من يعتقد أن مناوشات جبهة البوليساريو تهدف إلى تكرار جريمة أكديم إزيك في الكركرات، إنما يعيد تكرار تصريحات رئيس الجبهة، إبراهيم غالي، قبل أسابيع على القناة العمومية الجزائرية. يبدو أن الأمر أبعد من ذلك، ويتعلق بمرحلة جديدة من الصراع مع الجزائر، بعدما انضافت قضايا جديدة إلى سجّل المواجهة المفتوحة التي تميز العلاقات الثنائية بين البلدين، والتي تتسم بتوتر بنيوي متحكم فيه حتى الآن. تقليديا، كان الصراع حول الحدود والصحراء، بما يعكسه ذلك من تنافس شرس في الزعامة الإقليمية، لكن، في السنوات الأخيرة، انضافت قضايا جديدة إلى سجل المواجهة بين البلدين، تتعلق أساسا بتدبير الخلافات داخل مؤسسات الاتحاد الإفريقي، والتنافس في إدارة الأزمة في ليبيا، فضلا عن الوضع الهش في منطقة الساحل والصحراء. لماذا؟ لأن تلويح جبهة البوليساريو بتكرار أكديم إزيك في الكركرات، على لسان إبراهيم غالي، يؤكد، أولا، مسؤوليتها المباشرة عن كل ما يقع بالكركرات وما قد يقع مستقبلا، ويجعلها، بالتالي، مسؤولة عن أي تطور سلبي أمام المنتظم الدولي والإقليمي، أما القول إن الاعتداء على أي عنصر في الجبهة يعرقل حركة التجارة والمرور في الكركرات سيكون بمثابة عودة إلى الحرب، فهو، فضلا عن كونه يشكل مروقا من الشرعية الدولية، يعد تهديدا للأمم المتحدة قبل المغرب، وهو ما تدركه الأممالمتحدة التي تدخلت في محاولات سابقة من خلال عناصر بعثة المينورسو، بشكل حازم، لمنع وقف الحركة التجارية والمدنية السلمية على الحدود الموريتانية المغربية. وعليه، فأي محاولة للبوليساريو لتكرار جريمة أكديم إزيك في الكركرات لن تغير شيئا في الواقع، سوى أنها ستجعل من البوليساريو، مرة أخرى، منظمة مارقة أمام المجتمع الدولي. لذلك، يبدو لي الأمر أبعد من ذلك، ويتعلق بمحاولة جزائرية للتشويش على الامتداد المغربي المتزايد عبر موريتانيا نحو غرب إفريقيا، لعدة أسباب: أولا، لأن الطريق البري الذي دشنته في غشت 2018 لتكون بديلا للطريق المغربي عبر الكركرات نحو موريتانيا وغرب إفريقيا، تبدو نتائجه محدودة جدا، ويمكن القول إنه خطوة فاشلة من لدن الجزائر، والدليل على ذلك الاستعاضة عن الطريق البري الجزائري الموريتاني، منذ أبريل الماضي، بخط جوي عبر طائرات شحن تعمل تحت شعار: «التمر مقابل السمك»، لكن المعطيات المتوفرة إلى حد الآن تشير إلى أن الخط الجوي مهدد بالفشل أيضا. ثانيا، تبدو الجزائر منزعجة جدا من الاستثمارات المغربية في الصحراء، ليس في ما يتعلق بحيوية ودينامية الخط البري عبر الكركرات مع موريتانيا فحسب، بل من مشروع الميناء الأطلسي شمال مدينة الداخلة أساسا، والذي سيشكل منفذا استراتيجيا للمغرب ولبلدان غرب إفريقيا تجاه بعضهما البعض، وتجاه العالم، بما يعنيه ذلك من نسف مسبق لمشروع ميناء الحميدانية التي تريد الجزائر إقامته في تيبازة، وتسعى إلى أن يكون أكبر مرفأ بحري في إفريقيا. لكن، في غياب خطوط تجارية نشطة، فإن المشروع يبقى مهددا بالفشل، لأن الجزائر لا تملك، إلى حد الآن، أي منفذ بري باتجاه إفريقيا سوى الطريق البري عبر موريتانيا، والذي أبان عن محدوديته كما أسلفت الإشارة إلى ذلك. ثالثا، ما يزعج الجزائر، كذلك، إقبال دول إفريقية على فتح قنصليات لها في مدينتي العيونوالداخلة، وهي خطوات لها دلالات سياسية ودبلوماسية كبيرة، تؤكد أن الصحراء تتحول بالفعل إلى صلة وصل بين المغرب وعمقه الإفريقي، ذلك العمق الذي تريد الجزائر أن تقطعه، دون جدوى. هكذا تبدو مناوشات الكركرات أبعد من حنين مجرم إلى جريمته، فهي، على الأرجح، تتعلق بمرحلة جديدة من التصعيد في السياسة الجزائرية تجاه المغرب، لكنها سياسة قديمة ومتكررة على كل حال، حيث ظلت الجزائر تتوهم أنها قادرة على حشر المغرب في الزاوية التي وضعته فيها الجغرافيا، لكن التطورات الجديدة، خصوصا عودة المغرب إلى الاتحاد الإفريقي، تكشف أن الاعتقاد الجزائري مجرد وهم فاسد، بل إن الأزمات التي تحيط بالجزائر من الجنوب ومن الشرق جعلتها، بقوة الأمر الواقع، مجرد درع واقٍ بالنسبة إلى المغرب من تلك الأزمات، والتي لا يمكن بلدنا إلا الاهتمام بها بالنظر إلى حيويتها بالنسبة إلى أمنه القومي، ما يدفع الجزائر إلى مزيد من التصلب الذي تعكسه الخطابات المتشنجة للرئيس الجديد تبون. من المؤكد أن التوتر بنيوي في العلاقات المغربية الجزائرية، لكنه توتر ظل متحكما فيه طيلة العقود الثلاثة الماضية، فهل تشكل القيادة الجديدة في الجزائر عنصر عدم استقرار في المنطقة؟ من المرجح أن الخطابات المتشنجة للرئيس تبون، والتي تنعكس سريعا في خطاب قيادة جبهة البوليساريو، قد تشكل، مؤقتا، عنصر تشويش وتوتر في المنطقة، لكن لا يبدو أن الجزائر العميقة مستعدة أو لها القدرة على الإخلال بالاتجاه الاستراتيجي الثقيل في العلاقة بالمغرب، خصوصا في ظل الأزمات المتصاعدة في ليبيا ومنطقة الساحل.