يعد ابن تيمية واحدا من الفقهاء والعلماء في تاريخ الإسلام الذين شغلوا مساحة واسعة من الجدل الديني والفكري والسياسي منذ قرون طويلة وإلى اليوم، سواء في العالم العربي والإسلامي أو في الثقافة الغربية، بل ربما كان الوحيد الذي ملأ الدنيا وشغل الناس أكثر من غيره، وأثيرت حوله الانقسامات، بل صار في فترات معينة عنوانا لما ليس هو، وتهمة كافية توجه إلى كل من دافع عنه أو تحدث عنه بغير اللغة التي يراد أن يُخاض بها في فكره وحياته وشخصه. بعيدا عن القراءة الإيديولوجية التي وضعت ابن تيمية خلال العصر الحديث في هذا الصف أو الصف المقابل، وجعلته إما فقيه السلطة، وإما منظرا للعنف، يحاول الدكتور إدريس الكنبوري تقديم قراءة ثالثة تسعى إلى تخليصه من الصورة النمطية، من خلال إعادة دراسته في واقعه، ووضع فكره وإنتاجه الفقهي ضمن التراكم التاريخي للفكر العربي الإسلامي (تنويه من التحرير: نظرا إلى كثرة الإحالات والهوامش نعتذر إلى القراء عن عدم نشرها). لكن هذه القبائل المشتتة التي لم يكن أحد يقيم لها وزنا في الماضي، انبثقت فجأة من تحت الأرض تحت قيادة جنكيز خان، واندفعت من غابات سيبيريا كالسيل الجارف لتسحق كل شيء في طريقها. ففي العام 1220، زحفت هذه القبائل المتوحشة نحو كوريا والصين وجنوب شرق آسيا وهضاب أوراسيا، مرورا بالشرق الأوسط وصولا إلى أوروبا الشرقية. ولم يفاجئ الزحف التتاري المسلمين أو شعوب البلدان الآسيوية فحسب، بل أصاب أوروبا المسيحية ذاتها بالدوار، لأن لا أحد كان يتوقع أن تخرج من أقاصي آسيا الجائعة المتخلفة إمبراطورية عظمى من هذا النوع. ولم يجد هؤلاء تعبيرا أكثر يليق بهذه القبائل التي ليس وراءها تاريخ أو حضارة أفضل من كلمة «المغامرة»، وقد وصف المؤرخ الفرنسي الذي تخصص في دراسة تلك الشعوب بول بيليو (1878-1945) ذلك الزحف العنيف بأنه «المغامرة الأكثر إبهارا في التاريخ». واجهت جيوش التتار مقاومة عنيفة من لدن المسلمين في العراق والشام طيلة سنوات، وكان القتل كرا وفرا بين الجانبين، حيث حاول التتار مرات عدة محاصرة بعض المدن لاحتلالها دون جدوى. ويقول ابن كثير إنه في سنة 634 للهجرة «حاصرت التتار إربل بالمجانيق، ونقبوا الأسوار حتى فتحوها عنوة، فقتلوا أهلها وسبوا ذراريهم، وامتنعت عليهم القلعة، وفيها النائب من جهة الخليفة، فدخل فصل الشتاء فأقلعوا عنها، وانشمروا إلى بلادهم، وقيل: إن الخليفة جهز لهم جيشا فانهزم التتار». ولم ييأس جنكيز خان من احتلال العراق والشام وغيرها من الأقاليم الإسلامية، وفي عام 638 للهجرة، وجه رسالة إلى الحكام المسلمين يدعوهم فيها إلى الدخول في طاعته، ويأمرهم بتخريب أسوار مدنهم، إذ يبدو أن أسوار المدن كانت الحصن المنيع الذي حال دون الغزو التتاري في السنوات الماضية. ومما جاء في تلك الرسالة، حسب ما يذكر ابن كثير: «من نائب رب السماء، ماسح وجه الأرض، ملك الشرق والغرب». وفي عام 1255، جرى تكليف هولاكو بقيادة الجيش المغولي بغزو وتدمير ما تبقى من المناطق الإسلامية في جنوب غرب آسيا، فزحف هذا الأخير على الفُرس في إيران ودمر قلاعهم. وبينما كان يتذوق طعم انتصاره، أرسل وفدا إلى الخليفة العباسي المستعصم بالله في بغداد، يلومه بسبب نكث وعده بتقديم إمدادات عسكرية له في حملاته، ويهدده إذا لم يتخل عن عناده. وكان المستعصم بالله قد ولي الخلافة في العام 1242 خلفا للمستنصر، لكنه كان ضعيف الشخصية، فثارت في عهده الخلافات والخصومات الداخلية بين طبقات وشرائح المجتمع، والصراعات المذهبية على نحو ما حصل بين الحنفية والحنابلة وبين السنة والشيعة، ويقال إنه أمر بهدم الكرخ، وهي المنطقة التي كان يتركز فيها الشيعة في بغداد، وتقابل الرصافة التي كان يتركز فيها أهل السنة، الأمر الذي أثار حنق وزيره الشيعي مؤيد الدين بن العلقمي؛ ومما زاد في تعقيد موقف الخليفة أنه عمل على تسريح الكثير من الجند ووجههم إلى الاشتغال بالتجارة والزراعة. وما إن وصلت رسالة هولاكو إلى المستعصم بالله حتى غضب هذا الأخير، ورد على الوفد بطريقة لم ترق الزعيم المغولي الذي استشاط غضبا. وتروي المصادر التاريخية الإسلامية أن الوزير ابن العلقمي هو من دبر المكيدة، حيث وجه رسالة إلى هولاكو يحرضه فيها على غزو بغداد، انتقاما منه لما جرى مع الشيعة الروافض، واعتقادا منه بأن النفوذ سينتقل إليه، وبأنه يمكنه أن يضع على كرسي الخلافة شخصا من العلويين. لكن ابن الوردي ينفرد بحكاية عجيبة تصور لنا مدى الكيد الذي دبره ابن العلقمي ومن معه من الروافض، فما إن أطل هولاكو على بغداد حتى خرج إليه ابن العلقمي «فتوثق منه لنفسه»، ثم عاد إلى الخليفة وقال له إن هولاكو يريد أن يبقيك في الحكم كما أبقى سلطان الروم، ويريد أن يزوج بنته من ابنك أبي بكر «وحسن إليه الخروج إلى هولاكو، فخرج إليه المستعصم في جمع من أكابر أصحابه، فأُنزل في خيمة، ثم استدعى ابن العلقمي الفقهاء والأماثل، فاجتمع هناك جميع سادات بغداد والمدرسين، ومنهم ملك الأمراء ركن الدين الدوايدار والمستنصري أحد الشجعان، وأستاذ دار الخلافة العلامة محيي الدين بن الجوزي وأولاده»، وأشاع في الناس خبر الزواج الكاذب، فأخذ الناس يخرجون جماعة بعد أخرى وقد قرؤوا الأمان، «فلما تكاملوا قتلهم التتار عن آخرهم»، واستمر القتل أربعين يوما. وفي ما يظهر، كان هولاكو مترددا في غزو بغداد في بداية الأمر، ولعل ذلك راجع إلى ما كان يصله من أخبار المسلمين، ومن المعلومات التي كان يتوفر عليها عن مقاومتهم الباسلة للصليبيين والتتار قبله، وعن أعداد الجنود المسلمين وتضاريس بغداد. وكان التتار يؤمنون بالأرواح وفعل السحر والتنجيم، لذلك، طلب هولاكو استطلاع رأي الفلكيين لاتخاذ قرار نهائي بالغزو أو العودة أدراجه وتأجيل الأمر. ويروي لنا المؤرخ الفارسي رشيد الدين فضل الله الهمذاني، الذي عاش في القرن الرابع عشر للميلاد، في كتابه »جامع التواريخ»، قصة طريفة. فقد استدعى هولاكو أحد الفلكيين من المسلمين السنة، يدعى حسام الدين المنجم، وقال له: «بين كل ما يبدو لك في النجوم دون مداهنة»، فما كان من حسام الدين، الذي كان داهية وجريئا، إلا أن قدم له نبوءة كاذبة لثنيه عن جريمته، فقال له: «إن كل ملك حتى زماننا هذا قصد بغداد والعباسيين، لم يستمتع بالملك والعمر. وإذا لم يصغ الملك إلى كلامي وذهب إلى هناك، فستظهر ستة أنواع من الفساد: أولها أن تنفق الخيول كلها ويمرض الجنود، ثانيها أن الشمس لا تطلع، ثالثها أن المطر لا ينزل، رابعها تهب ريح صرصر وينهار العالم بالزلزال، خامسها لا ينبت النبات في الأرض، سادسها أن الملك الأعظم يموت في تلك السنة»؛ وكان حسام الدين يعرف جيدا التقاليد الوثنية للتتار، وهذا ما جعله يخوف هولاكو بعدم طلوع الشمس في حال غزوه بغداد. غير أن هولاكو كان برفقته من يقدم له ما يريد، وذلك هو نصير الدين الطوسي، فقد استدعاه وطلب مشورته. وبعد تمحيص وتفكير طويلين، جاءت نبوءة الطوسي على خلاف نبوءة حسام الدين المنجم، إذ قال له: «إن هولاكو خان سيحل محل الخليفة». ولكي يخرج هولاكو من حالة التردد، استدعى الاثنين معا وأجرى بينهما مناظرة قصيرة، رد فيها الطوسي على حسام الدين قائلا: «لقد استشهد جمع كثير من الصحابة باتفاق آراء الجمهور وأهل الإسلام، ولم يحدث فساد قط، ولو قيل إن للعباسيين مكرمة خاصة بهم، فإن طاهرا جاء من خراسان بأمر المأمون، وقتل أخاه محمد الأمين، وقتل الموكلَ ابنُه بالاتفاق مع الأمراء، كذلك قتل الأمراء والغلمان المنتصر والمعتز، وقُتل عدد من الخلفاء على يد جملة أشخاص، فلم تختل الأمور».