يقول إدغار موران، في جواب عن سؤال حول ما هو الدرس الرئيس الذي يمكن استخلاصه في هذه المرحلة من جائحة فيروس كورونا؟ إن هذه الأزمة توضح لنا «أن العولمة هي الاعتماد المتبادل دون تضامن. لقد أنتجت حركة العولمة بالتأكيد التوحيد التقني والاقتصادي للكوكب، لكنها لم تعزز التفاهم بين الشعوب. منذ بداية العولمة في التسعينيات من القرن الماضي، اشتعلت الحروب والأزمات المالية. وقد خلقت مخاطر الكوكب -البيئة والأسلحة النووية والاقتصاد غير المنظم- مصيرا مشتركا للبشر، لكن البشر لم يدركوا ذلك. واليوم، الفيروس ينير هذا المصير المشترك بشكل فوري ومأساوي. هل سنحقق ذلك أخيراً في غياب التضامن الدولي والمنظمات المشتركة لاتخاذ تدابير في مستوى الوباء، نشهد الانغلاق الأناني للدول حول ذاتها». الحلول الفردية التي بدت جلية على المستوى الدولي، تفترض استخلاص درس أساسي، وهو ضرورة الاعتماد على الذات، وإعادة بناء العديد من المفاهيم المضللة التي رسخت التبعية في إطار توزيع دولي للعمل. تصادف جائحة كورونا انطلاق الحديث في بلادنا عن نموذج تنموي جديد، وهو ليس حديث اليوم، بل هو موضوع مطالب اجتماعية وسياسية وخلاصات أبحاث علمية وفكرية، أثبتت خلل الاختيارات التنموية لبلادنا على مدى سنوات، وهي اختيارات لم تميز بلادنا فقط، بل شملت كثيرا من الدول النامية التي وقعت تحت هيمنة خطاب نيوليبرالي ينتصر للشركات والاقتصاد الافتراضي القائم على المضاربات المالية، وكانت تلك الدول عمليا تطبق بانتقائية مدعومة من المؤسسات المالية الدولية، مخرجات توافق واشنطن لبداية التسعينيات، والذي جرى تقديمه من الدوائر المالية الدولية، وكأنه «إكسير الحياة» بالنسبة إلى الاقتصاديات الخارجة من نموذج الاقتصاد المعتمد على التخطيط، وعلى أدوار مركزية للدولة. لم يكن «توافق واشنطن»، والعبارة للاقتصادي الأمريكي جون ويليامسون فقط، عنوانا للانتصار السياسي للغرب بعد انهيار جدار برلين، بل تحول إلى أداة إجرائية لتثبيت هذا الانتصار و للتأكيد على نهاية التاريخ بانتصار الاختيار الرأسمالي في أحد أوجهه الأكثر التباسا، فأصبح «توافق واشنطن» عبارة عن نظرية اقتصادية ووصفة متكاملة للنجاح بالنسبة إلى الدول التي راهنت، سواء بصورة اختيارية أو تحت الضغط، على أن تنفيذ بنود ذلك التوافق، سيفتح لاقتصادياتها آفاقا جديدة، وأنه يمكن لها أن تستفيد من العولمة الصاعدة في تلك الفترة. ركزت توصيات «توافق واشنطن» على ما يلي: – تحقيق الانضباط في المالية العامة. - تحويل الإنفاق العام من دعم القطاعات الاقتصادية إلى الاستثمار في خدمات مفيدة للفقراء ومحفزة للاقتصاد في آن معاً، كالتربية والعناية الصحية الأولية والبنية التحتية. - إصلاح النظم الضريبية بتوسيع قاعدة المكلفين. – الحد الأدنى من الدولة وخفض تدخلها في الجوانب الاقتصادية والاجتماعية. - ترك السوق تحدد أسعار الفوائد. - تحقيق أسعار تنافسية للعملات المحلية. - تحرير التجارة وفتح الأبواب أمام تدفقات الاستثمار الأجنبي. - إلغاء القيود على الاستثمار الأجنبي المباشر. - خوصصة الشركات المملوكة للدولة وإشراك القطاع الخاص في تقديم الخدمات التي كانت مقصورة في السابق على القطاع العام. - تحرير الأسواق بإلغاء القوانين الضابطة. - تأمين ضمانات قانونية للملكية العقارية. تنفيذ هذه التوصيات والبنود، جعلت كثيرا من الدول تدخل في أزمات متتالية بعد «نجاحات» على شكل فقاعات.. بل إن كثيرا منها دخلت منعطفات خطيرة، كما حدث في مصر وتونس، علما أن تحويل الإنفاق العام من دعم القطاعات الاقتصادية إلى الاستثمار في خدمات مفيدة للفقراء، بقي مجرد حبر على ورق، وما نتابعه اليوم من عجز القطاع الصحي في مجموع بلدان العالم عن محاصرة جائحة كورونا، يعتبر أكبر دليل على ذلك. الدول الصاعدة وعدد من التجارب المتقدمة في آسيا، حققت نجاحاتها عبر نماذج تنموية مستقلة متحررة من توصيات المؤسسات المالية الدولية التي لا يخفى على الجميع أدوارها الإيديولوجية، وقوعها تحت تأثير وفي خدمة دوائر الرأسمالية العالمية… لهذا ليست هناك أسرار كثيرة بخصوص وصفات النجاح التنموي بمستوياته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، عسى أن يكون ما يحدث اليوم في بلادنا، رغم كم الآلام التي يحملها، درسا تأخذه بعين الاعتبار.