بعد انتظار طويل دام أكثر من سنة أعلنت وزارة التربية الوطنية عما أسمته خارطة طريق 2022-2026: اثنا عشر التزاما من أجل مدرسة عمومية ذات جودة. ويحق للمرء أن يتساءل عن الأسباب الكامنة وراء هذا التأخير خاصة وأن الأمر لا يتعلق سوى بمهمة واضحة عنوانها تفصيل ما تعتزم الحكومة إنجازه للوفاء بما جاء به القانون الإطار للتعليم وما سطرته قبله الرؤية الاستراتيجية 2030 من توجهات لوضع قطار الإصلاح على السكة الصحيحة. ومهما تكن الدواعي فقراءة الوثيقة التفصيلية لخارطة الطريق تمكن من استنباط مجموعة من الاستنتاجات أهمها أنها التزمت إجمالا بمقتضيات القانون الإطار إلا في بعض القضايا على أهميتها، وتبنت مقاربة اعتبرتها جديدة وتحدث قطيعة مع الأساليب السابقة في أجرأة الإصلاح، وتفادت مواجهة بعض الإشكالات الحقيقية، كما أنها تبنت آليات للجودة أثبتت جدارتها في الدول المتقدمة، لكنها اعتمدت آليات أخرى لم تتأكد فعاليتها في الدول التي تبنتها. وهكذا فالخارطة الجديدة يمكن اعتبارها إخراجا جديدا لتوجهات أضحت معروفة اليوم لدى الجميع بعد مرور سبع سنوات على الرؤية الاستراتيجية التي أنتجتها. وبغض النظر عن الجانب الشكلي الذي يبرز أهمية الدوائر الثلاث للمنظومة التربوية وهي التلميذ والأستاذ والمؤسسة التعليمية الذي يوحي بالتركيز على المحيط القريب من المستفيد الأول من الخدمات التربوية الذي هو التلميذ، فإن التمحيص في المضامين يمكن من رصد التوافق الواضح مع ما جاء في القانون الإطار للتعليم على العموم، رغم خلوها من بعض القضايا التربوية الهامة التي نص عليها. من بين هذه القضايا التي أهملتها خارطة الطريق يمكن أن نذكر دمج التعليم الأولي في التعليم الابتدائي، وربط التعليم الابتدائي بالتعليم الإعدادي، وإقامة وتطوير وحدات للدعم النفسي وخلايا للوساطة تشرف عليها أطر متخصصة وتعميمها على الصعيد الوطني. قد يكون سبب إغفال هذه القضايا تبني مقاربة التركيز على الأولويات، وهو توجه جيد، غير أن المتأمل فيها لا تخفى عليه أهميتها. بالإضافة إلى ذلك فإن بعض التدابير المقدمة تبقى ناقصة لعدم إرفاقها بالآليات المؤسساتية التي نص عليها القانون الإطار. فعند الحديث عن مراجعة المنهاج الدراسي لم تتطرق خارطة الطريق إلى اللجنة الدائمة للبرامج التي تم إحداثها بمرسوم منذ أكثر من سنة وهي المخولة بهذه المراجعة، ولم تضع ضمن أولوياتها إعداد الإطار المرجعي للمنهاج والدلائل المرجعية للبرامج والتكوينات المنصوص عليها في القانون الإطار. وفي موضوع اللغات أكدت الخارطة على توسيع تدريس الامازيغية بالابتدائي، وتقوية تدريس الفرنسية في جميع الاسلاك وتوسيع تدريس الإنجليزية في السلك الثانوي بنوعيه لكنها أهملت اللغة العربية ولم تذكرها بتاتا، رغم أن القانون الإطار أوصى بمراجعة عميقة لمناهج وبرامج تدريس اللغة العربية، وتجديد المقاربات البيداغوجية والأدوات الديداكتية المعتمدة في تدريسها. وفي مجال التقييم الذي شكل أولوية كبرى في خارطة الطريق نظرا لدوره الكبير في تحسين جودة التعليم لم يتم الالتزام بتفعيل الإطار الوطني المرجعي للإشهاد والتصديق الذي يتضمن على الخصوص قواعد ومعايير تصنيف وترتيب الشهادات. من جهة أخرى نصت الخارطة على وضع نظام أساسي موحد لجميع أطر التدريس مضمون من طرف الدولة لكنها لم تلتزم بوضع الآلية التي بدونها لا يمكن الحديث عن نظام أساسي يحترم المعايير العلمية المعمول بها. هذه الآلية هي الدلائل المرجعية للوظائف والكفاءات التي تحدد مهام وكفايات الأطر التربوية والإدارية المنتمية لمختلف الفئات المهنية العاملة في مجالات التربية والتكوين وتعتمد لإسناد المسؤوليات التربوية والعلمية والإدارية، وتقييم الأداء، والترقي المهني. وفي هذا الباب فإن القانون الإطار ألزم السلطات الحكومية المعنية بملاءمة الأنظمة الأساسية الخاصة بمختلف الفئات المهنية مع المبادئ والقواعد والمعايير المنصوص عليها في الدلائل المرجعية المذكورة. فضلا على ذلك فقد أهملت الخارطة الجانب التشريعي ولم تقد أي التزام بخصوص إخراج النصوص التشريعية والتنظيمية التي حتم القانون الإطار وضعها في مسطرة المصادقة في أجل لا يتعدى ثلاث سنوات على صدوره وهو الموعد الذي تجاوزناه بأكثر من ثلاثة أشهر دون وجود بوادر على تدارك هذا الخلل القانوني. من جهة أخرى، ففي ادبيات التخطيط الاستراتيجي تعتبر الأهداف الاستراتيجية هي أساس تقييم أية خارطة طريق وتعتبر الالتزامات المنبثقة عنها مجرد عناصر تابعة تكون في خدمة الأهداف الاستراتيجية. لكن الملاحظ على خارطتنا هو اكتفاؤها بثلاثة أهداف استراتيجية مع حصر أحدها وهو المتعلق بالتعلمات الأساس في مضاعفة نسبة تلميذات وتلاميذ السلك الابتدائي المتحكمين في هذه التعلمات، الشيء الذي يترتب عنه تلقائيا عدم شمول خارطة الطريق لباقي الأسلاك على الأقل في شقها الذي يهم تحسين جودة التعلمات. وبالتالي لا تلتزم الوزارة صراحة بجودة التعلم في السلك الإعدادي ولا في السلك الثانوي التأهيلي. ورغم أن الخارطة تبشرنا بتبني مقاربة جديدة تتمحور حول الأثر داخل الأقسام فإنها تخلت عنها في صياغتها للهدف الثاني ذي الصلة بالأنشطة الموازية من خلال استهدافها مضاعفة نسبة التلميذات والتلاميذ المستفيدين من الأنشطة الموازية، وهي صيغة بعيدة عن المقاربة بالنتائج التي لو اعتمدت فعلا لأصبح الهدف هو نسبة التلامذة المتشبعين بقيم معينة مثلا لأن ذلك هو ما يمثل بالفعل الأثر الذي نبحث عنه لدى تلامذتنا. أما الاستفادة من الأنشطة فمجرد وسيلة لبلوغ هذا الهدف، وقد لا تمكن من تحقيقه إذا لم تتوفر لها الشروط المناسبة بما في ذلك التأطير الجيد. لقد تبنت خارطة الطريق نهجا جديدا ينهل من مقاربة التدبير العمومي الحديث التي تعتمد أساسا على تحديد مؤشرات رقمية للمخرجات ووضع معايير دقيقة لأهم متطلبات الإنجاز والتقييم المنتظم للنتائج من أجل ربط التحفيز بالمردودية بالإضافة إلى تبني آليات ضمان الجودة بوصفها أدوات ومنهجيات تساعد على تحقيق النتائج المرجوة في مستوى الجودة المرجوة. تتضح تجليات هذا النهج فيما يلي: * قياس جودة التعليم الأولي من خلال تقييم وطني للمكتسبات عند ولوج التعليم الابتدائي * تحديد نواتج التعلم المنتظرة بشكل قابل للقياس يعكس الكفايات الواجب تملكها عند متم كل سنة دراسية * تقييم مستوى تعلمات التلاميذ بكيفية موضوعية مع نهاية كل سنة دراسية بواسطة مرصد لقياس التعلمات * مراجعة نظام الامتحانات والمراقبة المستمرة ليصبح أداة للارتقاء بالتعلمات * ضبط جودة تكوين الأستاذات والأساتذة من خلال "معهد الأستاذية " * إرساء نظام جديد لتقييم أداء أطر التدريس يعتمد على معايير أكثر موضوعية وإنصافا، تمكن من تثمين المردودية * تحسين دخل أطر التدريس وفق مردوديتهم ومساهماتهم في تعلمات التلاميذ * إرساء نظام لعلامة الجودة تمنح من طرف جهاز مستقل من أجل تجويد وقياس أداء المؤسسات التعليمية وتمتيعها بهامش تصرف أوسع وموارد إضافية * العمل بعقود النجاعة في كل مستويات المنظومة التعليمية تحدد انطلاقا من الأهداف الاستراتيجية وإذا كانت هذه التدابير تخدم بلا جدال جودة المنظومة التربوية فإن الأخذ بها يقتضي مراعاة بعض المتطلبات التي بدونها قد نصل إلى نتائج عكسية وهو ما لا نتمناه. لقد بينت الدراسات المنجزة على الأنظمة التي تبنت هذه المقاربة بأن الإفراط فيها يضع الفاعلين تحت ضغط نفسي رهيب تكون من عواقبه الهروب من مهنة التدريس والتركيز المفرط على تحقيق نواتج التعلم دون اكتراث كبير بالمضامين. كما أن عدم إرفاق نظام الجودة بتدابير تضمن تكافؤ الفرص يسهم في تكريس الفوارق الاجتماعية والمجالية من خلال التراتبية التي يحدثها بين المؤسسات التعليمية. بالإضافة إلى ذلك فإن هذا النهج يقتضي بالضرورة توفير ظروف الاشتغال المناسبة لجميع الأطر التربوية والإدارية وتوفير الحد الأدنى من الإمكانات لجميع المؤسسات التعليمية وتخويلها الاستقلالية اللازمة لكي تكون مسؤولة حقا عن أدائها. دون أن ننسى أن نظام الجودة مرتبط بتحديد المعايير في جميع مستويات المنظومة بشكل دقيق مع مراعاة التوجهات الاستراتيجية المتضمنة في الرؤية الاستراتيجية وأحكام القانون الإطار وفق مقاربة علمية مضبوطة ومعمقة هدفها تحقيق جودة التعلمات لجميع المتعلمين والمتعلمات. إن الانتقال من مقاربة تتمحور حول الوسائل والتدابير المسطرية إلى ثقافة إصلاحية تتمحور حول الأثر داخل الأقسام شيء مطلوب ومن شأنه أن يكرس ثقافة المردودية وربط المسؤولية بالمحاسبة، لكن ذلك لا ينبغي أن يفهم بأنه يشكل قطيعة مع مقاربة الوسائل ومقاربة السيرورات أو التدابير المسطرية كما سمتها الخارطة، لأنهما ببساطة مقاربتان لا غنى عنهما في كل تدبير إداري أو تربوي. بل يمكن القول بأن منظومتنا التربوية تعاني من نقص حاد في المساطر، والكثير من العمليات ذات الأهمية الكبيرة لا تحكمها أية مساطر وتظل عرضة للتدبير العشوائي والمزاجية الإدارية. وإذا كنا اليوم نحيي الوزارة على تبني المقاربة بالنتائج فإننا ندعوها في نفس الوقت إلى تحديد معايير واضحة لمدخلات المنظومة التربوية وسيروراتها وإرفاق ذلك بوضع المساطر الضرورية مع تبسيطها بالشكل الذي يضمن يسر تطبيقها. أما تبني التجريب قبل التعميم فقد يكون مطلوبا بالنسبة لكل ما هو جديد ونتائجه تحتاج إلى تأكيد ولا يشكل أي ضرر محتمل للفئة الخاضعة للتجريب، لكن لا يمكن اللجوء إليه بشكل ممنهج في كل ما تتبناه الوزارة من حلول، خاصة إذا كان الأمر يتعلق بإصلاح متعدد الأبعاد كما حصل مع نظام البكالوريوس الذي جربته وزارة التعليم العالي السنة الماضية على عينة كبيرة من الطلبة وحين تم التراجع عنه هذه السنة خلف ذلك انعكاسات سلبية كبيرة على ضحايا هذا التجريب. كما أن التجريب ينبغي أن يطال السياسات والممارسات التي أثبتت بالفعل جودتها وجدارتها في بيئة تعليمية أكثر فعالية من بيئتنا التعليمية أما أن نستورد حلولا جاهزة من دول لا تتميز عن منظومتنا التربوية في شيء، كما وقع في مجال الدعم التربوي، فلن يفيدنا كثيرا خاصة إذا كان الأمر يتعلق بمهمة تدخل ضمن المهام الاعتيادية للمدرسين، إذ كان يكفي أن نطلب من خبرائنا التربويين الانكباب على الموضوع لاقتراح الحلول العملية للتعثر الدراسي الذي يعاني منه المتعلمون والمتعلمات. إننا اليوم أمام منعطف هام يقتضي تعبئة الجميع من أجل التنزيل السليم لخارطة الطريق الجديدة التي تتميز بقدر كبير من التماسك المنهجي وتسعى إلى تبني ثقافة الجودة وآلياتها بشكل شمولي بعدما سبق للوزارة أن فعلت ذلك ولكن فقط على سبيل التجريب بين 2010 و2012، كما أنها تسعى إلى استخلاص الدروس من فشل الإصلاحات السابقة من خلال تركيزها على تقوية قدرات الفاعلين ودعم استقلاليتهم وحفز مسؤوليتهم، و تبني مقاربة نسقية لضمان تظافر الجهود من أجل تحقيق الالتقائية والانسجام بين جميع العمليات، ودعم انخراط والتزام كل الأطراف المعنية من خلال الشراكات التعاقدية، وضمان زيادة سنوية في التمويل تصل إلى خمس مليارات. نتمنى أن يتم تقوية ذلك كله بتدارك ما تم التنبيه إليه في هذا المقال ودعم التمويل الإضافي بحكامة مالية تضمن الفعالية والشفافية في صرف الميزانيات حتى نتفادى ما حصل مع البرنامج الاستعجالي من عدم الوفاء بالكثير من الالتزامات رغم توفر التمويل المطلوب. كما نتمنى أن تنجح الوزارة في تنفيذ هذه الخارطة لأن الإصلاحات السابقة لم تكن تعوزها الخرائط بقدر ما كانت تفتقد إلى الفعالية في التنفيذ، وهو الموضوع الذي سنتناوله بالتفصيل في مقال قادم.