذا الأمر رغم أن في المسألة تفصيلا وددت لو أن الوقت أسعفني لبيان وجهة نظري فيها بالحديث عن مفهوم الخاص والعام و متى يعتبر النص خاصا بالنسبة إلى نص عام وكذا الحديث عن مجال إعمالهما وحالات التخصيص و شروطها وما سوى ذلك من المباحث التي يقع في شأنها خلط كبير، وسأكتفي في هذا الشأن بمناقشة كاتب المقال بمنطق «التسليم الجدلي أو الافتراضي» لبيان أن قوله يفضي إلى عكس مقصوده، إذ ما دام يعتبر القانون المنظم للمحاماة قانونا خاصا له الأولوية في التطبيق على ما هو وارد في قانون المسطرة المدنية، فليعد إلى المادة 58 من ذلك القانون الذي تنص بصريح العبارة على ما يلي: « لا يمكن اعتقال المحامي بسبب ما قد ينسب إليه من قذف أو سب أو إهانة، من خلال أقوال أو كتابات صدرت عنه أثناء ممارسته لمهنته أو بسببها. تحرر المحكمة محضرا بما قد يحدث من إخلال، وتحيله على النقيب، وعلى الوكيل العام للملك لاتخاذ ما قد يكون لازما» فهل يوجد في هذا النص ما يفرق بين ما إذا ارتكبت المخالفة أمام محكمة ابتدائية أو أمام محكمة استئناف؟ إن المادة جاءت عامة ولا حاجة إلى التذكير بأن العام هو «ما استغرق الصالح له من غير حصر». إن مضمون هذه المادة هو بعينه الذي ضُمِّن بالمادة 63 الذي يعترض عليها كاتب المقال. فمنطق الأمور يقتضي، أن من يعتبر القانون المنظم لمهنة المحاماة نصا خاصا مقدما على النص العام، لا ينبغي له أن يطرح هذا الاشكال أصلا، لأن التفريق بين الإجراء المتخذ أمام المحاكم الابتدائية والإجراء المتخذ أمام محاكم الاستئناف لا وجود له إلا في قانون المسطرة المدنية بخلاف القانون المنظم لمهنة المحاماة الذي غابت فيه التفرقة، فما الضير إذن في أن تُستدرك هذه النقطة في المشروع الجديد لتتماشى مع ما ورد في قانون المحاماة. حرمان المواطن من المساعدة القانونية والقضائية؟ هذا الادعاء من أغرب وأعجب ما أورده كاتب المقال وهو في الحقيقة يذكرني بمفارقات زينون الايلي صاحب المغالطات الشهيرة، التي خلص فيها إلى استحالة وجود أو قيام أشياء يشهد الواقع بوجودها وتحققها. فالكاتب يدعي أن مشروع القانون الجديد يحرم المواطن من المساعدة القانونية والقضائية التي يقوم بها المحامي، بيد أن الحقيقة خلاف ذلك، لأن هذا الادعاء كان سيكون صحيحا لو أن المشروع فرض على المتقاضي عدم الاستعانة بخدمات المحامين في القضايا القليلة جدا التي منحه فيها حق التقاضي شخصيا دون تمثيل، بينما غاية ما في الأمر أن المشروع لم يزد على منح المتقاضين حق الخيار بحيث يجوز لهم تنصيب محام عنهم إن شاءوا لكن دون إلزامهم بذلك. فمدار الخلاف في تلك القضايا القليلة المستثناة ليس على مبدأ التنصيب ذاته، وإنما على مجرد الالزام به، وكاتب المقال بخلطه بين الأمرين يكون قد غالط القارئ الذي من حقه على الكاتب أن يوصل إليه المعلومة كاملة غير منقوصة. وأنا استغرب صراحة كيف يصور كاتب المقال نفسه في صورة المدافع عن المواطن، والحال أن في مطلبه مصادرة لحق الخيار (في القضايا المستثناة) الممنوح لهذا الأخير والذي تتوسع فيه معظم الانظمة القضائية في الدول الديموقراطية الكبرى. هناك حاجة لقانون جديد للمسطرة المدنية الحقيقة أن جانبا من الجواب يوجد في مقال الكاتب نفسه، لأنه يقر بأن لبلادنا وضعا متقدما مع الاتحاد الاوربي، وأن علاقتنا متميزة مع دول الخليج العربي، وأضيف إلى ذلك دورنا الريادي في إفريقيا، كل هذا وغيره من الاعتبارات التي من أهمها حاجة المواطن إلى مسطرة عملية وأكثر فاعلية وأبسط إجرائيا وأنجع قضائيا تتماشى وروح العولمة وتنفتح على كافة المستجدات، يدعو إلى إعادة النظر في بعض مقتضيات مسطرتنا المدنية. ولا ينبغي أن يغيب عن البال أن ما شهدناه من تطور منذ 1974 الى الآن أكبر بكثير مما شهدناه منذ أجيال وأجيال إن لم نقل منذ قرون. فالحكامة والنجاعة التي تحدث عنهما كاتب المقال تؤيد الاتجاه الذي يسعى الى التغيير وليس العكس. وما التخوف من ضياع الاجتهادات التي نتجت خلال الاربعين سنة الماضية في نظري سوى من قبيل البكاء على الاطلال، ليس استخفافا بالاجتهاد معاذ الله، ولكن ليقيني بأن من اجتهد في إطار مسطرة 1974 فهو قادر على الاجتهاد في اطار المسطرة الجديدة، أضف إلى ذلك أن تلك الاجتهادات نفسها قد صارت أكثر حياة لأنها صيغت في شكل نصوص في مشروع المسطرة الجديدة. إن ما تشهده الساحة القانونية اليوم من فورة على مستويات شتى ومن ضمنها المجال التشريعي، ليس ترفا فكريا ولم يأت اعتباطا وإنما جاء تنزيلا لمقتضيات الحوار الوطني حول الاصلاح الشامل لمنظومة العدالة الذي استحق عليه الساهرون عليه توشيحا ملكيا كريما وناهيك به من تشريف وحسبك بها من شهادة. وإذا كان كاتب المقال يتساءل عن الجدوى من تغيير قانون مرت عليه أربعون سنة رغم ما عرفه المغرب من طفرات وما صار عليه من وضع متقدم مع اوروبا فلا أحسن من قول المتنبي: وليس يصح في الاذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل