منذ يوليوز 2011، مرت على الدستور الحالي تسع سنوات كاملة، ومع ذلك، لايزال محط نقاش عمومي متجدد، بفعل البون الشاسع بين ما تضمنه الدستور وما يُمارس فعلا في الواقع السياسي للمغاربة. في مفارقة يكشفها حجم الانزلاقات المتوالية في مجال الحقوق والحريات، وفي مجالات سياسية واقتصادية ومؤسساتية عديدة، ما ولّد شعورا سلبيا يكاد يكون عاما لدى الرأي العام، ولدى النخب المستقلة عن السلطة على وجه الخصوص، تجاه المؤسسات والدستور نفسه. الوقائع التي تولّد عنها الشعور المشار إليه تندرج، في الغالب، ضمن مجال حرية الصحافة والرأي والتعبير، كما تؤكد ذلك تقارير منظمات حقوق الإنسان الوطنية والدولية، التي تتحدث عن استهداف موجه إلى الصحافة المستقلة التي تحتفظ بمسافة معينة عن السلطة، وهو الاستهداف الذي تستخدم فيه «تقنيات تسلطية»، حسب التعبير الذي اجترحه المفكر عبد الله حمودي، مثل التشهير، واستعمال موضوع الجنس، وهي تقنيات جديدة، وقد استعملت أكثر من مرة للإطاحة بصحافيين مزعجين. بيد أن هناك وقائع أخرى، تندرج ضمن مجال فصل السلط، حيث يظهر استمرار المؤسسات الاستراتيجية في احتكار السلطة، مقابل تهميش يبدو مقصودا لدور رئاسة الحكومة والمؤسسات المنتخبة، وهي القضية التي تكررت الإشارة إليها في أحداث ووقائع سابقة، وتجسّدت بشكل بارز في مرحلة مواجهة جائحة كورونا، التي أكدت وجود حالة «لاتوازن» بين المؤسسات المنتخبة والمؤسسات المعينة، في ظل استمرار المؤسسة الملكية في لعب دور مركزي، من خلال إطلاق برامج مُهيكلة تعيد في كل مرة هيكلة البرنامج الحكومي، بل وتتجاوزه. يلاحظ، على وجه العموم، أن بريق الدستور الحالي يخفت كلما ابتعدنا عن سنة 2011، في ظل وضعية سياسية تتسم بدرجة أكبر من السلطوية. أبرز تجلياتها في الفترة الزمنية الأخيرة، مثلا، دور النيابة العامة التي تحولت إلى مؤسسة أمنية أكثر منها قضائية، وتعكس في الواقع حجم اتساع نفوذ الأجهزة الأمنية، مقابل تراجع دور المؤسسات الأخرى في الدولة، بالشكل الذي تظهر معه الدولة وكأنها تعيش حالة «سكيزوفرينيا»، كما وصفها بذلك محمد الطوزي في حواره الأخير مع «أخبار اليوم» مطلع يونيو الماضي.فكيف يمكن قراءة دستور 2011 بعد تسع سنوات من عمره؟ لماذا يبدو الدستور وكأنه لا يؤطر الواقع السياسي والقانوني والمؤسساتي؟ ولماذا هذا الوعي السياسي المتزايد بأن الدستور المغربي لا يعكس واقعه ولا يؤطر سلوك فاعليه؟ عريضة وليس دستورا يعود البون الشاسع بين الدستور والواقع السياسي إلى طبيعة الوثيقة الدستورية نفسها، في نظر أبو بكر الجامعي، الصحافي والأستاذ الجامعي، حيث وصف دستور 2011 بأنه «عريضة وليس دستورا». موقف الجامعي جاء في سياق تقييمه لمشروع القانون رقم 22.20 الذي طرحته الحكومة من أجل تنظيم حرية الأنترنت، وأثار ردود فعل غاضبة وسط المجتمع المغربي، ما دفع الحكومة إلى سحبه. القراءة التي قارنت بين مضامين القانون ومضامين الدستور خلصت إلى أن مشروع القانون متخلف عن الدستور، بل ويناقض منطوقه وروحه. لكن الجامعي له رأي آخر، لقد أوضح أنه مهما كان القانون جيدا، فهو قد يُؤول لصالح السلطة، خصوصا في ظل دستور غير ديمقراطي. لقد اعتبر الجامعي أن دستور 2011 «يكرس عدم توازن السلط وعدم استقلالية القضاء»، وبالتالي، «فإن القانون، كيفما كان، سيؤول لصالح السلطة». يرفض الجامعي، إذن، القراءة التي اعتبرت أن القانون رقم 22,20 متخلف عن الدستور، وقال إن «من يقولون بذلك، لم يقرؤوا الدستور جيدا»، كيف ذلك؟ يجيب المتحدث بالقول: «الدستور فيه «العجاج»، فالناس يقرؤون الدستور باعتباره عريضة». ومضى قائلا: «يجب أن نميز بين العريضة والدستور، ذلك أن الدستور المغربي يبدو لي مجرد عريضة جميلة، لكنه يبقى دستورا فاشلا. العريضة هي أن أقول لك أنا مع الحرية، ومع حقوق المرأة،وإن اليهودية جزء من الهوية المغربية، هذه عريضة، تعرض علي ما أريدهفقط». أما الدستور فهو على خلاف ذلك، في رأي الجامعي، لأنه الوثيقة التي تمنح المواطن «الآليات، المتمثلة في إحداث التوازن بين السلطات. حينما يكون المجتمع متشبعا بقيم ما فالدستور يجب ألا يقول لي إنني مع هذه القيم، بل يجب أن ينص على الآليات اللازمة لتكريس تلك القيم في الواقع. فالناس حين يُطالبون بتطبيق الدستور اليوم «تشمتو» في سنة 2011، غير أنهم لا يريدون الاعتراف بذلك. إن المشكل الحقيقي هو مشكل دستوري، وإذا لم يُحل، فإننا سنظل ندور في حلقة مفرغة». يؤكد الجامعي أن ما يحدث من تراجعات في مجال الحقوق والحريات، ومنها مضامين مشروع القانون 22.20، «يتوافق ودستور سنة 2011. لأن هناك من باع للمغاربة وهما اسمه الدستور، وحزب العدالة والتنمية نفسه باع هذا الوهم كذلك، ومازال متمسكا بهذا الكلام. من يُشيد بالدستور فليظهر لي الفصول التي تقول إن السلطة المغربية تحفظ توازن السلطات، أي أن هناك فصلا حقيقيا في دواليب النظام، وليس تقديمات عامة، ليعرفونا بالفصول التي تنص على أن القضاء مستقل، وأن المحكمة الدستورية مستقلة، وأن من يرأسها يختاره الناس من البرلمان». لا شيء من ذلك في رأي الجامعي، لأن الوثيقة التي صادق عليها المغاربة في استفتاء فاتح يوليوز 2011 كانت مجرد عريضة، ولم ترق إلى كونها دستورا، لا يكتفي بالتنصيص على قيم ومبادئ وأحكام، لكنه يضع الآليات اللازمة لتفعيلها، وهذه المفارقة هي التي تكشف أن الدستور الحالي ظل غير قادر على تأطير الممارسة السياسية والقضائية والأمنية، لأن هناك قوانين أخرى تفعل ذلك، ربما تناقض الدستور نفسه. الدستور يعكس ميزان القوى هناك طرح آخر لا يقبل ما تقدم به الجامعي، ويُرجع ما يبدو تناقضات للبعض بين الدستور والواقع ليس إلى الدستور نفسه، بل إلى موازين القوى القائمة، التي تميل منذ وضع الدستور إلى القوى المحافظة في الدولة والمجتمع، أكثر من القوى المؤمنة بالحقوق والحريات. من بين أبرز من يدافع عن هذا الطرح، الأكاديمي والمفكر محمد الطوزي، أستاذ العلوم السياسية بالدار البيضاء. يقول الطوزي إنه ينبغي ألا نتعامل مع دستور 2011 كما نتعامل مع برنامج حكومي طافح بالمؤشرات والمواعيد والآليات. ف«الدستورليس برنامجا حكوميا»، ولا ينبغي التعامل معه على ذلك الأساس. إن الدستور هو وثيقة تؤطر حدود الصراع، وتؤسس ثقافة سياسية معينة، لكنها لا تخلقها. إنها تضع الحدود، وقد فعلت ذلك لأن الدستور الحالي استطاع فعلا أن يضع لأول مرة حدودا للمؤسسة الملكية، صحيح أنه يجعل منها مؤسسة قوية، وهي بالفعل كذلك في الواقع، لكنه دستور استطاع أن يرسم حدود صلاحيات الملك، وذلك لأول مرة. لا يقول الطوزي ذلك لتبرير التجاوزات أو الانحرافات، بل من أجل الفهم،ويؤكد أنه بدوره «ليس راضيا» عن مآل الوثيقة الدستورية خلال تسع سنوات من التفعيل، لكنه يبقى في حدود المحلل وليس الفاعل، «أنا محلل ولست سياسيا»، ومضى قائلا: «حين يقول أحدهم، مثلا، هناك تجاوزات أو انزلاقات، فأنا أطرح السؤال التالي: تجاوزات مقارنة بماذا؟ هل مقارنة بسنوات الرصاص مثلا؟ الراجح أنه يتحدث عن تجاوزات بالنسبة إلى ما سطّره الدستور الحالي». وإذا صحّ ذلك، فهذا يعني أن الدستور صار مرجعية يُحاكم الواقع إليها، لا إلى شيء آخر. ففي رأي الطوزي، حين «نتحدث عن النائب العام، فنحن نتحدث عنه ضمن الدستور الجديد الذي وضع الإطار العام لذلك. طبعا، تفعيل الدستور يعرف تجاوزات، ويزكي ذلك القول بأن هناك ضعفا في تطبيقه وتنزيله. لكن ينبغي الاعتراف بأن هذا الإطار موجود. ما يعني أن عملية جرد الحساب لا تبدأ مما كان قبله، بل بالمقارنة بهذا الإطار نفسه بعد وجوده، أي الدستور». ويعتبر الطوزي أن المعطى أساسي جدا، ويجب أن يكون «المنطلق الأول للتحليل». إذا تقرر ذلك، فإن الوضع الذي يؤسسه الدستور ربما «لا يستجيب لمصالح الجميع، وأن هناك من لا يعجبهم، أو لا يجدون ذاتهم ضمن مبادئه وأحكامه»، دلالة ذلك أن هؤلاء الذين لا يعجبهم الدستور هم من يعمل على خرقه باستمرار، لأنه لا يستجيب لمصالحهم، ليست الشخصية بل المؤسساتية. لكن، ينبغي أن نستحضر هنا أن الأغلبية مع هذا الدستور، وبما أن هذه حقيقة أيضا، فهو «مكسب كبير». في ضوء ذلك، يرى الطوزي أن القراءات السائدة للدستور تظل ضيقة إلى حد الآن، لماذا؟ لأنها لا تستحضر معطى أساسيا يتعلق بميزان القوى في المجتمع، فهو يرى أن تفعيل الدستور في الاتجاه الديمقراطي رهين بميزان القوى القائم في الواقع، وبما أن الواقع القائم لا ينسجم مع التطلعات الديمقراطية لبعض النخب، فمعناه أن ميزان القوى في المجتمع حاليايفرض قراءة معينة على حساب أخرى، قد تكون دون المستوى الذي يسمح به الدستور نفسه. هناك ثلاثة أمثلة يوضح بها الطوزي طرحه، الأول يتعلق بالانتخابات، يؤكد قائلا: «لا أحد اليوم يمكنه أن يقول إن الانتخابات في المغرب ليست مكتسبا، على الأقل على مستوى النخب السياسية، لن نتحدث على نسبة المشاركة، لأن الأمر يتطلب وقتا يتعلق بمنسوب الثقة، لكن هناك قناعة قويةلدى الفرقاء السياسيين بأنه لا يمكن الوصول إلى قلب القرار إلا عن طريق الانتخابات، أو على الأقل أن الانتخابات تمكنك من الوصول إلى مركز القرار، وإذا نجحت فيها لديك نسبة معينة من السلطة. هذه القناعة المشتركة الآن، ماذا ينبثق منها؟ تعطينا تصورا إلى حد ما نقول إنه سياسوي للسياسة، لن نتجاوزه الآن، سنتجاوزه من هنا إلى خمسين أو ستين سنة». يعود الطوزي إلى التاريخ لكي يبرر فكرته، يؤكد: «إذا اطلعت على تاريخ الديمقراطيات والانتخابات، فهذه الأمور كانت إلى حدود قريبة في دول ديمقراطية، لكن الدستور عينه ليس هو المسؤول عن هذا الوضع، بل الثقافة السياسية»، ويخلص إلى أن «الانتخابات ليست وحدها شرطا للديمقراطية. هي شرط من الشروط». أما عن المثال الثاني من حقل الصحافة، فيقول الطوزي: «لنأخذ أمرا يهم الصحافيين مثلا، اليوم لديهم المجلس الوطني للصحافة؟ هل هم راضون عنه؟، لكن المجلس في حد ذاته مكسب». يضيف الطوزي قضية ثالثة تتعلق بمبدأ فصل السلط، ويرى أنه «حينما نتحدث عن توازن السلط، فهو ليس قضية فقهية، بل قضية سياسية، هو مبدأ سياسي تدخل فيه الثقافة السياسية، ولتُكتسب تلك الثقافة، يلزم سنوات عديدة من الممارسة». ويلح الطوزي مرة أخرى على أن «الدستور ليس نصا فقط، بل ثقافة وتوافقات حول مشروع مجتمعي. إذا لم يكن هذا حاضرا في الساحةالمجتمعية، فسيكون هناك تضارب في القراءات. في جميع البلدان الرهان يكون على القضاء الدستوري. لأن القضاء الدستوري إذا كان متقدما ومتنورا، يمكن أن يُطور الوضع. فقد تعيد صياغة الدستور عشرات المرات،ولن يكون هناك تقدم، لأن الممارسة السياسية هي التي ستُطوره، وإذا لم يكن هناك تصور متوافق عليه على صعيد المجتمع، يحترم الاختلاف وينشئ آليات لتدبير الاختلاف ويحترم الأقليات، لا يمكن أن يتطور الوضع». في قراءته للدستور، يميز الطوزي، إذن، بين الدستور بصفته إطارا يرسم الحدود ويؤسس ثقافة سياسية معينة، وبين الممارسة التي يحكمها مبدأ ميزان القوى وقدرة الفاعلين على بناء التوافقات في ما بينهم، ليؤكد أن الدستور في حد ذاته هو مكتسب، خصوصا أنه صار مرجعية للقياس، لكن مضمونه وأثره في الواقع يبقيان رهينين بميزان القوى القائم، وقدرة الفاعلين على إعادة صياغته بما يعزز روحه الديمقراطية. فعالية تقنيات التسلط على خلاف طرح الطوزي أو الجامعي، يقدم عبد الله حمودي، رؤية ثالثة، فهو يرفض القول بأن «الدستور مجرد عريضة»، مثلما يرفض القول بأن «الدستور هو تعبير عن مستوى المجتمع وثقافته السياسية». يرى حمودي أن الدستور «نص قانوني كيفما كانت عيوبه وثغراته»، ويؤكد: «بل هو نص قانوني جامع. لكن، كيف جرى حبكه وتدوينه؟ وما هي الآليات؟ هذا سؤال وجيه». ويجيب حمودي بأنها «آليات قديمة، كأنه لم تكن هناك تجربة تناوب. لقد جرت صياغة الدستور بطريقة تقليدية». ذلك أن رئيس الدولة قد «نادى من يريد، وهذا ليس تشكيكا في مبادئ رئيس الدولة ومعاييره، فهو من يحدد الحقل السياسي في الأحزاب والنقابات والأوساط والمختصين في القانون الدستوري»، وبعد ذلك أعلن تأسس هيئة استشارية، جرى «جمع أعضائهابالطريقة نفسها». وطبعا، «كانت هناك مشاورات بين الناس أفرادا أو جماعات، سواء مشاورات بشأن حرية العقيدة، وقد رفضها حزب أو عدة أحزاب، أو مشاورات حول قضايا أخرى، لكنها جرت بهذه الآلية التقليدية؛ وأمرهم شورى بينهم، دون تقنين للكيفية التي يجب بها انتقاء الناس الذين يجري التشاور معهم». يرى حمودي أنه «كان يمكن إقامة لقاءات موسعة في العواصم الكبرى للبلد، تضم مثقفين ومختصين، وأن يفتح نقاش حول مفهوم الدستور وما يحتويه، وكان يمكن توسيع الأمر، وأن تصاغ مسودة ثم تنبثق لجنة مصغرة للصياغة النهائية، بتشاور مع المؤسسة الملكية طبعا. إذن، الدستور ليس عريضة». وردا على الطوزي، أوضح حمودي: «أن يُقال إن ذلك هو ما بلغه مستوى الشعب، فهذه فكرة زائفة لأنها تتعلق بفهم شخصي للمستوى الذي بلغه الشعب، وأن يقرر أحد ما المستوى الذي بلغه الشعب، فهذا من مظاهر السلطوية، كأن يأتي شخص ويقول: «هذا هو مستوى الشعب ولا يمكن تجاوزه»، يمكن أن يكون مستوى الشعب أقل من تلك اللجنة التي أنشئت، وبهذا المنطق كان يمكن أن تُزال أمور من الدستور، وأن تُرفض لأن الشعب لم يصل إلى مستواها». ويمضي حمودي في طرح تفسيره للمفارقة بين الدستور والواقع، بالقول إن «الدستور، كما مجموعة من القوانين، يجري وضعها للارتقاء بذهنية الناس وبالممارسات. ولا يُنشأ دستور على مقاس أناس لا يعرفون، مثلا، ما هي الحرية السياسية. إذا أردت إنشاءه وفق طبقة كبيرة في المغرب، فإن طبقة كبيرة في المغرب لا تؤمن إلا بأهل الحل والعقد، وستقول لك إنه ليس كل شخص له الأهلية الفكرية كي يعطي رأيه بالسياسة. إذن، كان ينبغي أن يقال إن أهل الحل والعقد فقط هم من لهم هذا الحق». يعتبر حمودي هذا الطرح «فكرا زائفا، لأن الدستور بطبيعته هو مجال للمناقشة، وليس مجالا لأن يُقرر فيه أحدهم بحكم معرفته بمستوى الشعب، لذلك سينشئ دستورا في مستواه. الدستور ليس عريضة، وليس أمرا تدوينيا وفق نظرية المستوى الذي بلغه الشعب. يُنشأ الدستور بمعرفة المجتمع، مع الأخذ بعين الاعتبار تنوع المعارف والمستويات في الشعب، ويجب أن يناقش». يستند موقف حمودي إلى فرضية أن المغرب انتقل بعد دستور 2011 من سلطوية مُطلقة إلى سلطوية مرنة، وأن الدستور الحالي قلّم مخالب السلطوية المطلقة، لكنه لم ينزعها، موضحا أن الفترة اللاحقة للتصويت على دستور 2011 سجلت تراجعات، تجلت في بروز تقنيات جديدة للتسلط، تجلى أبرزها في انتهاكات حقوق الإنسان. بالنسبة إليه، فإن ما جرى خلال العقدين الماضيين يصعب معه العودة إلى الوراء، حيث لا يمكن تصور عودة سنوات الرصاص مثلا، أو العودة إلى السلطوية المطلقة، لكن يمكن العودة إلى ممارسات سياسية معينة، أي إلى تقنيات سياسية للتسلط، وهذا لأن النظام قد يقلص من المكتسبات التي كانت، لكنه في الآن نفسه شيّد واجهة الديمقراطية، فهناك برلمان ومجالس منتخبة ونخب دخلت اللعبة السياسية، وتقول إن هناك مجالا للديمقراطية، وإنه يجب علينا فقط أن نعمل، وإنه ليس مقبولا أن يأتي أحد ويضع هذا الاختيار محط علامة استفهام. ممارسات النظام الجديدة، أي تقنيات التسلط، لا تقبل النخب التي ترفض الدخول في اللعبة السياسية، أو التي لا تقبل الضغط ولا ترضى بغير حرية كاملة للصحافة والرأي والتعبير. دستور تقديري تدافع رقية المصدق، أستاذة القانون الدستوري، عن مقاربة قد تفسر أيضا الهوة القائمة بين الدستور والواقع خلال السنوات التسع الماضية، تلك الهوة التي تدفع البعض إلى الحديث عن دستور لا يساهم في تغيير الواقع، بل يبدو معلقا ومنفصلا عنه. تنطلق المصدق من قراءة تستحضر التطور الدستوري للمغرب منذ 1962، وتميز في سياق وضع دستور 2011 بين مرحلتين؛ مرحلة أولى اتسمت بالرغبة في التعايش بين الملكية وحركة 20 فبراير، حيث إنه عند اندلاع الاحتجاجات كانت الأولى في موقف دفاعي، والثانية في موقف هجومي، ففي الوقت الذي احتلت فيه الحركة مركز الضغط، استثمرت الملكية موقعها في مركز القرار. في هذا السياق، جاء خطاب 9 مارس 2011 الذي سيلعب دورا لا يستهان به في تغيير ميزان القوى لصالحها، هذا إضافة بطبيعة الحال إلى الأسلوب الذي اعتمدته الملكية في مواجهتها لحركة 20 فبراير، والذي كان يتراوح بين المهادنة واللجوء إلى العنف. وتؤكد المصدق أن تحول ميزان القوى السياسي لصالح الملكية يفسر كيف أن الملكية بدأت تسعى إلى إعادة إنتاج هيمنتها على النظام السياسي، والتي لم يكن من الممكن أن تكتمل دون دسترة الانحراف الدستوري، كما تراكم فيالممارسة تحت غطاء الفصل 19 في الدساتير السابقة، أي ما تسميه المصدق «منظومة دستورية ضمنية تقديرية». وهي منظومة كانت تشتغل على ضفاف الدساتير السابقة، ثم جرت دسترتها في نصوص دستور 2011. لكن محاولة إدماج ما هو ضمني داخل منظومة دستورية سامية ترتب عليها قلب مجال الدستور إلى فضاء تقديري، إذ أصبح للملك بفعل صلاحياته بالتصرف في الدستور، وهو الطرح الذي يجعل المصدق ترى أن الفصل 47، مثلا، الذي يثير الكثير من اللغط بين الفاعلين، له «قيمة دستورية وسامية فقط إذا أراد الملك ذلك، وهذا هو معنى الخطورة التي تكلمت عنها». دلالة التحليل الذي تدافع عنه المصدق أنه يؤكد أن «المشكل يكمن في الدستور نفسه، إذ تعتبر أن الانحراف مكون أساسي من مكونات الدستور التقديري، بل ومن العملية التأسيسية في حد ذاتها، في حين أن الانحراف في الدساتير السابقة كان يجري على هامشها، أي في الممارسة، وبالتالي،كان يمكن إصلاحه على مستوى الممارسة السياسية بإعادة الاعتبار لسمو الدستور الذي ينبغي أن يؤطرها». إن «الانحراف الدستوري اليوم بات جزءًا من الدستور نفسه، حيث إن القيمة الملزمة للدستور تبقى رهينة بالسلطة التقديرية للملك وحده». هل يمكننا التقدم نحو دولة المؤسسات والقانون في ظل دستور 2011؟ تستبعد المصدق ذلك، إذ تجيب: «كي نتقدم يجب أن تكون هناك إرادة سياسية تعبّر عن نفسها في إطار المؤسسات». لكن دستور 2011 لا يسمح بذلك، لماذا؟ لأنه «دستور تقديري يمنح الملك صلاحية التصرف بشكل غير محدد في الدستور». أفق صار وراءنا من الواضح أن تطبيق دستور 2011، خلال السنوات التسع الماضية، أنتج قراءات متباينة، بعضها يرى أن ضعف تفعيل الدستور في الواقع يعود إلى الدستور نفسه كونه «عريضة حقوق» فقط دون آليات، أو لكونه «دستوراتقديريا» يمنح الطرف الأقوى إمكانات هائلة لفرض إرادته دون أن يرسم قيودا دقيقة، فيما يرى البعض الآخر أن المشكل ليس في الدستور نفسه، بل في ميزان القوى القائم، كما يقول الطوزي، الذي يفرض قراءة معينة على حساب قراءات أخرى أكثر ديمقراطية، في حين يرى حمودي أن المشكل قد لا يكون في الدستور نفسه الذي انتقل بالمغرب من سلطوية مطلقة إلى سلطوية مرنة، بل في تقنيات التسلط التي تلجأ إليها السلطة لفرض إرادتها على خصومها السياسيين. لكن للفاعل السياسي رأيا آخر. حين يطرح السؤال حول حصيلة تفعيل الدستور خلال السنوات الماضية، يأتي الجواب على شكل حنين إلى سنوات مضت، تبدو مثل فلتة. آمنة ماء العينين، البرلمانية والقيادية في حزب العدالة والتنمية، تؤكد أن ما يستوقف في تقييم السنوات التسع الماضية هو «هذا القدر من الحنين، ومن النوستالجيا التي ننظر بها إلى لحظة دستور 2011». إذا كان الدستور هو الأفق الذي وجب المضي نحوه، فإن ماء العينين ترى أن هذا «الأفق صار وراءنا»، وهو موقف «سيئ للأجيال التي تنظر إلى التراكم، وسيئ للشغف الذي يغذي الحياة السياسية في اتجاه التقدم». وتضيف ماء العينين أن الجميع «يتحدث بحنين عن سنوات 2011 و2012 و2013، حينما كان هناك تنزيل للقوانين التنظيمية، وكان هناك نقاش بالبلد، وكانت هناك أغلبية ومعارضة في بداية الولاية السابقة، لكن اليوم نشعر بأنناعدنا إلى الوراء، وأصبح الأفق هو أن نعود إلى ما كنا نسميه بالتنزيل السليم لمقتضيات دستور 2011»، والخلاصة، «بالنسبة إلي أنه من غير الإيجابي أن تمر تسع سنوات ونشعر بأننا لم نتقدم كثيرا، وأن اللحظة التي أنتجت الدستور في أفقه المتقدم أفضل من اللحظة التي نعيشها اليوم». بل إن ماء العينين تعتبر أن فلتة دستور 2011 انتهت، «يقف المغرب اليوم على أعتاب مرحلة من تاريخه السياسي المعاصر؛ منذ دستور 2011 إلى اليوم كانت هناك أحداث ووقائع وسياقات أعتبر أن المغرب أقفلها»، لكن المفارقة أن الفاعلين «ليست لديهم الجرأة لإنجاز تقييم حقيقي وهادئ، ليس هناك طرف لم يخطئ، وإذا كانت هناك أخطاء فقد ساهم فيها الجميع، وإذا كانت هناك مكتسبات فقد ساهم فيها الجميع. إذن، اليوم يجب أن نقول إن مرحلة انتهت ونحن على أعتاب مرحلة جديدة تحتاج إلى تأمين انتقالاتها التنموية والاجتماعية، ولكن أيضا السياسية». وتأسف ماء العينين لأن المغرب مقبل على «مرحلة انتخابية جديدة دون أن ننجز هذا التقييم، ودون أن يكون لنا شعور جماعي بأننا بصدد انتقال، لا من حيث النقاش العمومي المفتوح، ولا من حيث التشخيص، ولا من حيث الاستعداد، ولا من حيث بناء التوافقات.إذا لاحظت معي، فليس هناك اليوم حوار من مستوى عال، أنا أتحدث عن المضمون السياسي للنقاش الوطني. هناك غياب لعملية تفاوضية حقيقية». وتمضي ماء العينين قائلة: «ليس هناك تفاوض، لأنه ليس لدينا مضمون نضعه على الطاولة. لا وجود لمضمون سياسي للنقاش»، وهو الأمر الذي تفسره بغياب النخب القادرة على ذلك، «لدينا فقر شديد في النخب التي يمكن أن تكون في مستوى قيادة هذا التفاوض»، وأضافت: «أتذكر أنه في شهادات بعض الشخصيات أن ولي العهد، أي الملك الحالي محمد السادس، حينما كان في المدرسة المولوية، كان يصرّ الحسن الثاني على أن تكون له مواعيد يلتقي فيها كبار السياسيين المغاربة بصفته وليا للعهد، يعني تهيئة له. كان يلتقي شخصيات سياسية وازنة يتحدث معها، في إطار التكوين السياسي لولي العهد الذي سيتقلد مقاليد الحكم، أتساءل اليوم: إذا أردنا الحفاظ على هذا التقليد الجميل؛ مع من سيجلس ولي العهد الحالي؟ أمرر بذهني رجالات ونساء الساحة السياسية، وأشعر بأن هذا الفراغ القاتل الذي بلغناه اليوم، والذي هو نتيجة مسار معين، لن يفيد أحدا في شيء.نحن إزاء الفراغ، وهذا أخطر ما يعانيه المغرب اليوم».