حالة الطوارئ والحجر الصحي.. مشاهد ترديد النشيد الوطني المغربي من الشرفات، بتأثر وحس وطني وحماس أمام عدسات كاميرات مبرمجة على نقل التجاوب الكبير المفترض للمواطنين مع قرارات أجهزة الدولة، بسن الطوارئ الصحية في البلاد، لمواجهة فيروس لعين أذل دولا عظمى، وسلط جيوشه القاتلة لمحاصرة العالم.. لكن لمدينة الدارالبيضاء وجها آخر غير الذي يحاولون تسويقه، فالأحياء الشعبية مشاتل الفيروس، وقواعده العسكرية التي يعول عليها في هجماته القاسية على دفاعات غير معبأة بالشكل المطلوب للمواجهة. مدينة الدارالبيضاء التي قدر المهتمون عدد سكانها في خمسة ملايين شخص، تحتل الصدارة في عدد المصابين بفيروس “كوفيد 19″، وحسب النتائج التي تصدرها وزارة الصحة تباعا، يظهر أن العاصمة الاقتصادية للمغرب تشكل لوحدها نسبة ثلث المصابين في مجموع الحالات على الصعيد الوطني، وعلى عكس ما يحاول الكثيرون إقناع الرأي العام الوطني به، من وعي الساكنة البيضاوية وانخراطها في التصدي للجائحة العالمية، فجولة بسيطة في بعض الأحياء، كالتشارك وحي مولاي رشيد وحي الفلاح ولالة مريم وسيدي عثمان وشطيبة وغيرها، ستحكي لك أسرارا سوداء ومزعجة جدا، لتعامل مستهتر مع مصيبة تتصيد الأخطاء لتنتشر كالجراد في حقل قمح مثمر. من قال إن المقاهي مقفلة! أمام “تيراس” وجنبات المقاهي المقفلة في إطار الإجراءات الوقائية لمواجهة كورونا، تجد شبابا يتحلقون قرب بعضهم، أو مشتتون، كل اختار مكانه وكأنه على طاولة المقهى، الذي غالبا ما استاء عدد كبير منهم من إقفالها، وحرمانهم من ارتشاف كأس قهوة سوداء كثرت هاته الأيام عبارات الاشتياق إليها، خاصة على صفحات الفضاء الافتراضي الأزرق. بإحدى الإقامات السكنية التابعة لمقاطعة سيدي عثمان، تحلق عدد من المواطنين على سيارة مجهزة بآلة تحضير القهوة، اختارت أن تتوقف قرب إحدى المقاهي المقفلة، وشرع صاحبها في تجهيز كؤوس القهوة السوداء للشباب والكهول الذين تسمرت عيونهم على الكؤوس البلاستيكية المصففة، في تلهف واضح، لإشباع “بلية” لم تستطع أكياس القهوة السريعة التي تحضر في المنزل أن تملأ الفراغ الذي تركته آلات عصر القهوة. الأنفاس تتجول بلا استئذان، تمتزج بدخان لفائف السجائر والحشيش أيضا، دون أن يتحدث أحد أو ينتبه إلى خطورة الوضع، وفتح المجال للفيروس اللعين للانتقال بين عشاق القهوة، الذين اصطفوا باضطراب أمام سيارة انتهزت فرصة إغلاق المقاهي لأسباب وقائية، وشرعت في تحدي القرار، والركوب على ضعف الوعي المتفشي بين المواطنين لتحقق أرباحا لم تكن لتحققها لو ظلت المقاهي مفتوحة، وأيضا لتساهم في انتقال الفيروس بين المواطنين. صاحب السيارة المجهزة حذر، ما جعله متأهبا في أي لحظة لإقفال الصندوق الخلفي الذي ثبتت فيه آلة عصر القهوة، وإدارة المحرك والانطلاق بسرعة كافية لتقيه مداهمات عناصر الأمن ورجال السلطة المحلية، ولذلك فشرطه الأساسي تقاضي قيمة القهوة قبل تسليمها للزبون المتلهف، وكأنه يسلم له قطعة حشيش. الأسواق الشعبية وعلامات الاستفهام الكبيرة في كل الأحياء الشعبية بدون استثناء، تبدو مشاهد تجمهر المواطنين على بائعي الخضر والفواكه، والأسماك واللحوم، أمرا طبيعيا وعاديا، رغم المجهودات التي تبذلها المصالح الأمنية والسلطات المحلية لتوعية المواطنين، وحثهم على عدم الاقتراب من بعضهم، والتحذير من التجمهر، إلا أن الواقع مختلف تماما. تقدم رجل يوحي مظهره أنه تجاوز الثمانين من عمره نحو بائع سمك يبدو أنه من معارفه القدامى، ومد يده للسلام عليه، مقربا خده من وجه البائع، في حركة للسلام الحميمي، غير أن الأخير انتبه إلى اندهاش الزبائن الذين ينتظرون دورهم في اقتناء الأسماك، فسحب وجهه في حركة تمثيلية وشرع في الضحك، منبها الشيخ المسن إلى أن “كورونا كاتسارى فلبلاد”، رغم الحرج الذي ظهر عليه، ليرد المسن بعصبية وتعبير عن عدم الرضا: “والله يجازيك آ محمد، هي أنا دابا فيا كورونا…”، ثم انصرف غاضبا لترمقه عيون مندهشة وشفاه تكاد الابتسامات تنفلت منها لموقف يلخص كل شيء في حي شعبي يهمه توفير المؤونة بوفرة مخافة انقطاعها عن الأسواق، وليس بالضرورة خوفا من فيروس كورونا الذي صار يجهز على ضحاياه من المغرب بوتيرة مقلقة، بعد أن انتقلت أعداد المصابين بالوباء من الأفراد إلى إصابات بالعشرات، وتتصدر خلالها العاصمة الاقتصادية حصة الثلث من مجموع الإصابات بالفيروس في المغرب ككل. السلطات المحلية حاولت تشجيع بائعي الخضر والفواكه بتزويد المواطنين بحاجياتهم، كما حذروهم من الرفع من أثمنة السلع، كما أنها حاولت توعية المواطنين بخطورة الوضع، والاكتفاء باقتناء السلع والعودة بسرعة إلى منازلهم، لكن العقلية في الأحياء الشعبية مختلفة تماما، لأن المواطنين، خاصة النساء، يحببن تجاذب أطراف الحديث مع بائعي الخضر والفواكه واللحوم بشتى أنواعها، أو مع بعضهن البعض، ولا مانع لديهن. تحدي الشباب بعيدا عن الكاميرات رغم ظهور عدد من الطاقات الشابة على قنوات الجرائد الإلكترونية والقنوات الرسمية، وأيضا على أشرطة ب”اليوتوب” تتحدث عن الوعي والانضباط والالتزام بالحجر الصحي، وأيضا الانخراط في مجهودات الدولة للتصدي للوباء العالمي، إلا أن الواقع يحول هذه الصورة المضيئة شيئا فشيئا نحو القتامة، حين ترى عددا كبيرا منهم في معظم الأحياء الشعبية، يجتمعون في “راس الدرب” أو بمحاذاة المقاهي المقفلة، بل منهم من اعتبر أن “كورونا” لن تمنعه من متعة تقاسم تدخين لفافة حشيش مع رفاقه وتطبيق العبارة الشائعة “بوس مومو وردو لمو”، بتمرير لفافة الحشيش إلى رفيقه بعد سحب كمية من الدخان منها، والأكيد أن الفيروس اللعين إذا كان في أحدهم، فلن يترك الآخرين يمضون إلى منازلهم دون المساهمة في انتشاره. وبعيدا عن “البلية” بالمخدرات، اختار شباب آخرون الانتظام في تحد آخر للسلطات ولقرارات الحجر الصحي، والتوجه إلى المساحات الفارغة للعب مباريات في كرة القدم، وما تحمله من احتكاك بين الشباب والأطفال، وهم في الوقت نفسه على استعداد للفرار في حال ظهور السلطات المحلية أو الأمنية، وكأنهم يهيئون أنفسهم لسرد مشاكساتهم ومغامراتهم في المستقبل عن زمن الكورونا، وكيف رفعوا التحدي في وجه الجميع، وتناسوا أنهم قد يكونوا ساهموا في نقل الفيروس اللعين إلى آبائهم وأجدادهم، وقد يكونوا تسببوا في وفاتهم بتهور وعدم انضباط للأهداف الأساسية من قرار الحجر الصحي. بعضهم اختار تحديا شبه انتحاري في التعامل مع الوضع، مبررا عدم انصياعه للالتزام بالبيت بالعيش في غرفة رفقة عائلة مكونة من ستة أفراد، مفضلا المغامرة بصحته والخروج إلى الشارع، وتزجية الوقت، على أن يتزاحكم مع إخوته ووالديه طيلة اليوم في غرفة ضيقة داخل شقة تسكنها أسر أخرى ذات وضع مادي مزري، متناسيا أنه عند عودته أنى شاء قد يكون حاملا للفيروس ويوزعه على أسرته كمن يصوب مدفعية رشاشة نحو أهلهم ويغتالهم بدم بارد. غير أن أغلبهم انتهج طريقة في الدفاع عن مواقفه، مع اتخاذ الاحتياطات اللازمة، خاصة إذا تعلق الأمر بأوامر السلطات المحلية والأمنية بالتزام الحجر الصحي في البيوت، وتطبيق مرسوم العقوبات الزجرية للمخالفين للقرارات العليا، حيث فضل البعض ممارسة لعبة الكر والفر مع الدورية التي لا تظهر إلا بعد تجاوز الساعة السادسة مساء، وكأن فيروس كورونا لا يتجول إلا ليلا، حيث يختفون كالجرذان في لمح البصر عند ظهورها، ثم يعودون إلى نشاطهم العادي بعد دقائق من مرورها، وهم على يقين أنها لن تعاود المرور من المنطقة حتى يوم غد. مشاهد مفزعة بحي مبروكة، وقف رجل ضخم الجثة، بشاربه الكث ووجهه المحمر غير الحليق، يوحي مظهره أنه قادم من البادية وإن كان يرتدي سروالا وقميصا في محاولة للظهور بأناقة، على ناصية زقاق صغير مطل على شارع 10 مارس، على مقربة من الباب الخلفي لثكنة القوات المساعدة لبورنازيل، أفرجت أساريره عن ابتسامة كبيرة، وظهرت أسنانه الصفراء من بين شفتيه وهو يلمح سيدة تبدو أصغر منه سنا، وتتقدم نحوه، كانت ترتدي فستانا ورديا “بيجاما”، مزركشا بزهور مختلفة، وتضع على رأسها غطاء رأس مشدود بطريقة عكسية، فارتمت في حضنه وعانقته بشدة، وشرعت في تقبيله في رأسه ثم جبينه ثم خده، عانقها بدوره في مشهد حميمي بين أفراد أسرة ذات طبائع بدوية بسيطة، في أوقات طبيعية، غير أن المشهد في ظل التحذيرات والهجمات التي يتعرض لها الشعب المغربي من الداء اللعين، أشبه بجريمة مروعة ومنظهر مفرع، قد يطير النوم بسببه من عيون الواعين بخطورة الأمر. وغير بعيد عن مبروكة، وبسيدي عثمان، وبينما كان رجل توحي ملامحه أنه جاوز الستين من عمره، وهو يمسك بمقود دراجة هوائية، ويسحبها في طريقه نحو بيته ربما، إذ برجل آخر يقاربه سنا، يرتدي جلبابا خفيفا بلون رمادي فاقع، يستوقفه، ويتبادلان السلام بالأيدي، وينخرطا في حديث حماسي بينهما، وأيديهما لازالتا متصافحتين، قبل أن يربت أحدثها على كتف الآخر، وهي اللحظة نفسها التي قام فيها الرجل بتمرير راحة يده على وجهه وفرك أنفه، وإعادة ترتيب لحيته البيضاء، اللقاء كان عاديا، لكنه يبين بجلاء منظرا مفزعا في زمن صار فيه اللقاء بمسافة أقل من متر جريمة في حق المجتمع. تناقضات صارخة في حي التشارك الذي كان له نصيب كبير من ضحايا الفيروس اللعين، ومن أول الأحياء الشعبية استقبالا للفيروس من خارج المغرب، وفي حي مولاي رشيد، ومبروكة وسيدي عثمان وحي الفلاح ولالة مريم وحي السلامة، وغيرها من الأحياء الشعبية خلف الطريق السيار المعروفة ب”04″ والتي تتقدم في مراتب أكثر المناطق التي تضم مصابين بكوفيد 19؛ المواطنون مقسمون إلى فئتين متناقضتين تماما، فئة مستعدة للظهور أمام عدسات الكاميرات، بوعيها التام بخطورة المرحلة، وانخراطها في الحملات التوعوية للتعبئة في الحرب ضد الجائحة العالمية، من خلال التزامها بكافة النصائح ومحاولة تمريرها إلى الجيران وأبناء الحي، بل هناك من انخرط في تنظيمات جمعوية لتقديم مساعدات مادية ومؤونات لأسر معوزة قهرها إقفال مصادر رزقها، أو على الأقل تقديم خدماتها للبيوت والسخرة، والتوعية بطرق تعقيم البيوت والأجساد اتقاء لانتشار كورونا. غير أنه في الزقاق ذاته تجد أشخاص أو عائلات، لا تكاد تعترف بوباء فتاك اسمه “كورونا” ويعملون على نشر أفكار مختلفة تماما، مفادها أن “كورونا هو الجوع”، والموت بكورونا أفضل من الموت جوعا، وينتشرون في الأزقة بلامبالاة واضحة، ويدخنون السجائر، ويسلمون على الآخرين دون أدنى احتياطات من الفيروس. ضاربين بعرض الحائط المجهودات الكبيرة التي اتخذتها الدولة، والتضحيات الجسيمة والبطولات التي أظهرها الأطباء والممرضون كصفوف أولى للمواجهة في الحرب مع فيروس أنشأ إمبراطورية وباء على كامل القارات الخمس، محققا بذلك أكبر وأسرع وأوسع غزو في تاريخ البشرية.