عرت فاجعة طنجة، التي أودت بحياة 28 عاملا في وحدة لصناعة النسيج وصفها مصدر من السلطات المحلية في المدينة ب"السرية"، جزءا من الواقع البئيس الذي يكابده الآلاف من العمال في المئات من الأقبية و"الكراجات" وسط الأحياء المأهولة على مرأى ومسمع الجميع في رحلة البحث عن لقمة عيش "ملغمة". ولم يقنع وصف المصنع ب"السري" من طرف السلطات كثيرا من المغاربة، وطرح أكثر من علامة استفهام حول حقيقة التوصيف. وفق معطيات حصل عليها "اليوم 24′′، فإن المصنع الذي بات يعرف ب"مصنع الموت"، ليس إلا واحدا من بين المئات من الوحدات الصناعية المشابهة، التي لا يكاد يخلو حي منها، إذ أن مصادر مهنية وجماعية قدرتها بالمئات. في الوقت الذي أكد مصدر من جماعة طنجة للموقع أن عددها كان يفوق 200 مصنع في حدود سنة 2016، سجل (ي.ط) وهو صاحب مصنع في أحد الكراجات بحي "بير الشفا" الشعبي، أن هذا الرقم "لا يعكس حقيقة حجم هذا النوع من الورشات"، مؤكدا أن المعدل يمكن أن يكون ضعف ذلك انطلاقا من تجربته واحتكاكه بالقطاع. فهل كان "مصنع الموت" سري فعلا؟ قصة المعمل "المشؤوم" يقع المعمل الذي كتبت فيه نقطة النهاية المأساوية ل28 عاملا وعاملة، في منطقة مأهولة تطل على شارع رئيسي بالمدينة، شهد تغييرات مهمة في إطار مشروع طنجة الكبرى، تعاقب على استغلاله عدد من الأشخاص منذ أزيد من 15 سنة، وسط المباني التي أقيمت في منطقة غير صالحة للبناء في الأصل، وفق مصدر من جماعة طنجة، نظرا لأنها كانت مجرى لواد السواني. وتشير المعطيات والوثائق التي حصل عليها الموقع، إلى أن صاحب شركة "A&M confection" عادل البليلي، الذي نجا بأعجوبة من الغرق في الحادث، يتوفر على سجل تجاري مسجل بتاريخ 15/02/2017، يحمل اسم الشركة وعنوان المحل الذي غمرته المياه. ووقع صاحب الشركة الذي وصف ب"السري" عقد كراء تجاري مع صاحب المحل، الكائن بتجزئة أناس طريق الرباط رقم 16، وهو عبارة عن "كراج" بالطابق الأرضي، وذلك لاستغلاله من أجل مزاولة نشاط خياطة الملابس الجاهزة ابتداء من 1 فبراير 2017، بمبلغ قدره 12 ألف درهما، ويحمل العقد ختم مقاطعة بني مكادة، الواقع المحل في مجالها الترابي، مصادق عليه بتاريخ 17 يناير 2017. ويتوفر صاحب الشركة على "ICE" وهو رقم التعريف الموحد للمقاولات والمسجل تحت رقم: 00186180000033، برأسمال يقدر ب100.000 درهم، وهو ما تبينه الوثائق. معطيات أخرى حصل عليها الموقع تجعل موضوع "السرية" على المحك، إذ أن أحد العمال الناجين من المعمل المنكوب، أكد أنه استفاد رفقة عدد من زملائه من الدعم الذي خصصته الحكومة لدعم المقاولات في ظل جائحة كورونا، بعد فرض الحجر الصحي الشامل، والتي امتدت لثلاثة أشهر، بل أكثر من ذلك، أكد عمال في المصنع أن غالبية الطلبيات التي يشتغل عليها كانت توجه للتصدير نحو الخارج. وقال القائم على الإنتاج في المصنع، في مقابلة مع الموقع: "نشتغل عن طريق المناولة لفائدة الشركات الكبرى التي تتعامل مع السوق الخارجية"، وأضاف موضحا "أتذكر أن جل الطلبيات كانت توجه للخارج، ومن العلامات التجارية التي اشتغلنا لفائدتها عن طريق المناولة نجد الشركة "زارا" الشهيرة". وزاد مبينا أن المصنع اشتغل خلال أواخر أبريل وبداية ماي الماضيين، على إنتاج وتصنيع الآلاف من الكمامات ووزرات الأطباء الموجهة للتصدير، قدرها بحوالي 20 ألف كمامة والمئات من الوزرات الطبية. في السياق ذاته، أكد تقني إصلاح آلات الخياطة بالمعمل عبد الرحيم الغطفاني، أنه التحق بالمصنع منذ عام ونصف، وكان مصرحا به في صندوق الضمان الاجتماعي، وهو بدوره استفاد من الدعم المخصص لجائحة كورونا، ما يعني أن المعمل "السري" كان من ضمن المقاولات التي استفادت من الدعم المخصص للجائحة. غياب رخصة "الاستغلال" بالمقابل، لا يتوفر المعمل على رخصة استغلال خاصة بالمحل الذي كان يزاول فيه صناعة النسيج، وهو الأمر الذي أكده أحمد الطلحي، رئيس لجنة التعمير وإعداد التراب والمحافظة على البيئة بجماعة طنجة. وأفاد الطلحي، في حديث للموقع، بأن المصنع الذي غمرته سيول الأمطار، "غير قانوني من ناحية مجال التعمير"، موضحا أن ظاهرة استغلال "الكراجات" والأقبية" في صناعة النسيج بمدينة طنجة "واسعة الانتشار، ورخصة الاستغلال لا تمنحها الجماعة إلا بناء على مجموعة من الشروط التي تحسم في إمكانية احتضان الفضاء للنشاط الاقتصادي المطلوب أم لا". غير أن المسؤول الجماعي، عاد وأكد أن عدم التوفر على رخصة الاستغلال، يمثل "حالة عامة بالنسبة لجميع أصحاب هذه المصانع والورشات التي لا يخلو حي منها"، معتبرا أن صاحب المصنع كان يعمل بشكل "قانوني بالنظر لقانون تأسيس الشركات والمقاولات من ناحية التأسيس والتسجيل والأداء الضريبي والتصريح بالعمال، لكنه يصبح خارج القانون بالنظر للمكان غير المرخص له، ويزاول نشاطا قانونيا بالنسبة لقانون المقاولات، ولكن الغير قانوني هو استعمال هذه الوحدات الصناعية في الأحياء السكنية والبنايات المعدة للسكن". وحول حدود مسؤولية مفتشي الشغل في الحادث، قال مصدر حكومي، إن مفتشي الشغل لا يمكنهم القيام بمهام التفتيش إلا في حالتين، مبينا أن المعطيات المتوفرة تؤكد "عدم التقيد بمقتضيات المادة 135 من الكتاب الثاني المتعلق بشروط الشغل وأجر الأجير، من مدونة الشغل"، والذي ينص على أنه "يجب على كل شخص، طبيعيا كان أو اعتباريا، يخضع لمقتضيات هذا القانون، يريد فتح مقاولة أو مؤسسة أو ورش، يشغل فيه أجراء، أن يقدم تصريحا بذلك إلى العون المكلف بتفتيش الشغل، وفق الشروط والشكليات المحددة بنص تنظيمي". ورأى المصدر ذاته، أنه "حتى لو كان صاحب المعمل يصرح بالأجراء في الضمان الاجتماعي، فإن ذلك لا علاقة له بجهاز التفتيش، الذي تبدأ حدود مسؤولياته بوجود تصريح لصاحب الشركة، أو لوجود شكاية من أحد العمال"، مبرزا أن مفتشي الشغل س"يساءلون إذا ثبت تلقيهم شكاية من أحد العمال، دون أن يقوموا باللازم، بغض النظر عن مدى وجود تصريح صاحب الشركة". وزارة الداخلية أمام هذا الوضع، تبرز مسؤولية وزارة الداخلية وممثليها عن الوضع، الذي أدى إلى تفريخ المئات من مصانع النسيج تحت أنظارها في مجموعة من المدن، من أبرزها طنجة والدار البيضاء وسلا وفاس، وشكلت مساءلة وزيرها عبد الوفي لفتيت في المجلس الوزاري من قبل الملك محمد السادس، إشارة دالة على ذلك. وبدا مثيرا شكل تعاطي سلطات وزارة الداخلية مع حادث طنجة، حيث لم تصدر أي بلاغ رسمي بشأن الحادث وفضلت "الاختباء" وراء مصدر من السلطة المحلية بالمدينة في تصريح لوكالة الأنباء الرسمية وصف فيه المصنع ب"السري" ما أجج غضب المغاربة. وبعد يومين من الحادث، دشنت السلطات المحلية حملة إغلاق في صفوف "الكراجات" و"الأقبية" التي توظف في صناعة النسيج، وأكدت مصادر مهنية ل"اليوم 24′′ بالمدينة، أن دورية تابعة للسلطات المحلية أمرت العديد من أرباب هذه المصانع المنتشرة في المدينة بإغلاقها من دون تقديم أي تفاصيل أو مبررات للقرار. بل أكثر من ذلك، أكد مصدر حكومي للموقع أن السلطات المحلية بسلا والدار البيضاء، أقدمت على تنفيذ حملة مماثلة لما شهدته طنجة خلال اليومين الماضيين، وأمرت بإغلاق مجموعة من المحلات التي لها نفس وضع مصنع طنجة المنكوب، وهو ما يجعل صفة "السرية" محل شك ويؤكد أن هذه المعامل تشتغل تحت أنظار السلطات. استقرار واستغلال فماذا يكسب المغرب من وراء هذه المصانع "السرية"؟ سؤال يطرح نفسه بقوة على جميع المتدخلين والمسؤولين، فوفق إحصاءات رسمية، أكد مصدر مهني، فضل عدم ذكر اسمه، أن قطاع النسيج بالبلاد يشغل 600 ألف عامل ثلثهم يشتغلون في مصانع مشابهة لوضعية مصنع طنجة، ما يعني أن هذا النوع من الشركات تؤمن فرص عمل لآلاف الأسر في مختلف المدن الكبرى وأحيائها الفقيرة، وهو ما يجعلها عنصرا فاعلا في تحقيق السلم والاستقرار الاجتماعي. مصدر مسؤول في مركزية نقابية، لم يرغب في ذكر اسمه أكد للموقع، أنه في لقاء مع وزير داخلية سابق، أثير موضوع "حقوق العمال الذين يشتغلون في مصانع وورشات لها نفس وضعية مصنع "الموت" بطنجة، أو في وضع أسوء منه، تنتهك فيه حقوق العمال، ولا يتم التصريح بهم في الضمان الاجتماعي، بينما الدولة تراقب من بعيد، وتترك العجلة تدور"، فكان رد الوزير أنه "غير ممكن مطلقا إغلاقها، وقال بالحرف: "واش بغيتو الفوضى"، وفق المصدر المذكور. لكن هذا الوضع، لا تستفيد منه الدولة لوحدها، بل يعتبر مهنيو القطاع أن شركات النسيج الكبرى، هي أكبر مستفيد وتراكم أرباحا خيالية من وراء هذه الورشات الغير آمنة، وهو ما دفع أحدهم لوصف أصحاب هذه المصانع ب"الحمالة". وقال (ي.ط): "شوف أخاي عادل (صاحب المصنع الذي غرق فيه العمال) وأمثاله مجرد حمالة، يتسلمون الطلبيات عن طريق المناولة من أصحاب المصانع الكبرى في المدينة ويصنعونها ويعيدونها لهم بثمن أقل"، الأمر الذي يبين أن هذه المصانع "السرية" في حقيقة الأمر تشتغل لصالح أرباب المصانع الكبرى. ووفق شهادات لمهنيين، فإن مصانع النسيج الكبرى بالمدينة تكون مضطرة للاستعانة بمثل هذه المعامل، بسبب الطلبيات الكبيرة والعقود التي تربطها مع الشركات العالمية، فيدفعها ضيق الحيز الزمني لتسليم هذه الطلبيات إلى الاستعانة بالمصانع "السرية" تفاديا لفقدان شركائها العالميين، وهو خيار سهل وأقل كلفة مقارنة مع خيار توسيع الشركة وتشغيل يد عاملة جديدة لتأمين طلبيات زبنائها من الشركات والماركات العالمية. وفي ظل هذه المعادلة، يبقى العامل الحلقة الأضعف والأكثر عرضة للاستغلال والمخاطر التي تبلغ حد الموت، كما جرى في الحادث الذي هز البلاد وخلف مآسي وقطع أكباد العشرات من الأسر على أبناءها الذين ماتوا وهم يبحثون عن منفذ يعصمهم من الماء الذي أغرق كل شيء. تفاصيل مرعبة للواقعة يحكي محسن بودجاجة البالغ من العمر 35 سنة، والمتحدر من قرية با امحمد بإقليم تاونات، ل"اليوم 24′′، تفاصيل القصة المرعبة لغرق 28 من زملائه في المعمل المذكور: "أنا المسؤول عن الإنتاج في المعمل وكنا في ذلك اليوم 35 شخصا في الطابق السفلي من المعمل وبالكاد نجونا 6 أو 7 أشخاص"، موضحا كيف كانت رغبته في التدخين سببا في إنقاذ حياته، "إشعال سيجارة نجاته من المصير الذي لاقاه زملاؤه هو أنه كان صاعدا لتدخين سيجارة". ويواصل الشاب المتزوج والأب لأربعة أطفال سرد تفاصيل اللحظات المرعبة التي عاشها في تلك الفترة الوجيزة ويده ترتعد، "كان الجميع يهم بالصعود بعدما نادى عليهم أحد العمال، لكن مياه الأمطار تسربت بشكل رهيب وأعادت الجميع إلى الأسفل ليقضوا غرقا في دقائق معدودة". وأضاف بودجاجة والحسرة بادية على محياه: "مر كل شيء بسرعة كبيرة. وسمعت الصراخ في اللحظات الأولى من غمر المياه المعمل، وفي ظرف 10 دقائق كان الأمر قد انتهى وتوفي جميع من كانوا في الطابق السفلي لأن مياه الأمطار غمرته بالكامل ولا يوجد أي منفذ أو مخرج للنجاة". ويتذكر ابن قرية با امحمد بإقليم تاونات، كيف أفلت من يده أحد زملائه الذين كانوا يحاولون مغادرة الطابق السلفي، إلا أن قوة التيار سحبته إلى الأسفل وحال بينهما الماء فكان من المغرقين، وقال بلكنته الجبلية: "محمد الشريف "فلت لي من يدي الخاوا" ونجوت من الموت المحقق بسبب الدخان (التدخين)". ضحايا وقصص حكى لنا الناجي الوحيد الذي عايش عن قرب اللحظات الأخيرة قبل وقوع "الكارثة"، قصة الزوجين اللذين توفيا في المعمل، من بين القصص التي دفنت مع أصحابها، وقال إن "الزوج كان قد اقترب من مغادرة الطابق السفلي فتذكر زوجته الموجودة مع العالقين، فعاد لينقذها ليواجها قدرهما المحتوم". ومن بين القصص المثيرة أيضا، في الحادث الأليم، غرق الأخوات الأربع اللائي قضين دفعة واحدة في الحادث، بينما نجت والدتهن التي كانت في الطابق العلوي من المصنع رفقة بعض الناجين الآخرين، وكانت إحداهن على أبواب عقد قرانها في مارس المقبل. وفي قصة أخرى لا تقل إثارة، أورد المتحدث ذاته، أن إحدى العاملات تأخرت عن الالتحاق بالعمل في الوقت المحدد في 7:30 صباحا، قبل أن تصل في حدود التاسعة لمقر العمل وكانت الظروف عادية، لكن بعد 20 دقيقة بالضبط، لاقت قدرها المحتوم مع زملائها وزميلاتها، كما سجلت الواقعة وفاة أحد الشباب رفقة ابن عمه، وذلك في أول يوم عمل له. مهما بلغ حجم المأساة، فإن سيناريو تكرارها يبقى واردا في أي حي من أحياء طنجة أو المدن المشابهة لها، التي اضطرت الظروف الاجتماعية الصعبة آلاف المغاربة للعمل في مقرات لا تحترم المواصفات اللازمة تحت أعين السلطات التي تغض عيونها في الكثير من الأمور الأساسية وتفتحها أكثر من اللازم في قضايا تسمن ولا تغني المغاربة في شيء. فهل تكون مساءلة الملك محمد السادس لوزير الداخلية في المجلس الوزاري حول واقعة طنجة والتدابير التي تم اتخاذها لتفادي تكرار مثل هذا الحادث، مدخلا للدفع نحو إيجاد حل نهائي ل"العشوائية" التي خلفت مآسي متكررة، سيكشف الزمان قدرة "التصور الأولي" الذي رد به لفتيت على استفسار الملك قدرته وجديته في القضاء على إمكانية تكرار "الفاجعة".