هل تحاول إسبانيا من خلال الزيارة الرسمية لرئيس حكومتها إلى الجزائر مدة يومين خلق نوع من التوازن في علاقتها بدول شمال إفريقيا لكي لا تكون مرتبطة أكثر بالمغرب، أم إن الأمر يتعلق بزيارة عادية؟ لاشك أن زيارة رئيس الحكومة الإسبانية، بيدرو سانشيز، تأتي في إطار محاولة الحفاظ على توازن علاقات إسبانيا بالجارين الجنوبيين اللذين تربطها بهما علاقات ومصالح اقتصادية وأمنية استراتيجية. المغرب شريك رئيس لإسبانيا في محاربة الإرهاب والهجرة السرية والتعاون الأمني، ويعتبر الشريك التجاري الأول لإسبانيا، لكن علينا ألاّ ننسى أن إسبانيا تستورد نصف الغاز الذي تستهلكه من الجزائر عبر أنبوب يمتد بين بني ساف في الجزائر وألميريا، وأن إسبانيا تعتبر الزبون الثالث للجزائر بعد فرنسا وإيطاليا، كما يجمع البلدين تعاون متصاعد في قطاعات اقتصادية استراتيجية مهمة، منها محطات معالجة المياه العادمة ومحطات تحلية المياه المالحة، وكذلك في مجال النقل وصفقات البنيات التحتية، وتحتل الجزائر الرتبة 15 في لائحة زبائن الصادرات الإسبانية والزبون الثاني في إفريقيا، وهذا ما يفسر حجم الوفد المرافق لرئيس الحكومة الإسبانية، والذي كان يضم ممثلين عن أكبر الشركات الإسبانية التي لها مصالح واستثمارات في الجزائر، وضم كذلك للمرة الأولى ممثلا عن إحدى أكبر النقابات الإسبانية UGT. يبدو أن الزيارة كانت لها بالأساس أهداف اقتصادية وأمنية. فإسبانيا تريد تعزيز حضورها في السوق الجزائرية، وإقناع الجزائر بلعب دور في محاربة الهجرة غير النظامية، وحماية العمق الاستراتيجي لجنوب أوروبا. هل تتفق مع هذا الكلام؟ كل الزيارات من هذا المستوى تكون مناسبة لتدارس الملفات الاقتصادية والأمنية بين إسبانيا وبلدان شمال إفريقيا، لكن هذه الزيارة تأتي كذلك في ظل تصاعد سباق التسلح بين المغرب والجزائر، وتحقيق المغرب نجاحا دبلوماسيا في إفريقيا باعتباره وسيطا في مناطق التوتر والنزاع، كمالي وليبيا. يجب ألا ننسى أن المتوسط يعرف تحولات استراتيجية وبروز لاعبين جدد بمساحة من التأثير تهدد التوازنات التي كانت سائدة، والجزائر وإسبانيا لا يقبلان بأي تهميش لدورهما في المنطقة، وكلاهما يبحث عن دور أكثر فاعلية، كما لا يمكن أن ننسى تأثير مشاركة بوديموس واليسار الموحد في الحكومة الإسبانية الحالية، واللذين يبديان رغبتهما في المزيد من التقارب مع الجزائر، وبالخصوص في ملف الصحراء، كما أن الشد الناعم للحبل بين المغرب وإسبانيا أصبح يهدد بعض المصالح الإسبانية، وغالبا ما كانت إسبانيا تلجأ للضغط على المغرب عبر سياستها الخارجية. يجب أن نستحضر مجموعة من الملفات الاقتصادية والسياسية التي رفعت، ولو بشكل طفيف وغير مُعلن، سقف التوتر بين حكومة سانشيز والخارجية المغربية، منها موضوع الصحراء وموضوع الحدود مع سبتة ومليلية. ولا شك أن الجزائر أدركت أهمية ثلاثية الأمن والهجرة ومحاربة الإرهاب في علاقتها بإسبانيا والاتحاد الأوروبي، وهي تُبدي الآن استعدادا للعب دور أكثر فاعلية ونشاطا يقوي موقعها الإقليمي، ويقلص مساحة الدور المغربي الذي يكاد ينفرد بهذه الملفات التي جعلت منه شريكا تفضيليا للاتحاد الأوروبي. ماذا يقصد سانشيز من العاصمة الجزائر عندما تحدث عن مراهنة الجزائر على «حل النزاعات المجمدة التي ابتلي بها سكان المنطقة منذ عقود عدة». هل هي رسالة غير مباشرة إلى الجزائر للانخراط بشكل جدي في حل نزاع الصحراء؟ يتخلل تصريح بيدرو سانشيز بعض الغموض المتعمد، بهدف توجيه رسائل إلى الطرفين، لكن الأكيد أنه يعني كذلك، بالإضافة إلى نزاع الصحراء، الوضع في مالي وليبيا، وفيه إرضاء ضمني للجزائر التي لا تُخفي انزعاجها من الدور الدبلوماسي المغربي المتصاعد. كانت سياسة إسبانيا الخارجية في شمال إفريقيا، ومع المغرب بالخصوص، تقوم دائما على تعزيز علاقاتها بجيرانها، مع الحرص على ألا يتحولوا إلى قوة إقليمية، ومن هنا يأتي حفاظها على توازن علاقتها بين المغرب والجزائر، إلى جانب تنويع مصالحها معهما. لماذا اختار الاشتراكي سانشيز زيارة الجزائر رسميا في هذا التوقيت بالضبط، رغم أن لديه قضايا ملحة ومستعجلة داخليا؟ يتشكل التحالف النيابي الذي أفرز حكومة بيدرو سانشيز، بالإضافة إلى الحزب الاشتراكي، من حزب بوديموس وأحزاب جهوية لها علاقات تاريخية مع الجزائر، مثل الأحزاب الباسكية التي كانت بعض قياداتها لاجئة في الجزائر إلى غاية العقد الأول من الديمقراطية، وكذلك الحزب الجمهوري الكطلاني، وهي الأحزاب التي بيدها مفتاح استمرار هذه الحكومة والتصويت على قانون الميزانية. تجعل هذه المعادلة من بعض السياسات الخارجية تنفيسا عن الأزمة الداخلية، وفي هذا السياق، تأتي هذه الزيارة التي يعتبرها بعض المحللين الإسبان أنها جاءت متأخرة لارتباطها بمصالح إسبانيا الاستراتيجية التي لا تقل أهمية عن التي تربطها بالمغرب. هل فعلا لايزال المغرب البلد الأهم لإسبانيا بعد أمريكا؟ بالتأكيد، مازال المغرب البلد الأهم لإسبانيا، وسيظل يحظى بأولوية في السياسة الخارجية الإسبانية، والجزائر شريك لا يمكن أن تهمله إسبانيا، وهو مفتاح مفاوضاتها مع المغرب، ويلتقيان في ملفات حيوية، كالهجرة غير النظامية والتعاون الأمني ومحاربة الإرهاب. كذلك لا يمكن أن ننسى دور الملكية في تحسين وتطوير العلاقة بين المغرب وإسبانيا، وكان للملك السابق خوان كارلوس دور كبير في تسهيل العلاقات المغربية الإسبانية، وتقديري أن وضع الملك الأب المقيم حاليا في أبوظبي، ومتابعته بملفات الفساد، وعودة النقاش في إسبانيا عن الملكية ومستقبلها، أضعف وغيّب دورها في بعض ملفات العلاقات الخارجية، وبالخصوص مع المغرب، وقد يكون لهذا التغييب مستقبلا دور في عودة محدودة للتوتر الذي كان دائما يحتاج إلى وساطة القصر الإسباني. في هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن المغرب كان دائما وباستمرار وجهة زيارات الملوك الإسبان بين الرسمية والخاصة، ويعتبر البلد الوحيد في إفريقيا الذي رسخ تقليد أن يكون وجهة أول زيارة لرؤساء الحكومات الإسبانية بعد انتخابهم، ولم تعرف الجمهورية الجزائرية إلاّ زيارتين للملك خوان كارلوس، الأولى سنة 1983 والثانية سنة 2007، وهذا من مؤشرات تباين علاقات إسبانيا بجاريها الجنوبيين.