اهتمامي بتراثي هو ما قادني إلى العالمية ولم أخطط للشهرة المجانية { قدمت مؤخرا عملا جديدا ضمن فعاليات منتدى أصيلة الثقافي، ما الجديد الذي حمله؟ تلك تجربة وطفرة جديدة في مساري، لكني لا أخرج فيها عن أسلوبي الخاص الذي يتمحور ما بين البحث العلمي والممارسة الفنية. إذ لأول مرة أنفتح على الجاز، وعنونت العمل ب«جاز أندلسي»، لأعلن أن الموسيقى الأندلسية هي موسيقى عالمية إذا أتيحت لها الإمكانات، وأنه يمكن تسويقها في ضفاف أخرى. وتعاونت في هذا العمل مع عازفين مهرة من جنسيات مختلفة، منهم نبيل أقديم الذي قاد العمل فنيا، و«أفيشان كوهن» عازف بيانو من هولندا، وستيفان رايد، فرنسي ألماني، ورباعي أحداس، ومؤسسه هو شاب عازف عود ماهر يعيش في هولندا. فكرت في استقطاب تجربته وإضافتها إلى عملي. وقد حرصت على تلحين الجمل الموسيقية لهذا العمل، وذلك حتى لا أخرج عن أسلوبي العام. { كيف جاء اختيارك لهذا الشاب الموسيقي ليكون إلى جانبك؟ هذا الشاب، الذي انطلقت تجربته من هولندا، واع كل الوعي بضرورة تطوير الموسيقى المغربية الثرية بأسلوب جديد، دون خدش أو مسخ لهويتها. ونحن المغاربة، بخلاف المشارقة، نملك قدرة المزج بين الشرقي والغربي. { في عروضك دائما تعلنين مصدر عملك، ما كان مصدر هذا الأخير؟ كان مصدره وثيقة حصلت عليها من إحدى المكتبات المهمة، وقد حرصت في هذا العمل على المزج بين الغناء الكريكوري الذي يميز الكنائس والغناء الصوفي للزوايا، وعبر أدائي الخاص لهذا المزج أسعى إلى تقريب من ينصت إلى موسيقاي من الطقوس والمعاناة التي عاشها مسلمو القرن السابع عشر، الذين حرم عليهم التكلم باللغة العربية والصلاة وارتداء ملابس المسلمين. { أنت فنانة متخصصة في الفن القديم، أو ما يسمى غناء الأندلسيات، ما علاقتك بالجاز؟ الجاز لم أتخذه الإطار العام لعملي، وإنما كتلوين موسيقي له. والجاز نفسه يستمد روحه من الموسيقى الشرقية، أي أنه يتضمن أيضا شيئا من الارتجال، حيث لا يتقيد العازف دائما بالمدونة الموسيقية، ويتيح لنفسه فسحة لتقديم عزف منفرد يظهر عبره براعته. وفي هذا العمل كان هناك حوار بيني وبين الرباعي، حيث اشتغلت على قصائد صوفية لابن عربي والشيخ الحراق، ولأنه يروقني دائما أن يكون صوتي في خدمة قضية ما، كالأندلس والقضية الموريسكية... { صحيح أنك تشتغلين على التراث، لكن الملاحظ أن نزوحك بالأساس نحو التراث الإيبيري، وليس التراث المغربي؟ أشتغلُ على الموسيقى الأندلسية، وهي من صميم تراثنا، وحين نقول الإيبيري، فنحن لا نتحدث عن الغربي، ويجب أن نذكر بحقيقة مهمة وهي أن ما تبقى إلى اليوم في إيبيريا نحن المسلمون العرب مصدره الحقيقي، وأكثر من ذلك نحن اليوم الوريثون الشرعيون لذلك التراث. وبالتالي، فأنا لا أشتغل على تراث غريب، وإنما على تراث هو لنا، رغم أن هناك فئة من غير الباحثين، من المستعربين، من المترجمين والمهتمين بدراسة الثقافة الأندلسية الإيبيرية، لا يريدون الإقرار بأن هناك أشياء كثيرة في الثقافة الإيبيرية أساسها تراثنا. لذلك، أعتقد أني مضيت في طريق أشياء أعمق من الاهتمام بالتراث، وهي إبراز فضل المسلمين على أوربا في مختلف المجالات، ومنها الموسيقى، كما تقول ذلك وثائق قوية. إن هدفي ليس هو أن يكون صوتي طربيا، وإنما أن يكون هذا الصوت بمثابة قلم ينبش في الذاكرة المنسية التي يحاول الإيبيريون طمسها، وهو ما قمت به في عملي الأخير، حيث اشتغلت على قصائد عن الرسول محمد «صلى الله عليه وسلم» مكتوبة باللغة الألخامية، وهي لغة أعجمية مكتوبة بالاسبانية القديمة بحروف عربية، حيث اشتغلت على التراث القديم في القرن السابع عشر، بأسلوب عصري، حين كان محرما على المسلمين التكلم باللغة العربية والصلاة وارتداء لباسهم. أريد القول هنا إني أستند إلى المادة التاريخية التي تعطي مصداقية لعملي. { كفاعلة ثقافية وناشطة مدنية، ألا تفكرين في تدريس هذا الفن، والاجتهاد التأريخي بدل حصره في اسم سميرة القادري؟ لا شيء محصور، لأني أقدم مجموعة من دروس «الماستر كلاس» في عدد من المعاهد العليا، وأشارك في ندوات في الموضوع خارج المغرب. { وماذا عن تدريس ذلك في المغرب؟ في المغرب، أيضا، أقدم ذلك لكن ليس كما هو الشأن في أوربا مثلا، لأن الناس هناك لديهم وعي وفهم لكيفية تصنيف الموسيقى إلى كلاسيكية وقديمة. في المغرب سأبقى محدودة، وليس كما هو الشأن في الخارج، ذلك أن اللون الذي أؤديه يفرض نفسه في محافل كبيرة ثقافية فنية. ومن تجاربي في المغرب إلقاء محاضرات بدعوة من إحدى الجمعيات، ولا أقدمها على نحو تقليدي، وإنما أغني فيها. المعاهد الموسيقية في المغرب لاتزال متخلفة عن الوصول إلى منهجية للتدريس تؤهل التلميذ أو الطالب لدخول معاهد عليا، على عكس تدريس الموسيقى في تركيا التي تلقى عناية كبرى من المؤسسات العامة التي توجه مواطنيها. { هذا يعني أن الاتجاه العام للدولة المغربية هو المسؤول عن هذا القصور الذي ذكرت؟ صحيح، فنهج التدريس بالأساس هو الذي يبخس قيمة الموسيقى، وهناك أصوات موسيقية مغربية مهمة جدا في أوربا ترفض الدخول إلى المغرب لأن أرضية الممارسة غير موجودة، وهناك مجموعة من الطلبة الأجانب، وبينهم الإسبان والفرنسيون الذين يدرسون الموسيقى التي استمدت روحها من الموسيقى العربية الشرقية، يأتون إلى المغرب للأخذ من تجربتي التي كان لي فيها حظ الغناء الأوبرالي باللغة العربية، وتخصصت في الموسيقى القديمة بهدف الانفتاح على التراث بشكل أكاديمي، وهو ما أتاح لي فرصة اللقاء بجمهور أوسع من الجمهور الأول. { تحدثت عن الفنانين المغاربة في المهجر، هل تؤمنين بأن نجاح وشهرة الفنان مرتبطة بانطلاقه من أرض الهجرة؟ لا أومن بأن النجاح قرين بالهجرة، وأعتقد أنه على الفنان المغربي الحرص على البدء من الاشتغال من بلده، لأن المغرب يتوفر على تراث موسيقي عميق وكبير. { لكن الواقع يقول أن كثيرا من الفنانين المغاربة لم ينالوا حظهم من الشهرة والنجاح إلا بعد انتقالهم إلى الخارج؟ ذلك لأن الجمهور هناك يصنف الفن الموسيقي والغنائي، كما أن تلك الدول تتوفر على مؤسسات تهيئ كل ذلك. { ألا نتوفر على جمهور مغربي خاص بهذا النوع من الفنون؟ بلى، وإنما قصدي أن يصل الفنان إلى تصنيف نفسه في أي نمط وبأي مكان ترتبط موسيقاه، وأن يكون صارما في اختيار السياق الذي يحيي حفلاته من خلاله، وأنا شخصيا صارمة في ذلك، فلا يمكنني، مثلا، تلبية دعوة لتقديم حفل في مهرجان كناوة. { وهل ترتكب المهرجانات، باعتقادك، مثل هذا الخلط؟ قد يحدث ذلك، لكن ما يعاب علينا في المغرب هو عدم وجود محتضنين، وعدم الثقة في الأصوات المغربية. فهذه الأصوات الجميلة التي نسمعها متألقة في مسارح ودور أوبرا كبيرة خارج المغرب يتم إهمالها في بلدها. فمن العيب أن نتوفر على مهرجانات مختصة لا تستدعي المغاربة وتستدعي الأجانب لإيمانها بالغرب أكثر. { وما رأيك في مقولة أن الجمهور المغربي مأخوذ بالفنانين الأجانب ويبهر بهم أكثر على حساب الفنان المغربي «المحكور»؟ العيب هنا على المحتضن، والجمهور ليس سوى مستقبل للصورة التي يصنعها المحتضن، وفي المغرب ليست لدينا صناعة للنجوم، لذلك نظل محصورين في تجاربنا التي نصنعها بكفاحنا واجتهادنا، لذلك انتزعنا الاحترام، لأن فن الشخص يحترم به. وشخصيا، أنا راضية لأن الفضاء الذي أشتغل فيه فرض نفسه وأصبح موجها لشريحة معينة. { أعمالك لا تصل إلى الجمهور المغربي الواسع، هل تعتقدين أنك تقدمين فنا نخبويا؟ لا يمكننا تقديم ما هو تجاري وما هو نخبوي في الآن نفسه، وبالنسبة إلي لم أعد أتحدث عن النخبة، لكن أفضل القول إنني أحب مخاطبة جمهور قادر على استيعاب أفكاري ورسالتي، وهذه تبقى اختيارات واضحة. ويكفيني شرفا اليوم أنني اخترت فنانة التلفزيون المغربي مؤخرا، وهو شيء مهم بالنسبة إلي رغم حصولي على جوائز دولية كبيرة. { بمناسبة الحديث عن الجوائز والألقاب، تلقبين بالسوبرانو، كيف حصلت على اللقب؟ مصطلح السوبرانو ليس لقبا، وإنما يقال للتمييز ما بين الصوت الذي درس الغناء الأوبرالي، وغيره من الأصوات الجميلة والكبيرة التي تغني هذا النوع ولم تدرسه، لأن الأوبرا لا تغنى بالحفظ بقدر ما هي دراسة معمقة تتطلب سنوات طويلة... { كان هدفك الوصول إلى العالمية، كيف خططت لذلك؟ لم أخطط للنجومية وللشهرة المجانية، بقدر ما خططت لحفر اسمي بثبات، وأن يكون لدي جمهور محترم، وأرى نفسي في صورة المغنية المثقفة التي لديها التزام، وحين أتحدث عن الالتزام هنا، فأعني به الحرص على خدمة تيمات وقضايا أراها مستحقة لذلك، وأشتغل على الأمر دائما بالعودة إلى البحث في التاريخ. وما لا يعرفه عني المغاربة أنه أتيحت لي فرص مهمة وخرجت نحو العالمية عن طريق اهتمامي بتراثي، لأني قدمت الغناء الإيريكي بالعربية، وهناك أصوات أجمل من صوتي لم تنتشر وبقيت محدودة لأنها حصرت نفسها في ما هو غربي، وأنا كنت واعية كل الوعي بأني سوبرانو مغربية، لا غربية، يجب أن تكون لدي خصوصية، ولكي أحَصِّل هذه الخصوصية كان علي الاشتغال على اللغة العربية منذ البدء، وأخذت بعين الاعتبار تجربة زميلات وصديقات إيرانيات اشتغلن في هذا السياق على اللغة الفارسية وطورنها بأسلوب «ليريك». وفي هذا السياق، اشتغلت مع مؤلفين موسيقيين يكتبون للسوبرانو، ولا أقول ملحنين. { بعيدا عن هذا، مشوار النجاح والشهرة يقترن بالغيرة بين الفنانين وأحيانا بالمكائد، هل عانيت من هذا؟ أعتقد أني بعيدة عن ذلك نسبيا لأني لا أدخل في ما هو تجاري، واشتغالي في مجال معين واضح ما بين البحث العلمي والغناء، رسالتي دائما واضحة ولا أتنافس سوى على تقديم ما هو أفضل، وأحب التحاور مع فنانين لهم الاهتمامات نفسها التي أشتغل عليها، على قلتهم للأسف. وعموما هناك احترام متبادل بيني وبين الفنانين، ولم أعب يوما زملائي الفنانين لغنائهم في الأعراس، أو عملهم مع شركات الاتصال المغربية مثلا، لأني أومن أن لكل شخص اختياراته، شريطة أن يحترم اختيارات غيره. وللأسف، يحدث ألا يتفهم بعض الفنانين ذلك، ومثال ذلك عدد من الفنانين الذين يسألونني كلما التقيتهم: لماذا حصرت نفسك في هذه التجربة؟ لأضطر، في كل مرة، إلى تأكيد إيماني باختياري، وأن هدفي ليس الشهرة أو الثروة بقدر ما يهمني تحصيل مكانة ثقافية محترمة، وأن أمارس ما يسمى بالدبلوماسية الثقافية، والحمد لله نجحت في ذلك وأنا أقدم صورة المرأة المغربية والفنان المغربي خارجا. { تعرضت لحملة شرسة اتهمت فيها بأشياء كثيرة وخطيرة، بينها تهريب العملة، لم نعرف إلى اليوم تبعاتها وأين وصل الموضوع اليوم؟ تلك الحملة كان يمكنها الإطاحة بمساري كله، وقلب حياتي رأسا على عقب، بتخريبها، لكن، الحمد لله، رغم رهافة حسي، فشخصيتي هادئة جدا وكنت صبورة جدا ومؤمنة بأنها مجرد عاصفة وستمر، بالإضافة إلى دعم وسطي العائلي لي، وزوجي، الذي كان وراء نجاحي دائما، ووسط محبيي من كبار المثقفين في المغرب الذين مازلت أحتفظ برسائل دعمهم المكتوبة التي سأنشرها لاحقا. وكنت أقول دائما إن الرد على اللاأخلاق يكون بالأخلاق، ووسيلتي الوحيدة في الدفاع عن نفسي كانت ولاتزال هي عملي. تلك الحملة كانت ممنهجة لتشويه صورتي من كل الجوانب، وصرف عليها أصحابها ثروة، وسيأتي وقت أكشف فيه كل من تورط فيها، وسأعلن حقائق خطيرة جدا. { من الذي تورط فيها؟ الذين تورطوا فيها هم أشخاص غير عاديين، وكان ذلك عن طريق الخطأ للأسف. { كيف أنها كانت ممنهجة، وفي الوقت نفسه عن طريق الخطأ؟ الأساس كان هو الحسد، أشخاص مقربون كان تغيظهم علاقاتي بشخصيات مهمة في المغرب، وسعوا إلى الوصول إليهم لمحاولة تخريب علاقاتي بهم، وتحققي مآرب معينة، وفعلا استطاعوا اليوم ذلك. وما لا يعرفه من قاد تلك الحملة هو أنها كانت فرصة لأُعرَف أكثر وأحظى بتكريمات وجوائز أكبر، وصرت أعلن كل أعمالي بعدما كنت أشتغل وأبدع أعمالا كثيرة بعيدا عن الأضواء. واليوم، رغم كل شيء، أقول لهم شكرا لأنهم خدموني من حيث لا يدرون رغم الإساءة. { أين وصل الموضوع اليوم قضائيا؟ لم أُنصف إلى غاية اليوم، لكن وصلنا إلى النقض والإبرام الذي تمت الموافقة عليه. لن أتنازل عن حقي، ولن أقول إني أريد رد اعتباري لأني لم أفقده أساسا. { بخصوص الموسيقى المغربية، كيف ترين واقعها؟ مؤخرا، كنت عضوا في لجنة الدعم الموسيقي لوزارة الثقافة، وتحسرت وأنا أطالع الأغلفة التي تقدمت للترشح، إذ لا شيء بينها استطاع أن يبهرني، وقليلة جدا هي الأعمال التي كانت جيدة. وهنا لا أحمل المسؤولية لهؤلاء الشباب المترشحين، المتجهين نحو تقليد الأغنية الشبابية التي نسمعها على القنوات العربية وغيرها، صحيح أنه لدينا قدرات فنية جميلة لكن من الصعب المزج بين ما هو تجاري وما هو فني وإبداع صرف. نحن بحاجة إلى الاهتمام بالموسيقى المغربية وعدم حصرها في الوتر والدربوكة. يجب على الفنان الموسيقي المغربي أن يرفع مستواه حتى يراه الجمهور كذلك، بالاجتهاد كما يجتهد موسيقيو العالم الغربي في النهل من الموسيقى الشرقية وغيرها، لأن المغرب يتوفر على إيقاعات مختلفة غنية. والأغنية المغربية ليست بخير في ظل غياب المنتجين، وأعتقد أنه يستحيل تطوير الموسيقى المغربية في غياب دراسة التأليف الموسيقي، فلا يمكن لشخص أن يكون ملحنا ما لم يصل إلى مستوى أكاديمي يستطيع معه التأليف بمجموعة من الآلات. { يقال إن الموسيقى المغربية أحادية الصوت، هل هذا ما جعلك تتوجهين نحو المزج بين ألوان موسيقية عديدة غيرها؟ صحيح أنها أحادية الصوت ولكنها شيء جميل مميز لما تتوفر عليه من زخرفة، وهي ميزة خاصة لا تقليد لها، وهي غنية بمقاماتها، ولو انطلق المبدع المغربي من دراسة أكاديمية في التأليف للموسيقى المغربية لأمكنه أن يضيف إليها «الهرننة»، وهذا يمكنه أن يخلق ثورة موسيقية. { تحضرين لإخراج كتاب، أين وصل هذا المشروع؟ أهدف من خلال هذا الكتاب إلى توثيق كل التيمات والأعمال التي اشتغلت عليها بشكل أكاديمي تقني، لأني أومن بالتوثيق. وأتحدث فيه عن غنائيات البحر الأبيض المتوسط، وأتعرض فيه لأوجه التشابه والتطابق ما بين الموسيقى الغربية والشرقية، حيث أحاول عبره أن أظهر للعالم أن هذا الغنى مصدره نحن المسلمون. وقد تأخر الكتاب لأني أضيف إليه كل مرة أفكارا جديدة، وسيصدر في أفق سنة 2015.