منذ زمن بعيد، وبالتحديد منذ قرر الإسبان أن يضعوا حدا للمرحلة الدموية لحكم فرانكو، لم تكن الانتخابات التشريعية الإسبانية مشوقة وحبلى بالمفاجآت وغير واضحة المآلات كما حدث في الانتخابات الماضية. ما يحدث في مدريد، نتأثر به، نتفاعل معه، ننتظره، ليس فقط بمنطق الجوار، بل لأننا نتشابك معه في علاقات ملتبسة تشمل السياسي والأمني والنفسي. السياسي لأنه بلد ينتمي إلى الاتحاد الأوربي، وهو البوابة الأولى نحو الضفة الغنية من المتوسط، والأمني يتعلق بالأساس بالتعاون في محاربة الشبكات الإرهابية خاصة بعد أن امتدت يد داعش إلى شمال إفريقيا وقلب أوربا، ثم النفسي لأننا لم نصف مع إسبانيا بعد قضايا الحدود ولأنها مستعمِرة سابقة لنا. هذه العوامل كلها تجعل الانتخابات الإسبانية بالنسبة للمغرب، وهو صاحب الوضع المتقدم في أروقة الاتحاد الأوربي، مهمة وضرورية لدبلوماسية الرباط. فاز الحزب الشعبي الإسباني بقيادة رئيس الحكومة الإسباني الحالي ماريانو راخوي، في الانتخابات، واستطاع احتلال المرتبة الأولى متفوقا على غريمه التقليدي الحزب الشعبي الإسباني، لكن المستجد الأهم على الساحة السياسية الإسبانية هو فوز حزب بوديموس، الوريث الشرعي لتداعيات الأزمة الاقتصادية الإسبانية، بالمرتبة الثالثة، منهيا بذلك الثنائية القطبية التاريخية التي قسمت أبناء فيليبي كونزاليز إلى فسطاطين كبيرين، بل إن حزبا آخر اسمه «سيودادنوس» جاء في المرتبة الرابعة حاصلا على عدد مهم جدا من المقاعد. الديمقراطية تقول إن الحزب الأول الحاصل على أكبر عدد من المقاعد هو من سيبادر لتشكيل الحكومة؛ أما حسابيا، فلا أحد من الأحزاب الثلاثة عبر عن رغبته في التحالف مع حزب «راخوي»، ما يعني أن مسار التفاوض الشاق إما سينتهي بحكومة وحدة وطنية كما دعا إلى ذلك ملك إسبانيا في نهاية الأسبوع الماضي، أو بإعادة الانتخابات. أثبتت استطلاعات الرأي أن نسبة كبيرة من الإسبان لا تريد إعادة الانتخابات، راغبة في حكومة وحدة وطنية مشكلة من خليط غير متجانس بتاتا، لا في المواقف ولا في المرجعيات..لاشك أن المغرب يعرف جاره الشمالي حق المعرفة، وقد خبره في لحظات كثيرة لعل أقصاها دراماتيكية الاصطدام العسكري حول جزيرة ليلى أيام كان أثنار يحكم إسبانيا. لم يعتد المغرب على أحزاب إسبانية جديدة مؤثرة، فهو كان محكوما بمزاج الشعبيين أو الاشتراكيين، وسيجد نفسه في موقف صعب جدا إذا شارك حزب مثل بوديموس له مواقف واضحة غير قابلة للتأويل حول قضية الصحراء، وما كان في الماضي القريب بيانات لبلديات متفرقة في مقدمتها مدريد حول الصحراء المغربية، سيصير حقيقة غير قابلة للجدال داخل البرلمان الإسباني في السنوات المقبلة. يفترض في المزاج السياسي الجديد للجارة الشمالية أن المغرب يعد كل الاحتمالات حتى أقصاها تطرفا التي تتمثل بالأساس في تأسيس حكومة اشتراكية يقودها الحزب الاشتراكي بمعية بعض الأحزاب الصغيرة. ماذا يعني رصد كل تلك الاحتمالات؟ معناه أن لغتنا الدبلوماسية وطريقة تدبيرنا للقضايا الحساسة مع إسبانيا لن تبقى كما هي، إنما نحتاج لصيغ أخرى نقنع بها القوى الصاعدة الجديدة بصلابة مواقفنا، ولن يتحقق ذلك إلا بشرطين أساسيين: الأول: فتح حوار غير محكوم بأحكام جاهزة وتشكيل لوبيات ضغط من أجل اختراق حزب بوديموس ذي التوجه اليساري، الذي يتشكل من قيادات يسارية جديدة تؤمن بحق تقرير مصير الشعب، ولا تتردد في إعلان موقفها الصريح من قضية الصحراء، بل إن أعضاء من الحزب الفتي يساندون التخلي عن سبتة ومليلية والجزر المحتلة، لأنها تدخل ضمن ما يسمى بتصفية الاستعمار. والحوار، في تقديرنا، لا يمكن أن يكون مشروطا بالتنازل من الطرف المقابل، الذي يرى في نظامه ملكية تسود ولا تحكم، ولا يشبه في شيء النظام المغربي. الثاني: الحزبان الشعبي والاشتراكي، اللذان يعرفهما المغرب جيدا، سيغيران من سياستهما كثيرا، خاصة في ظل تراجعهما انتخابيا، إذ سيحاولان في السنوات المقبلة إقناع الناخب الإسباني بأنهما يتوفران على نفس مطامح الشباب التي حملاها على كتفيهما حزبا بوديموس والليبراليين، وبالتالي مزيدا من التركيز على القضايا الداخلية ذات الارتباط بآثار الأزمة الاقتصادية وتحسين مستوى الدخل والعلاقة مع الاتحاد الأوربي، بينما ستصبح العلاقة مع الحلفاء التاريخيين لا تحظى بنفس الأولوية السابقة. إنه في الأخير صراع انتخابي داخل إسبانيا، ومن هنا يجب على المغرب أن يستحضر كل هذه المستجدات. الجار الجنوبي يريد من المغرب أن يصبح شريكا أمنيا واقتصاديا، وهي التحديات التي تخدم إسبانيا أكثر مما تخدم المغرب، لاسيما بعد إصدار المحكمة الأوربية قرارها الأخير، ولئن نجح البلدان الجاران في نزع فتيل التوتر بينهما طيلة أربع سنوات كاملة، بدت فيها العلاقة في صحة جيدة رغم كل الأزمات الصامتة، فإن استمرار احتلال إسبانيا لسبتة ومليلية ولبعض الجزر، ومحاولة إقناع المغرب بلعب دور الدركي أمام تنامي موجة الهجرات، لا يمكن، أبدا، أن يفضي إلى تأسيس علاقات قوية بين البلدين. مهما يكن من أمر، فإن الجميع يترقب نتائج تشكيل الحكومة، لكن المغرب عليه أن يضغط أكثر ويحرك آلته الدبلوماسية أكثر كي يبني علاقة جوار، ولو كانت حذرة، مؤسسة على الندية وتوظيف الأوراق الرابحة في الوقت المناسب، تماما كما يفعل الإسبان. بنيس: ثوابت السياسة الخارجية الإسبانية تجاه المغرب لم تعد رهينة الحزب الحاكم بكثير من الحذر، تراقب الدبلوماسية المغربية التغيرات التي يعرفها المشهد الحزبي الإسباني، مع صعود حزب «بوديموس» المعروف بمواقفه العدائية لمصالح المغرب، خاصة دعمه للجبهة الانفصالية «بوليساريو»، وهو ما يفرض على المغرب نهج مقاربة دبلوماسية فعالة تجاه «الوافد الجديد». لكن بعض المراقبين للمشهد السياسي الإسباني لا يرون في هذا التحول إمكانية حدوث تغير جذري في العلاقات المغربية-الإسبانية حتى لو وصل «بوديموس» إلى الحكم، بالنظر إلى المصالح المشتركة بين البلدين، سواء على المستوى الاقتصادي أو التعاون الأمني الفعال الذي يشيد به المسؤولون الإسبان في مناسبات مختلفة. في المجال الاقتصادي، يبقى المغرب الزبون الأول لإسبانيا على مستوى القارة السمراء بما يناهز 6 ملايير دولار. وضع يجعل إمكانيات إحداث تحول في علاقة الجارة الشمالية بالمغرب أمرا مستبعدا، بالنظر إلى الموقع الاستراتيجي الذي يحتله المغرب بالنسبة للاقتصاد الإسباني. المعطى الثاني يرتبط بالتعاون الأمني الفعال، خاصة فيما يتعلق بمحاربة الإرهاب والهجرة غير الشرعية والمخدرات. وهنا تبرز عدد من المحطات التي أكد فيها المغرب على دوره الاستراتيجي في المجال الأمني، من خلال المساهمة الفعالة في تفكيك مجموعة من الخلايا الإرهابية في إسبانيا والمغرب. هذا الموقع الاستراتيجي في محاربة الإرهاب ازداد قوة مع الدور الحاسم الذي لعبته الأجهزة الاستخباراتية المغربية عقب هجمات باريس. كل هذه العوامل الاستراتيجية، سواء في الجانب الاقتصادي والأمني، تجعل إمكانية إحداث تغير في السياسة الإسبانية تجاه المغرب أمرا مستبعدا، بالنظر إلى ما ستشكله من تهديد حقيقي لمصالح إسبانيا نفسها، خاصة في هذه الظرفية التي تتنامى فيها التهديدات الإرهابية. ويرى سمير بنيس، مستشار دبلوماسي وخبير في شؤون العلاقات المغربية-الإسبانية، أن الانتخابات التشريعية التي جرت في إسبانيا نتج عنها تغير في الخريطة السياسية، إذ لم يعد البرلماني حكراً على الحزب الشعبي والحزب الاشتراكي، اللذين تداولا على السلطة منذ عام 1982، بل أفرزت الانتخابات قوتين سياسيتين صاعدتين وهما حزب «بوديموس» ذو التوجهات الاشتراكية التقدمية، وحزب «كويدادانوس» ذو التوجهات المحافظة. واستبعد بنيس أن يكون لهذه التغيرات أثر كبير على العلاقات المغربية الإسبانية، خاصةً أنه من المنتظر أن تكون الحكومة الائتلافية المقبلة تحت قيادة رئيس الوزراء المنتهية ولايته ماريانو راخوي، والذي عمل خلال ولايته على رأس الحكومة الإسبانية على تعزيز العلاقات بين البلدين في جميع المجالات، وتعزيز الثقة بين قادتهما وتفادي كل ما من شأنه أن يتسبب في توتر أو أزمة سياسية بين البلدين.وأوضح في هذا السياق أن العلاقات بين الرباطومدريد بلغت نسبة كبيرة من النضج، إلى درجة أن ثوابت السياسة الخارجية الإسبانية نحو المغرب لم تعد رهينة الحزب الحاكم في إسبانيا. فبالإضافة إلى العلاقات الاقتصادية بين البلدين، التي شهدت تطورا متسارعاً خلال الخمس عشرة سنة الماضية، فإن البلدين يعتبران شريكين استراتيجيين في مكافحة الهجرة السرية القادمة من إفريقيا جنوب الصحراء، ومحاربة الجريمة المنظمة الدولية والإرهاب. وزاد قائلا: «على أي حكومة إسبانية البناء على ما قامت به الحكومات السابقة والحفاظ على المكتسبات التي تم تحقيقها في العلاقات بين البلدين خلال العقود الأخيرة، والابتعاد عن كل ما من شأنه أن يعيد التوتر والأزمات الدبلوماسية بين البلدين». واعتبر المستشار الدبلوماسي أنه على الرغم من عدم تمكن الحزب الشعبي من الحصول على الأغلبية المطلقة لتشكيل الحكومة، ففي حال نجح في تشكيل حكومة ائتلاف مع حزب «كويدادانوس» وبعض الأحزاب الصغيرة الأخرى، فلن يكون هناك تغيير في موقف الحياد الإيجابي، الذي نهجته إسبانيا تجاه الصحراء خلال العشر سنوات الأخيرة. ويوضح بنيس أنه «بالإضافة إلى متانة العلاقات بين البلدين ولحاجة إسبانيا للمغرب في بعض المجالات الحيوية بالنسبة لأمنها القومي، على رأسها مكافحة الهجرة غير الشرعية ومحاربة الإرهاب وتهريب المخدرات، فإن موقف الحزب الشعبي المعارض بشكل قاطع لاستقلال إسبانيا، يدفعه لعدم تبني أي موقف داعم لاستقلال الصحراء عن المغرب». ومن جهة أخرى، «يجب الإشارة إلى أن تواجد حزب «بوديموس» في البرلمان باعتباره القوة السياسية الثالثة في إسبانيا سيضع بعض الضغط على الحكومة الإسبانية القادمة، إذ سيعمل جاهداً على إحراجها، من خلال التطرق بشكل منتظم للنزاع حول الصحراء وتبني موقف داعم للبوليساريو»، يضيف المتحدث ذاته. وسجل أنه «من الممكن أن يتقدم حزب «بوديموس» بملتمس عن طريق البرلمان الإسباني للمطالبة بالاعتراف بما يسمى الجمهورية الصحراوية، غير أن هذه المناوشات لن تؤدي إلى أي اعتراف من طرف البرلمان الإسباني أو الحكومة الإسبانية بهذه الجمهورية، بقدر ما سيكون هدفها التشويش على العلاقات بين مدريدوالرباط وإعطاء دعم معنوي للانفصاليين». وتوقع بنيس أن يقوم هذا الحزب بشن حملات سياسية وإعلامية من أجل الطعن في الاتفاقيات التي تجمع بين المغرب والاتحاد الأوروبي، خاصةً فيما يتعلق بالصيد البحري وأهلية المغرب في منح أوروبا الترخيص بالصيد في المياه الإقليمية للصحراء المغربية. وردا على سؤال بشأن ما يمكن للدبلوماسية المغربية أن تقوم به، أكد الخبير في شؤون العلاقات المغربية-الإسبانية أنه «في الوقت الذي تعمل فيه الحكومة المغربية على تعزيز العلاقات بين البلدين وجعلها في منأى عن كل المناورات، فعليها تقوية حضورها الإعلامي في إسبانيا والتسويق لمواقف المغرب بخصوص القضية الوطنية. وخلص الخبير السياسي إلى أن هذه الخطوات لن تكلل بالنجاح إلا إذا قامت الأحزاب المغربية، خاصةً الأحزاب اليسارية، بالدور المنوط بها للدفاع عن مصالح المغرب في إسبانيا. وأضاف: «يتعين على الأحزاب اليسارية المغربية التأقلم مع الوضع السياسي الجديد في إسبانيا، وعوض نهج سياسة الكرسي الفارغ كما كان عليه الحال، يجب عليها التقرب وبناء جسور التواصل بينها وبين الأحزاب اليسارية الإسبانية وعلى رأسها حزب «بوديموس»، وهو ما من شأنه أن يؤدي، على الأقل، إلى تليين مواقف هذا الحزب تجاه المغرب والحيلولة دون تحوله إلى ناطق رسمي باسم البوليساريو في الساحة السياسية الإسبانية». الشيات: الأحزاب الإسبانية تتعامل مع المغرب بروح يمينية وكبلد معادي قال إن الممارسة هي من ستحكم على مواقف الأحزاب الإسبانية الناشئة طوت الانتخابات التشريعية الإسبانية صفحة الثنائية الحزبية، ليصبح صنع القرار في الجار الأوروبي محكوما بلاعبين جدد ستكون لهم كلمتهم في رقعة الشطرنج الحزبية، كما ستكون بصمتهم حاضرة في رسم معالم السياسة الإسبانية. كما أن النتائج التي خرجت بها صناديق الاقتراع الإسبانية لن تبقى شأنا داخليا فقط، بل إن تأثيراتها يمكن أن تطال عددا من الأوساط، بما فيها هياكل الاتحاد الأوروبي، الذي بدأ يجد نفسه يوما بعد يوم، أمام تمرد تخلقه أحزاب ناشئة تمكنت من سرقة الفوز من رحم الأزمة الاقتصادية، وإرباك الساسة الكبار داخل الاتحاد، كما حدث في اليونان أو في بعض دول أوروبا الشرقية، وهذا الواقع سيجعل المغرب معنيا بشكل مباشر بما أفرزته هذه الانتخابات، بالنظر إلى طبيعة العلاقات الملتبسة التي تجمعه بالجار الأوروبي ووجود عدد من الملفات الساخنة أهمها ملف الصحراء وسبتة ومليلية المحتلتين. في هذا السياق، قلل خالد الشيات، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة محمد الأول بوجدة، من التداعيات التي يمكن أن تنجم عن الانقلاب الحاصل في الواقع الحزبي بإسبانيا على العلاقة مع المغرب، وقال إن نتائج الانتخابات، وإن طوت صفحة الثنائية، فإنها قد تقود لاحقا إلى صنع ثنائية قطبية أخرى بعد تحقيق التقارب بين الأحزاب. وشدد الشيات على أن أهم عامل أثر في نتائج الانتخابات هو عامل الأزمة الاقتصادية، ليأتي رد الفعل المجتمعي على الحلول التي قدمتها الأحزاب التقليدية من خلال الصناديق، بعد أن اتضح أن الأزمة كانت أكبر منها. وربط الشيات ما حصلت عليه الأحزاب الناشئة في إسبانيا بصعود هوياتي تعيشه أوروبا قد يكون تأثيره محدودا على مستوى علاقة إسبانيا بالمغرب، وقال إن المنظومة الحزبية في إسبانيا كانت دائما مبنية على عاملين أساسيين في علاقتها مع المغرب، أولهما المصلحة والاقتصاد والتجاذب الذي يتحكم في هذا القطاع، وهو ما يفسر وجود نوع من التفاهم بين البلدين على هذا المستوى، باعتبار أن إسبانيا بحاجة للمغرب لكونه يخلق نوعا من الانفراج في الاقتصاد الإسباني الذي لازال رهينا للأزمة. أما العامل الثاني الذي يتحكم في علاقة المنظومة الحزبية الإسبانية بالمغرب، حسب الشيات، فيتمثل في المسألة الهوياتية بحكم أن كل الأحزاب الإسبانية ورغم اتجاهاتها الإيديولوجية المختلفة، فإنها تحتفظ دائما بروح يمينية في تعاملها مع المغرب، وهو ما يفسر الروح المعادية أو على الأقل مستوى عدم الاطمئنان الذي يتأرجح مؤشره بين الفينة والأخرى. ورغم أن بعض الأحزاب الناشئة نجحت في خلق نوع من التمرد في التدبير الحكومي والسياسي كما حصل في اليونان، الأمر الذي قد يغذي هذه الروح المعادية لدى الجار الإسباني تجاه المغرب في ظل المواقف المعلنة لحزب «بوديموس» تجاه ملف الوحدة الترابية، فإن الشيات اعتبر أن هذه الأحزاب كانت تعطي إجابات في مرحلة الأزمة بالنسبة لأوروبا، لكن ممارسة السياسة «أمر آخر»، ونبه إلى أن الحزب الحاكم في اليونان يمارس حاليا نوعا من التقية السياسية في مواجهة المبادئ التي كان يرفعها في مرحلة الانتخابات. وأضاف أستاذ العلاقات الدولية أن حزب «بوديموس» يدعم تقرير المصير بالنسبة لإقليم كطالونيا، وهو ما رأى فيه نوعا من الصبيانية والطفولية في ممارسة العمل السياسي، وقال إذا كانت ما يسمونها بالمبادئ قد تقود إلى تخريب دول ومنظومات قائمة على السلمية فيحق طرح السؤال «حول ماهية الأهداف، وهل هي مرتبطة بنوع من الغباء». وقلل الشيات من أهمية المواقف التي رفعها حزب «بوديموس»، وخاصة منها ما يتعلق بالمغرب، وقال إن الكثير من المغاربة منخرطون في هذا الحزب، وإن الفيصل هو الممارسة الفعلية، بحكم أن وصول حزب معين إلى ممارسة السلطة يفترض طرح السؤال حول الثمن الذي ستدفعه الدولة في حال تبنيها اتجاها معاديا. وقال الشيات إن أي حزب وصل إلى السلطة أو شارك فيها وتبنى منظورا أحاديا ومعاديا في ملف الوحدة الترابية، فإن الأمر سينطوي على تكريس للعداء وستكون له تبعات، وإن إسبانيا تتعامل مع جار مباشر، وبالتالي، فإن أي مشكل يقع بالمغرب قد يؤدي إلى وضعية اجتماعية صعبة، وهو ما سيؤثر بالأساس على إسبانيا، وشدد على أن «السياسة تعلم ماذا يجب أن يقال ويفعل في العلاقات مع كل الدول وليس مع المغرب فقط».ورغم أن نتائج الانتخابات الإسبانية جاءت مفاجئة وستغير الكثير في المشهد الحزبي، إلا أنها لن تغير على الأقل في الوقت القريب من واقع قائم، يتمثل في كون المغرب يتعامل مع كل الأحزاب الإسبانية في ظل وجود نفس معادي له، بحكم أن هذه الأحزاب لا ترى في المغرب بلدا متعاونا، بل بلدا معاديا كما هو الحال في الجزائر. من جهة أخرى، ورغم أن المشهد الحزبي الإسباني لازالت تعمه الضبابية في ظل الغموض الذي يكتنف طريقة تشكيل الحكومة، فإن المغرب، وحسب عدد من المتتبعين، مدعو إلى إعادة النظر في بعض آليات التعاطي الدبلوماسي مع الأحزاب الأوروبية، خاصة في ظل التطورات والمفاجآت المتواصلة التي حملتها صناديق الاقتراع، وفي هذا السياق، قال الشيات إن علاقات المغرب مع عدد مع الأحزاب بالدول الأوروبية عرفت أخطاء متعددة على المستوى الدبلوماسي، وإن خياراته لا على مستوى اليسار أو اليمين كانت لا تؤدي إلى نتيجة، وقال: «إذا كنا نراهن فيجب أن ننوع الرهان». هذه الدعوة تجد تفسيرها حسب الشيات في صعود تيار الاتجاهات الهوياتية بأوروبا، ممثلة في بعض أحزاب اليمين، وهو الصعود الذي لا يتعامل معه المغرب بالطريقة المناسبة رغم وجود أشكال كثيرة للتقارب يتعين استثمارها. وقال الشيات إن وصفة التعاطي مع هذه التطورات الحاصلة في المشهد الحزبي الأوروبي تتمثل بالأساس في الدمقرطة الداخلية وإعطاء حرية للأحزاب الحقيقية، لأن ذلك سيؤثر بشكل مباشر على المنظومة السياسة الأوروبية بما فيها الحزبية. وأوضح أن الأحزاب المغربية يجب أن تكون لها القدرة أولا، وهو ما يصطدم بعدة عوامل، منها أن منظومة السياسة الخارجية بالمغرب لازالت تقليدية، ومتحكم فيها بشكل لا يقبل هذا التوزيع المتساوي مع كل الأطراف الممثلة للدبلوماسية الموازية، وأضاف أن هذا من سلبيات هذه المنظومة التي تضع المغرب في بعض الأحيان في مواقف محرجة تهم عددا من الملفات، بما فيها ملف الوحدة الترابية. دريوش: التحدي الذي يواجه العلاقات بين المغرب وإسبانيا هو صعود حزب «بوديموس» قال إن الحزب اليساري يحمل أفكارا نمطية كثيرة عن المغرب نبيل دريوش، واحد من القلائل الذين خبروا العلاقات المغربية الإسبانية، وقد توج نبشه الطويل في الموضوع بإصدار كتاب «الجوار الحذر»، الذي يعد مرجعا أساسيا في معرفة العلاقات المشتبكة بين الجارين. يقول دريوش، الكاتب والصحافي، إنه من مصلحة المغرب عودة الحزب الشعبي إلى الحكم، لأنه أثبت أنه حزب براغماتي واستطاع تجاوز مرحلة أثنار، مؤكدا في الوقت نفسه أن التحدي في المرحلة الراهنة يتمثل في صعود حزب بوديموس، صاحب المواقف المناوئة للمغرب حول قضية الصحراء. – هل ترى أن صعود قوى سياسية جديدة ممثلة في كل من «بوديموس» و«سيودادنوس» يمكن أن يؤثر على مسار العلاقات المغربية الإسبانية في المستقبل القريب؟ قبل الجواب عن سؤالك دعني أولا أرسم صورة للمشهد السياسي الإسباني، الذي سيمكننا أولا من فهم ما يجري، ثم كيف سيؤثر ما يدور في الجارة الشمالية علينا، أكيد أن انتخابات 20 دجنبر 2015 تشكل منعطفا داخل المشهد السياسي الإسباني، الذي ارتكز على الثنائية القطبية منذ فترة الانتقال الديموقراطي التي دشنت بعد وفاة الجنرال فرانكو، فنحن اليوم أمام مشهد معقد من الناحية الرياضية، فلا أحد يملك الأغلبية مهما أجرى من تحالفات، كما أنه مشهد يعكس لأول مرة التعددية الحزبية، فالفرق بين الحزب الاشتراكي الاسباني الذي يحتل المرتبة الثانية، وحزب»بوديموس» الذي تموقع في المركز الثالث، لا يتعدى 21 مقعدا في الوقت الذي كان فيه الفارق بين المركزين يصل في الانتخابات السابقة إلى عشرات المقاعد، كل هذا يعني أننا أمام فاعلين جدد في الساحة السياسية الإسبانية هم أبناء شرعيون لسياق الأزمة الاقتصادية التي ضربت شبه الجزيرة الايبيرية منذ عام 2008، لحدود الساعة لازالت الماكينة السياسية تحاول إيجاد مخرج من الأزمة لتشكيل حكومة تبدو ولادتها مستحيلة، فكل الطرق تؤدي إلى الاصطدام بالجدار. وفيما يخص المغرب يمكن أن نقول إننا بعد طول شد وجذب توصلنا إلى تحقيق استقرار في العلاقات بين البلدين بغض النظر عن الحزب الذي سيحكم منذ عام 2004 ، أي بعد إغلاق قوس فترة خوسي ماريا أثنار، بغض النظر عن التخوفات التي كانت للمغرب من عودة الحزب الشعبي عام 2011، لكنه أثبت أنه حزب براغماتي، وهي براغماتية سياسية أملتها بالأساس الأزمة الاقتصادية التي تعيشها إسبانيا وحاجة المقاولات الاقتصادية الإسبانية إلى فرص استثمار بالمغرب. وحتى قبل أن يتضح المشهد بخروج الحكومة المنتظرة إلى حيز الوجود، أستطيع أن أقول إننا أمام تحديات جديدة لضمان استقرار العلاقات مع إسبانيا، أهم هذه التحديات هو ظهور حزب بوديموس الذي يحمل قادته أفكارا نمطية عن المغرب ومعادية لمواقفه فيما يخص قضية الصحراء، وهي الأفكار التي تحملها حتى قواعد هذا الحزب، المعطى الثاني هو أن هناك قيادة جديدة للحزب الاشتراكي الإسباني يمثلها بيدرو سانشيث لا تعرف المغرب، فمنذ توليه منصب الأمين العام للحزب الاشتراكي قبل 17 شهرا لم يزر الزعيم الجديد المغرب، ذلك رغم وجود مؤشرات مطمئنة تتمثل مثلا في قنوات الاتصال المفتوحة مع سوزانا دياث، رئيسة حكومة الأندلس والرقم الصعب حاليا داخل الحزب، لكن هذا غير كاف لتجاوز الاحتقانات الممكنة، ولا يمنع من مزيد من الاتصال حتى يسهل امتصاص الصدمات لاحقا، وشخصيا لم أسمع بنشاط للأحزاب الاشتراكية المغربية في هذا الباب. أكيد أن مصالح الدول لا تتغير، وما يسمى بالدولة العميقة موجودة في كل دول العالم، لكن يجب ألا ننسى أن الرأي العام في إسبانيا مهيأ لمساندة كل فكرة تعادي المغرب، ولا نجد الحماس نفسه عندما يتعلق الأمر بدعم مصالح المغرب أو الدفاع عنه. – حزب بوديموس ذو التوجه اليساري، الذي حاز على المرتبة الثالثة في الانتخابات التشريعية الأخيرة، عبر عن مواقف صريحة مناوئة لقضية الصحراء المغربية، كيف يمكن للمغرب أن يتعامل مع هذا الحزب، الذي لا يعرف عنه الشيء الكثير؟ أولا يجب أن نعرف طبيعة حزب بوديموس، فهذا الحزب هو التعبير السياسي للأفكار التي عبرت عنها حركة 15 ماي 2011 باسبانيا والمعروفة بتيار «الغاضبين» أي الجيل الجديد من الشباب الإسباني الذي اصطدم بواقع تبخر أحلام الانتقال الديموقراطي والرفاه الاقتصادي، وبدأ الحزب من فكرة بين مجموعة من الأصدقاء لكنه عندما بدأ في عقد اجتماعاته والظهور في الساحة السياسية شكل النشطاء في المجتمع المدني والصحافيون والفنانون وبعض المحامين اليساريين أبرز مكوناته، ومعروف أن المجتمع المدني وبعض الفنانين في إسبانيا هم الداعمون الرئيسيون لجبهة البوليساريو في إسبانيا وهم الذين نجدهم في الصفوف الأولى خلال مسيرات دعم الصحراويين، وهذا ما يفسر لنا الموقف الذي يتخذه هذا الحزب إزاء المغرب عموما و قضية الصحراء خصوصا. كما أن نشطاء هذا الحزب ينطلقون في أحكامهم من مجموعة من الصور النمطية عن المغرب، وهي الصور التي لم يكونوها من خلال عمل ميداني ببلادنا، بل انطلاقا مما يسمعونه عن الجار الجنوبي وما تروجه وسائل الإعلام التي رغم تعددها فلها خط تحريري واحد كلما تعلق الأمر بالمغرب، ويجب أن ننتبه إلى أن حزب بوديموس يملك الآن 69 مقعدا في البرلمان الوطني الإسباني، ويبدو بديهيا أنه سيستغل موقعه أيضا للقيام بمبادرات ستكون مزعجة للمغرب، سواء بقي هذا الحزب في المعارضة أو دخل في تحالف حكومي مع الاشتراكيين، فكل الاحتمالات يجب أن تبقى واردة. – قلت في وقت سابق إنه من مصلحة المغرب أن يترأس الحزب الشعبي الإسباني الحكومة، إلى ماذا استندت لإصدار هذا الحكم، علما أن أشد الأزمات الدبلوماسية بين البلدين كانت في عهد الحزب الشعبي؟ بالفعل، قلت هذا الكلام صبيحة الانتخابات ولم تكن النتائج قد ظهرت بعد، وجميع استطلاعات الرأي كانت تشير لحظتها إلى فوز الحزب الشعبي بالانتخابات التشريعية، ولم نكن نتوقع كل هذا التشرذم والغموض الذي سيكتنف تشكيل الحكومة، عموما وجود الحزب الشعبي بقيادته الحالية في صالح المغرب، بحكم أنه أظهر براغماتية في التعامل مع الجار الجنوبي، وطيلة الأربع سنوات الماضية لم نشهد سحب للسفراء وأزمة طويلة الأمد مثلما كان عليه الحال في عهد خوسي ماريا اثنار أو استدعاء للسفير المغربي في مدريد كما حصل في الولاية الثانية لثباتيرو بسبب زيارة عاهلي اسبانيالسبتة ومليلية، كانت هناك بعض الأزمات العابرة أو البرود في العلاقات نتيجة احتجاجات تكون صامتة، أحيانا متعلقة بتدبير بعض الملفات، لكن الأمر كان ينتهي بزيارة دبلوماسية أو مكالمة هاتفية، الأرقام الاقتصادية تقول إن إسبانيا هي الشريك التجاري الأول للمغرب منذ عام2012 فهناك حوالي 20 ألف مقاولة إسبانية تصدر منتجاتها لبلادنا، كما أن المغرب هو الشريك التجاري الثاني لإسبانيا من خارج الاتحاد الأوروبي بعد الولاياتالمتحدةالأمريكية، والمغرب هو بوابة إسبانيا على إفريقيا، التي يتزايد فيها الحضور الاقتصادي المغربي كل يوم، كما أنها شكلت فترة نوعية من حيث التعاون الأمني بين البلدين اللذين وصلت الثقة بينهما إلى مستويات غير مسبوقة لمواجهة عدوهما المشترك المتمثل في الإرهاب العابر للحدود، وشاهدنا كيف تم تفكيك العديد من الخلايا الإرهابية بطريقة مشتركة، كما أن التعاون بينهما انتقل من مستوى تبادل المعلومات إلى تنظيم ندوات علمية حول المخاطر الأمنية وطرق التنسيق لمواجهتها. كل ما قلته لا يمنع من القول إن الجوار بين البلدين سيظل دائما جوارا حذرا بحكم استمرار وجود ملفات خلافية في مقدمتها قضية سبتة ومليلية، والمواقف العدائية من قضية الصحراء التي تطفو على السطح بين الفينة والأخرى، وهي الملفات التي يتم تركها جانبا في الوقت الحاضر، لكنها دائما كانت المصدر الرئيسي للأزمات الدورية، التي طبعت العلاقات في الخمس عشرة سنة الأخيرة.