تعيش الجزائر على صفيح ساخن بسبب مسودة للدستور تقدم بها الرئيس الجديد عبدالمجيد تبون، بسبب توسع وتصاعد الاعتراضات عليها؛ فمن جهة، لأنها لا تتضمن كل ما وعد به الرئيس في حملته الانتخابات الرئاسية، ومن جهة أخرى، بسبب مواقف متباينة حول الهوية في الوثيقة الجديدة، إذ لم تنل حتى الآن سوى دعم الجيش وأحزاب السلطة السابقة. وقد تطور النقاش حول المسودة بسرعة نحو التنصل منها، إذ تتصاعد المواقف السياسية والمدنية التي تطالب باعتماد صيغ أخرى، بين من يطرح إحالة المسودة على لجنة توافقية، أو هيئة تأسيسية، بل إن البعض طالب بانتخاب برلمان جديد بولاية تأسيسية توكل له مهمة انتخاب لجنة لصياغة دستور توافقي. فما الذي يجري في الجزائر؟ وهل ينجح الرئيس الجديد في إقناع الطبقة السياسية والحراك الشعبي الذي أخمدته كورونا فقط، بجدوى الدستور الجديد؟ تبخر وعود النظام البرلماني رغم أن الرئيس الجديد عبدالمجيد تبون جاء إلى السلطة في الجزائر، على خلفية الحراك الشعبي، الذي اندلع في البلاد العام الماضي، ونجح في إزاحة رموز النظام السابق، وعلى رأسهم الرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة ورجالاته، من أمثال رئيس الحكومة ومستشاريه وقيادات في المخابرات وآخرين، إلا أن المسودة الجديد لم تشمل كل ما وعد به الرئيس تبون من تغييرات، ومنها تجديد النظام السياسي ليكون برلمانيا. الخلاف اندلع في البداية حول صيغة وضع دستور جديد، فبينما كلّف تبون لجنة من الخبراء والجامعيين بإعداد مسودة جديدة، كان الحراك الشعبي الجزائري يطالب بلجنة تأسيسية منتخبة. استغل تبون تراجع الحراك وفرض حالات الطوارئ لمواجهة كورونا، للمضي في اختياره، أي تعيين لجنة من المختصين لوضع الدستور، وبينما كان متوقعا أن تلجأ اللجنة إلى امتصاص غضب الحراك، أثارت مزيدا من الاعتراضات حول مضمون المسودة، المعروضة منذ شهرين على النقاش العمومي. ويبدو أن المسودة لم تقنع طيفا واسعا من الفاعلين السياسيين والمدنيين والرأي العام، بحسب المواقف المعلنة حتى الآن، لأن هؤلاء اعتبروا أن مضمون المسودة بعيد جدا عن التطلعات السياسية المعبّر عنها طيلة عام كامل في تظاهرات الحراك الشعبي، والنقاشات التي دارت في تلك الفترة من جهة، وطبيعة الوعود ال54 التي أعلنها تبون نفسه عشية الانتخابات الرئاسية في 12 دجنبر الماضي، من جهة أخرى. الملاحظ أن مضمون المسودة وسّع من جبهة الرفض، بحيث بات يشمل حتى أولئك الذين لم يجادلوا في تعيين لجنة خبراء لوضع الدستور، ممن راجعوا موقفهم بشأن الآلية الملائمة لصياغة دستور جديد يستجيب لمطالب الحراك الشعبي. ومن أبرز المعارضين القوى والأحزاب الإسلامية؛ مثل جبهة العدالة والتنمية، التي تجاوزت سريعا النقاش حول مضمون المسودة، وطالبت في بيان رسمي ب"إعادة النظر في هذا المسار، خصوصاً ما يتعلق بمنهجية إعداد المشروع التمهيدي لتعديل الدستور، الذي ينبغي أن يكون محل حوار ومناقشة بعيدا عن سياسة فرض الأمر الواقع والتقاليد البالية". ودعت إلى "استبعاد عودة اللجنة التي أعدّت المسودة، والسير نحو التوافق على مسار آخر، بتعيين لجنة أخرى أكثر توافقية وتمثيلية، وتوفير جو حر يسمح للجميع بالولوج إلى كل وسائل الإعلام من دون إقصاء وتمييز". بيان الجبهة، التي توجد في موقع المعارضة حتى في زمن النظام السابق، اقترح يكوين لجنة توافقية، على اعتبار أن مجموع التجارب السابقة في صياغة مسودة تعديلات دستورية عبر لجان تقنية مغلقة تشكّلها السلطة، لم ينجح في توفير دستور يستمر لعقود من دون الحاجة إلى تعديله مجددا. وتلتقي الفكرة التي طرحها حزب جبهة العدالة والتنمية الإسلامي، مع فكرة مماثلة تقدم بها حزب التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية المعارض وذو الميول العلمانية، الذي طالب، كذلك، ب "عقد ندوة وطنية شاملة، تناقش قضايا النظام السياسي وتنظيم الدولة والعدالة والاقتصاد والتربية والطاقة ودور الجيش، وتحقق التوافق حولها، على أن تظهر لوائحها في مشروع دستور، يأخذ بعين الاعتبار كل مطالب الشعب، التي عبّر عنها في الحراك، تحدّد توجهات الجزائرالجديدة. والكلمة الأخيرة تعود بالطبع للشعب الجزائري السيد، الذي يعطي موافقته على الدستور الجديد عبر استفتاء حُر وشفاف. وهذا هو المعنى الذي نعطيه للمسار التأسيسي". قوى مدنية وحقوقية رفضت بدورها مسودة الدستور، منها هيئات قضائية ومحامين وأساتذة الجامعات، علاوة على قوى الحراك الشعبي. الحقوقي البارز في فعاليات الحراك الشعبي، مصطفى بوشاشي، صرّح بأن الدستور "سيحكم مستقبل الجزائر والجزائريين، هو ذلك الذي يصنعونه بأنفسهم عبر نقاش واسع ومن خلال مؤسسات منتخبة فعليا". واعتبر بوشاشي أن "طريقة النظام الحالية غير مجدية، لأنها نفسها التي انتهجها كل الرؤساء السابقين، وبالتالي، نستشف غياب الإرادة السياسية الحقيقية التي تكرس الديمقراطية في الجزائر"، وأوضح أنه "لا يمكن أن يكون هناك حوار حقيقي حين نطرح مسودة دستور معدة سلفا في مثل هذه الظروف الاستثنائية مع وباء كورونا"، معتقدا "أن هذه المسودة لن تشكل دستورا لتكريس الديمقراطية، بل ستحافظ على نفس النظام الأحادي الشمولي الذي لا يؤمن بحق المواطنين بالمشاركة في بناء جزائر جديدة". ويعتقد بوشاشي أن "المناضلين من أجل الحرية والديمقراطية يشعرون أنهم غير معنيين بهذه المسودة، باعتبارها لبنة من أجل بقاء نظام غير ديمقراطي في الجزائر، ولهذا سيستمرون في النضال". ويبدو أن الاعتراض وصل إلى داخل اللجنة المعينة بوضع الدستور، ففي السابع من أبريل الماضي، كان القاضي السابق في المحكمة الإفريقية لحقوق الإنسان، فتساح أوقرقوز، قد أعلن عن استقالته من لجنة وضع الدستور الجديد، بسبب تحفظاته على التعديلات المقترحة من قبل السلطة الجديدة بقيادة تبون، والتي وصفها بأنها استمرار للدستور الحالي الذي صاغه الرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة. وكشف أوقرقوز في رسالة الاستقالة أن اللجنة "لم تقم بمراجعة عميقة للدستور لبناء جمهورية جديدة". غير أن هذه الاستقالة كانت قد مرّت بشكل عابر، ولم تلفت انتباه المجتمع السياسي والرأي العام، ربما بسبب أزمة كورونا التي عصفت بالبلاد والعالم، لكن مراقبين سجلوا منذ ذلك الوقت أن استقالة أوقرقوز تعطي صورة مسبقة عن المخرجات المتوقعة من اللجنة الدستورية، ولا سيما فيما يخص إحداث أي تغيير في طبيعة النظام السياسي القائم في البلاد، كما طالبت بذلك مكونات الحراك الشعبي. ذلك أن الحراك وعديد النخب السياسية والمدنية كانت تطالب بالقطيعة مع النظام الرئاسي السابق، من خلال التحول إلى نظام برلماني، وهو المطلب الذي تبنّاه الرئيس تبون في حملته الانتخابية، الذي وعد بدستور جديد يوازن بين النظام الرئاسي الذي حكم البلاد منذ الاستقلال عام 1962، وبين النظام البرلماني، ويصون البلاد من كل أشكال الانفراد بالسلطة، ويعزز الديمقراطية القائمة على التعددية السياسية، ويعيد الاعتبار للبرلمان. لكن الذي ظهر، بعد الكشف عن مسودة تعديل الدستور، والتي يفترض أن يتم إقرارها في استفتاء عام نهاية يونيو الجاري، أن توجه نحو نظام برلماني في الجزائر كان مجرد وعد قد تبخر. فالتعديلات الدستورية في المسودة، أبقت على النظام الرئاسي، من خلال المحافظة على الصلاحيات الواسعة للرئيس، بما فيها حق تعيين رئيس الوزراء، دون أية قيود في هذا الباب. لقد تبين من خلال المسودة أن اللجنة الدستورية قد استبعدت بالكامل خيار النظام البرلماني، واعتبرت في تقريرها النهائي أن هذا النوع من النظام السياسي "لا يشكل بديلا حقيقيا، بالنظر إلى السوسيولوجيا السياسية للجزائر". بل إنها رفضت الخوض في الخيار بين النظام الرئاسي أو النظام البرلماني، وقرّرت "اعتماد نظام شبه رئاسي يبقي على الشكل الحالي للحكم لضمان وحدة السلطة التنفيذية وتحرير رئيس الجمهورية من أعباء التسيير الحكومي مع المحافظة، خاصة على شرعيته التي يستمدها من الانتخاب". كما رفضت تقييد صلاحيات رئيس الجمهورية وشددت على أنّ "تقييد سلطات الأخير من خلال اعتماد نظام رئيس الحكومة ببرنامج خاص، وإعادة توزيع سلطة التعيين بين رئيس الحكومة ورئيس الجمهورية، وإلغاء الثلث الرئاسي لمجلس الأمة، وإلغاء سلطة رئيس الجمهورية للتشريع بالأوامر، سيؤدي إلى تغيّر طبيعة النظام السياسي". علاوة على استبعاد فكرة النظام البرلماني، التي وعد بها تبون استجابة لمطالب الحراك الشعبي، عمدت التعديلات الدستورية إلى تعزيز سلطة مؤسسة الرئاسة، عبر اقتراح استحداث منصب نائب الرئيس، الذي يساعد رئيس الجمهورية في ممارسة صلاحياته، ويحلّ محله في حال حصول مانع أو شغور منصب الرئيس ويسمح بإتمام العهدة الرئاسية، على الرغم من أنه غير منتخب. كما أبقت التعديلات سلطة تعيين رئيس المحكمة العليا، وهو رئيس المجلس الأعلى للقضاء، لدى رئيس الجمهورية، ما يبقي على هامش ارتباط بين السلطة التنفيذية والسلطة القضائية، إضافة إلى منصب وزير الدفاع، وكذا سلطة التعيين في المناصب العليا، وحق التشريع بالأوامر الرئاسية بين عطلتي البرلمان، وتعيين ثلث أعضاء مجلس الأمة، في مقابل الإبقاء على صلاحيات المجلس النيابي المنتخب نفسها في التشريع والرقابة، وتحديد ظروف سحب الثقة من الحكومة. وتحاول القوى السياسية والمدنية التي أعلنت اعتراضها على مسودة الدستور الضغط لإجراء تعديلات جديدة على المسودة، بما يعيد التوازن بين السلطات، ويمنح البرلمان صلاحيات أوسع، فضلا عن مراجعة حق تشكيل الحكومة للحزب الفائز في الانتخابات. لكن لا يبدو أن السلطة الجديدة مستعدة للاستجابة، بالنظر إلى المواقف المتشددة الصادرة عنها، وعن أعضاء اللجنة المكلفة بوضع الدستور. مسودة أغضبت أنصار الهوية علاوة على الجدل حول استبعاد النظام البرلماني، استطاعت قضية الهوية أن تشكل ثاني قضية في النقاش حول مسودة الدستور الجديد. السبب في ذلك تصريحات رئيس اللجنة التي أعدت مسودة الدستور، أحمد لعرابة، حول قضايا الهوية وموقعها ضمن البناء الدستوري. لعرابة قال في حوار صحافي مع جريدة "ليبرتي" الجزائرية إن "الدستور موجه للمواطنين لا للمؤمنين، وبالتالي، عناصر الهوية يمكن إبعادها عن الدستور ليصبح بإمكانك أن تكون جزائريا دون أن تكون عربيا ولا أمازيغيا ولا مسلما، لكن مجتمعنا غير مستعد لهذا المفهوم من المواطنة، وبالتالي، علينا التقدم بالتدريج، وسترون أن هذه العناصر المكونة للهوية ستختفي من الدستور مستقبلا". تصريحات لعرابة أثارت غضب الإسلاميين أساسا، خصوصا حركة مجتمع السلم التي شاركت في حكومات سابقة بالجزائر، التي ردّت على لسان رئيسها عبدالرزاق مقري، في تغريدة كتب فيها: "هل بقي شيء نضيفه لمن لم يقتنع؟ رئيس لجنة إعداد مسودة الدستور يكشف علانية خطة التيار الذي يمثله؛ القضاء على عناصر الهوية بالتدريج"، في إشارة منه إلى توجهات لعرابة العلمانية، وهيمنة من يوصف بالتيار العلماني في تشكيلة اللجنة الدستورية. وانضم رئيس حركة البناء الوطني والمرشح الرئاسي السابق عبدالقادر بن قرينة إلى مقري في رفضه تصريحات رئيس لجنة وضع الدستور، في قوله إن "تصريحات رئيس ومقرر لجنة الخبراء المكلفة بتعديل الدستور الأخيرة، لا تمثل غالبية الشعب الجزائري ولا تعبر عن نخبه الوطنية، إنما تطعن في مصداقية صاحبها وتعرض مسودة الدستور للشكوك والظنون وتعطي ناقديه الحجة". وقال ابن قرينة في تعليق مطول نشره: "لقد تلقينا باندهاش كبير مع الغالبية العظمى للجزائريين تصريحات رئيس لجنة إعداد الدستور التي تصف الشعب الجزائري بأنه غير مؤهل لاستيعاب مقتضيات المواطنة، وأن الدستور الجزائري لا بد أن يخلو مستقبلا من قيم الشعب وموروثه القيمي والتاريخي"، ووصفها بأنها "تصريحات صادمة ولا تمثل الحياد ولا الموضوعية المتوقعة من رئيس لجنة إعداد مسودة الدستور". البعد الآخر في النقاش حول الهوية ومسودة الدستور انصب على بنود جديدة تخص حرية ممارسة المعتقد والرأي، وإذا كان الأمر محسوما من ناحية المبدأ الذي يكفل ذلك، فإن نقاشا حذرا يتجدد في البلاد في كل مرة تُطرح فيها هذه القضايا الحساسة، بسبب خلفيات تربط بين وجود الأقليات الدينية ومخططات "استعمارية" قديمة، روّجت لها السلطات في السنوات الأخيرة، من خلال الحديث عن عن وجود دعم أجنبي لمجموعات تبشيرية، تنشط في الجزائر بشكل غير معلن. وتضمنت مسودة الدستور بنودا جديدة تخص "حرية ممارسة العبادات من دون تمييز"، ففي المادة 51 ثلاثة بنود تؤكد بأنه "لا مساس بحرمة حرية المعتقد وحرمة حرية الرأي"، و"حرية ممارسة العبادات مضمونة وتمارس بلا تمييز في إطار احترام القانون"، فضلا عن مسؤولية الدولة عن حماية أماكن العبادة، بحيث "تضمن الدولة حماية أماكن العبادة وحيادها". وإذا كانت الدساتير الجزائرية السابقة قد تضمّنت، أيضا، ما يفيد بحرية المعتقد، وأتاحت للحكومة سن قانون في العام 2005 يحدد ضوابط إنشاء معابد دينية لغير المسلمين، وممارسة الأقليات الدينية لشعائرها، فإن البنود الجديدة فتحت الباب لنقاشات جمة حول خلفيات الأمر وملابساته وتداعياته مستقبلاً على النسيج الديني في الجزائر، كما أعادت هاجس "الأقليات" الدينية، ودفعت بمخاوف لدى بعض القوى السياسية والدينية التي عبرت عن رفضها صراحة لهذا التوجه. ويثير هذا الملف حساسية بالغة لدى الجزائريين، وبرز ذلك، خصوصا، في العقد الأخير الذي تزامن مع مشاكل سياسية، لا سيما في منطقة القبائل. وقد زادت حساسية هذا الملف في السنوات الأخيرة بسبب خطاب رسمي وتقديرات وتحقيقات أمنية نشرتها السلطات الجزائرية، كان آخرها تحقيق نشرته وزارة الداخلية في عز الحراك الشعبي، عن وجود علاقة بين مجموعات دينية، مسيحية خصوصا، تنشط في البلاد، بأجهزة استخبارات غربية، فرنسية، تتلقى الدعم والتمويل. وعبّرت الكثير من القوى السياسية والمجتمعية أن مضامين مسودة الدستور، بخصوص قضايا حرية المعتقد، بأن تلك المضامين تتجاوز مسألة حرية المعتقد للأفراد، لأنه يفتح الباب أمام خلق ما تصفه ب"أقليات دينية" قد يتطور موقفها في وقت ما إلى مطالب سياسية تبرر تدخلات خارجية في الجزائر، وتحولها إلى مداخل للضغط الخارجي، على خلفية أنّ حماية الأقليات الدينية مضمار رئيس تشتغل عليه القوى الغربية في العقد الأخير، ولا سيما أن هذه القوى حاولت في أكثر من محطة سابقة إثارة مشاكل مماثلة تتعلق بوضع المسيحيين والكنائس في الجزائر، وفي منطقة القبائل تحديدا، وكذلك، مشاكل بعض الطوائف الدينية كالأحمدية. كما أثير في وقت سابق إقصاء المذهب الأباضي، الذي يعتقد به السكان الأمازيغ في منطقة غرداية جنوبي البلاد، من المقررات التعليمية في الجزائر. الجيش راض عن المسودة إذا كانت مسودة الدستور قد أغضبت أنصار الهوية، كما أغضبت أنصار النظام البرلماني، فقد استطاعت أن ترضي الجيش. المسودة الجديدة نصت على إمكانية أن يشارك الجيش الجزائري في عمليات حفظ السلام الأممية، وكذا على إمكانية التدخل في بلدان الجوار لردع التهديدات الأمنية التي تشكل خطرا على أمن الجزائر. هذه التغييرات من شأنها أن تؤدي إلى تغيير في عقيدة الجيش الجزائري، التي كانت ترتكز في السابق على عدم مشاركة الجيش في أي عمليات عسكرية خارج حدود البلاد، حتى لو كانت في إطار حفظ السلام. وهو المبدأ الذي ظل دون تغيير منذ دستور 1976، لكن تعرض للانتقادات بسبب تزايد المخاطر الأمنية في الجوار الجزائري، خصوصا في منطقة الساحل وفي ليبيا. ويعد هذا الاقتراح بالنسبة إلى المتتبعين أهم ما تضمنته مسودة التعديلات الدستورية، قياسا إلى دور الجيش في ترتيب شؤون نظام الحكم بالجزائر، حيث رأى بعضهم في ذلك «تغييرا في عقيدة راسخة داخل المؤسسة العسكرية»، لم يجرؤ أحد على خلخلتها. يشار إلى أن جيش الجزائر قد خاض 3 حروب منذ استقلال البلاد عام 1962، الأولى كانت ضد الجيش المغربي بسبب اعتداء جنود جزائريين على الحدود المغربية، وفي المرة الثانية والثالثة كانت عامي 1967 و1973 في إطار المواجهة العسكرية للدول العربية ضد إسرائيل. أما سياسيا، فقد لعب الجيش الدور الأبرز في صناعة الدولة الجزائرية، إذ ظلت له دائما الكلمة الفصل في اختيار الرؤساء الجزائريين، وكذا في تنحيتهم، سواء بالقتل كما حدث مع الرئيس محمد بوضياف، أو إبعادهم كما حدث مؤخرا مع عبدالعزيز بوتفليقة تحت ضغط الحراك الشعبي. التغييرات الدستورية الجديدة تسعى إذن إلى إعادة صياغة الجيش وفق تصوَر خاص بالمؤسسة العسكرية تحديدا، في مسعى يكمل التغييرات الأخيرة التي أحدثها الرئيس عبدالمجيد تبون بعد وصوله إلى السلطة في دجنبر الماضي، بدأت بتغيير في قيادات الاستخبارات، وفي القيادة العسكرية، ثم في الأمانة العامة لوزارة الدفاع، حيث جرى توسيع صلاحيات الأمين العام لوزارة الدفاع، هذا في الوقت الذي لم يُعين لحد الآن نائب لوزير الدفاع، كما جرت العادة في عهد الرئيس السابق بوتفليقة، والذي يكون هو نفسه رئيس الأركان العامة للجيش، ما يتيح لهذا الأخير حضور أشغال المجلس الوزاري رفقة باقي الوزراء. وتقول ديباجة مسودة الدستور الجديد إن «الجيش الوطني الشعبي هو سليل جيش التحرير الوطني»، وأشادت ب«اعتزاز الشعب الجزائري بجيشه الذي يدين له بالعرفان على ما بذله في سبيل الحفاظ على البلاد من كل خطر خارجي، وعلى مساهمته الجوهرية في حماية المواطنين والمؤسسات والممتلكات من آفة الإرهاب، وهو ما ساهم في تعزيز اللحمة الوطنية، وفي ترسيخ روح التضامن بين الشعب وجيشه»، مؤكدة «سهر الدولة على احترافية الجيش الوطني الشعبي، وعلى عصرنته بالصورة التي تجعله يمتلك القدرات المطلوبة للحفاظ على الاستقلال الوطني، والدفاع عن السيادة الوطنية ووحدة البلاد وحرمتها الترابية، وحماية مجالها البري والجوي والبحري". ويبدو أن الجيش الجزائري متحمس للتوجه الدستوري الجديد، أي للمشاركة في عمليات حفظ السلام واستعادة الأمن في منطقة الجوار، فقد ورد في افتتاحية العدد الأخير من "مجلة الجيش"، وهي مجلة ناطقة باسم المؤسسة العسكرية، أن "مقترح مشاركة الجيش في عمليات حفظ السلام يتماشى مع السياسة الخارجية للجزائر"، واعتبرت أن "الأمن القومي لبلادنا، الذي يتجاوز حدودنا الجغرافية الوطنية، يقتضي في ظل الوضع السائد على الصعيد الإقليمي وما يطبعه من تحولات وتغيرات جديدة، تعزيز حماية أمن واستقرار وطننا والمشاركة في عمليات فرض حفظ الأمن". وذكرت المجلة أن الهدف من هذا المقترح هو "تفعيل السلم والأمن، خصوصا بقارتنا السمراء، التي تشهد أكبر عدد من النزاعات في العالم، وانتشار أكثر عدد من مهمات الأممالمتحدة والاتحاد الأفريقي، وتعزيز حماية أمن واستقرار وطننا، والمشاركة في عمليات فرض حفظ الأمن". ويعد ما ورد في افتتاحية مجلة الجيش ثالث تأكيد يصدر عن المؤسسة العسكرية بخصوص موقفها مما ورد في مسودة الدستور، إذ سبق لرئيس أركان الجيش بالنيابة، اللواء سعيد شنقريحة، أن أكد، خلال لقاء بين قادة المؤسسة العسكرية بالرئيس تبون مؤخرا، دعمه لما جاء في المسودة "فيما يخص إمكانية تدخل الجيش خارج الحدود الوطنية"، وسبقه قبل ذلك إعلان متحدث باسم مديرية الإعلام في الجيش موافقة الجيش ودعمه المسبق للبند الدستوري الجديد. هكذا يبدو أن مسودة الدستور الجزائري الجديد استطاعت أن تغضب الجميع، باستثناء الجيش، فقد كشفت من جهة أولى عن تبخر وعود الرئيس تبون بإعداد دستور جديد يراعي مطالب الحراك الشعبي بإحداث تغيير في طبيعة النظام السياسي الجزائري، من نظام رئاسي طالما كان سببا في تكريس السلطوية، إلى نظام برلماني يمنح الحق للحزب الفائز في الانتخابات البرلمانية تشكيل حكومة، وبدل إحداث التوازن على الأقل بين التوجهين، قدمت لجنة وضع الدستور مرافعة مطولة ضد عدم صلاحية النظام البرلماني للدولة الجزائرية بحجة أنه لا يتماشى و"سوسيولوجيا الجزائر". كما أغضبت المسودة أنصار الهوية الجزائرية، من الإسلاميين والمحافظين، ممن رأوا أن إضعاف الهوية في مقابل الاعتراف بحرية المعتقد قد يكون مدخلا لخلق أقليات دينية حاملة لمطالب سياسية مستقبلا. لكن هذه المسودة الجديدة استطاعت أن ترضي المؤسسة الأقوى في الدولة، وهي الجيش، الذي قد يضيف سلطات جديدة إلى سلطاته، وبالتالي، امتيازات جديدة وموارد، كذلك، ولذلك كان الطرف الأوحد الذي أصدر صوتا إيجابيا إزاء مسودة تبون، ما يؤكد أن الجزائر لازالت تبحث عن ذاتها، ولا يبدو أنها ستجدها في الدستور الجديد.