تغزو المنتجات الصينية كل الأسواق المغربية، سواء تلك التي تستقطب الفقراء أو الأغنياء، إذ يتعلق الأمر بالمنتجات الإلكترونية أو لوازم المنتجات التكنولوجية، أو الملابس، أو الأواني، وربما كل ما قد يخطر على البال المستهلك، يوجد بالسوق، والغزو الصيني لمراكز التسوق المصنفة أو الأسواق التقليدية، يتضمن منتجات صينية أصلية، مثل بعض علامات الهواتف الذكية التي غزا بها العملاق الصيني كل العالم، مثل “هواوي” “وأوبو” و”شياومي” وغيرها، كما توجد، أيضا، منتجات منخفضة الثمن، والتي رغم أن سمعتها في الحضيض، فإن شرائح عريضة ومحدودة الدخل تقبل عليها إقبالا أعمى. ولا يمكن حصر الغزو الصيني للمغرب كما في غيره من دول العالم، في أمور اقتصادية فقط، فالثقافة الصينية ليست بغريبة، بتمثلاتها التي فرضتها المنتجات السينمائية الصينية، إضافة إلى وجود مراكز ثقافية لتعليم اللغة الصينية في المغرب، بما يصحب ذلك من تعليم للثقافة والتاريخ الصينيين. الشاي الأخضر.. الصين من أهل البيت المغربي لا يمكن للأجنبي أن يغفل مدى ارتباط الشعب المغربي بتناول الشاي، والذي وإن طُبع بسمعة مغربية واشتهاره بعبارة “الأتاي المغربي”، فإن من أكبر مصدري الشاي باختلاف أنواعه إلى الأسواق المغربية، هي دولة الصين، لذلك فحضور العملاق الأسيوي في المغرب ليس وليد التاريخ الحديث، بل تغلغل إلى داخل بيوت المغاربة واحتفظ لنفسه بمكانه داخل مطابخ البيوت. ويعتبر الشاي الأخضر من أبرز المواد الاستهلاكية لدى عموم الأسر المغربية، فغياب هذه المادة يعني تلقائيا، غياب عنصر أساسي من اللقاءات العائلية، العادية والروتينية منها، وأيضا في المناسبات الخاصة في كل مناطق المغرب. وبما أن حجم الإقبال على استهلاك الشاي يبقى قويا في البلاد، تشهد هذه التجارة منافسة شديدة بين الشركات والفاعلين الذين يستوردون الشاي الأخضر من الصين الشعبية، باعتبارها المصدر الأول لهذه المادة إلى المغرب. وتشير الأرقام الرسمية التي أصدرها مكتب الصرف في السنوات القليلة الماضية إلى أن تجارة الشاي تسجل تطورا ملحوظا، سواء من جانب القيمة أو حتى في الكميات المستوردة من الصين، إذ تجاوز حجم الأطنان من “الأتاي” 73 ألف طن، وهو ما يعني أن حجم المبالغ التي تُنفق على استيراد الشاي الأخضر، تقدر بالملايير. ويعتبر الشعب المغربي واحدا من أكبر مستهلكي مادة الشاي في العالم، وهو ما سبق لوزارة التجارة الصينية التعبير عنه بشكل رسمي، إلا أن العالم يحتاج إلى ملايين الأطنان من الشاي، وهو ما تؤمنه دول متعددة، لكن أهمها الصين، ثم الهند وسيريلانكا وكينيا، إلا أن استهلاكه يكون مركزا بين دول الصين والمغرب وأوزبكستان واليابان. ويستورد المغرب نسبة مهمة من الشاي الأخضر الصيني من مقاطعة جيجيانغ، التي تعني باللغة الصينية النهر المنحني، إذ تتوفر المقاطعة الشرقية على عدد كبير من معامل إنتاج الشاي القادم من الحقول، والتي توجه جزءا من منتجاتها إلى المغرب. التهافت على المال في الآونة الأخيرة صار متعارفا بين التجار تنقل بعضهم إلى الصين للوقوف على منتجاتهم، ورؤية كيفية تصنيع منتجات مقلدة أو حتى أصلية، وما يعود به التجار المغاربة من تصور حول الصين يكون أحيانا مغايرا للصور النمطية التي تُلصق عادة بالصين وبشعبها. إلياس بلمودن، تاجر متخصص في الأثاث المنزلي، زار الصين في الشهور القليلة الماضية، قصد الوقوف في عين المكان، لفهم قواعد اللعبة الصينية عن قرب، وفي هذا يقول من زار الصين لغرض تجاري، ليس كمن اكتفى بالوسطاء الذين يزودون التجار بالطلبات. وأضاف التاجر السوسي أن ما كان يتصوره حول الشعب الصيني تبدد كليا بعد رحلته إلى الشرق، إذ كان إلياس يتصور، مثل عامة المغاربة، أن الشعب الصيني شديد الانضباط، وشديد الإدمان على العمل حد الهوس والاشتغال لساعات طويلة جدا، إلا أن الواقع هناك، وفق المصرح، يشير إلى أن الصينيين ككل شعوب العالم، يزاولون ما يتوجب عليهم القيام به، مقابل قوت يومهم خلال ساعات عمل محدودة لا تتجاوز سبع أو ثماني ساعات في اليوم الواحد. كما أنهم ككل بني البشر، منهم من يشتغل بحسن نية، لكن هناك أيضا ممتهني الكذب والخديعة في المعاملات التجارية وفي غيرها. ويعتبر المتحدث السوسي أن للصينيين أفضلية مقارنة مع كل من ينافسهم في العالم، لأن لهم حكومة تملك رغبة جامحة في بلوغ أرقام مرتفعة، كما تضع استراتيجية ومخططا مضبوطا للتوسع في العالم واستثمار جهود مواطنيها. هذا، وليس خفيا على أحد الانطواء الذي تعيشه الصين، والمتمثل في عدم ترك النوافذ مفتوحة أمام العالم للوصول إلى شعبها، لكن الرحلة الصينية جعلت إلياس يتأمل غرابة الأمر بعدما وقف على ما اعتبره انغلاقا كبيرا، إذ لا وجود للاقطات هوائية، لكن كل ما يوجد أمام الشعب الصيني هي قنوات حكومية محلية فقط، كما أن تطبيقات التواصل الاجتماعي محظورة، وتوجد مقابلها نسخا صينية مطورة وموجهة لما يفوق مليار و300 مليون صينية وصيني. وبالعودة إلى الدافع الاقتصادي، الذي حفز التاجر السوسي، وقف إلياس بلمودن على قوة المنافسة التي تفرضها المنتجات الصينية، فالصين في هذا السياق وحش، وفق تعبيره، والكل هناك يريد أن يصنع كل ما يقدم لهم من طلبات، “إذ يطلبون دائما منتجات أصلية لتقليدها، وهم مستعدون دوما لذلك، لأن حبهم للمال يفوق الجنون”، إلا أن المتحدث لم يكن مهتما بالمنتجات المقلدة، بل مهتما بقوة الإنتاجية وغزارتها في الصين بشكل يكاد يغرق الأسواق المغربية. “صُنع في الصين”.. العلامة الثقافية أحمد، ثلاثيني، مقيم بالدارالبيضاء، يعتبر الصين حاضرة بقوة في الحياة اليومية المغربية، ويربط وجودها قبل ذلك في أوساط شريحة من مواليد منتصف الثمانينات من أمثاله، فالصين كانت حاضرة دوما في مخيلة الشباب بأعمال سينمائية خاصة بها دون سواها، من أفلام ترتكز على أساليب قتالية، أو حتى باعتبار الفنون الحربية مبنية على حركات مدعومة بقوة بخيال واسع لمخرجيها، وهو ما كان يضفي على هذه الأعمال نكهة فكاهية مميزة. وبالتالي، فإنه وفق ما يرويه محدثنا، فإن الغزو الثقافي الصيني للعالم، بما في ذلك المغرب، كان مفاده رسم تصور للمتلقي، بما تمثله الأعمال السينمائية الصينية من قيم وأخلاقيات وآداب، في أعمال درامية وتاريخية، وأيضا كما أشار أحمد، في الأعمال الفكاهية التي كانت غالبا مبدبلجة إلى اللغة الفرنسية. ويردف المواطن ذاته، الذي يشتغل في مقاولة خاصة وسط الدارالبيضاء، بأن منتجات الصين كانت منتشرة دوما في الأسواق المغربية قائلا: “السلعة الصينية تغرق السوق”، وتبقى آراء المتحدث هي الآراء عينها لدى معظم المغاربة، إذ توجد مواد صينية في كل أنواع المنتجات، من تجميل، وإلكترونيات، وملابس، وأواني، وغير ذلك من مختلف المنتجات. ويتابع أحمد أن السمعة اللصيقة بهذه المنتجات تشير دوما إلى أنها منتجات رخيصة، وجودتها متدنية جدا، إذ يعتبرها، وفق تعبيره، “اللي بغا يعيب على السلع الصينية فالسوق، كيقول هادي غير سلعة الشينوا”. تعلم اللغة الصينية.. تعددت الأسباب والهدف واحد نترك أحمد ابن الجنوب في مركز الدارالبيضاء، ونتجه نحو تقاطع شارعي غاندي وعبدالمومن وسط الدارالبيضاء، إذ يتجمع طلاب شباب يقبلون على مقر تعلم اللغة الصينية التابع لمعهد كونفوشيوس، فالدروس التي تتضمن تعليم اللغة الصينية مصحوبة بتعريف الشباب بالثقافة الصينية العريقة والتاريخ التليد لجولة الصين، تستهوي هذه الفئة الشابة التي تبقى دوافع تعلمها مختلفة، كما مخططاتها. مثلا، محمد، وهو شاب في مقتبل العمر، عازم على تعلم اللغة الصينية لسبب رئيس، وهو أن الاقتصاد في المستقبل يعني شيئا واحدا.. يعني دولة الصين، ومن خلال نبرة الشاب البيضاوي يبدو أنه مقتنع بقوة بأن التنين الصيني آت للتحكم في الاقتصاد العالمي، والمغرب مستقبلا سيكون خاضعا لتغيرات السوق الدولية، وهذا الأمر حتمي، وفق ما يراه محمد، ما يعني أن فرصه حينما تسيطر الصين على اقتصاد العالم ستكون أقوى ممن لا يتحدث لغاتها، وبالتالي، فإن العمل الدؤوب الذي يقوم به هذا الشاب يمكن تفسيره، وفق حكمة الفيلسوف الصيني الشهير كونفوشيوس، “الرجل الذي يحرك الجبال يبدأ أولا بحمل الحجارة الصغيرة بعيدا”، ويضيف الشاب ذاته “أنا متخصص، أساسا، في الدراسات الاقتصادية، وأنا موقن بأن سيطرة اللغة الفرنسية على الاقتصاد المغربي ستزول”، هكذا يبدو أن محمد متشبث بفكرته، خاصة أن قسمات وجهه أثناء الكلام المصحوبة بحركات تدل على قدوم الصين بقوة، وتدل أكثر على أن قصة المغرب وفرنسا ستزول لا محالة. ومن يدري.. ربما، المركز الثقافي الصيني زاد مما يمكن أن نعتبره بعد عشرين عاما تبصر شاب طموح، أو ما قد يعتبر بعد عقدين توقعا في غير محله لطالب اقتصاد تمرد على اللغة الفرنسية. كان برفقة محمد زميلتين من الفئة العمرية عينها، سكينة قالت إن لكل من يتعلم اللغة الصينية دوافع خاصة، وأحيانا ذاتية، وأشارت إلى أن الدافع الاقتصادي الذي أتى بمحمد للمركز، ليس هو الدافع عينه لديها، وقالت الشابة العشرينية ضاحكة: “ما خططت له لم أوفق فيه، التزمت بتعلم اللغة الصينية لأنني كنت أنوي التنقل إلى الصين ومتابعة الدراسة هناك، لكنني اليوم غيرت كل ما خططت له”. وأردفت سكينة بأن هذا لا يشعرها بالندم، فالشابة تبدو سعيدة لتعلم اللغة الصينية في سنة واحدة، فهي شابة وجدت ما يحلو لها في ثقافة الصين المتنوعة، وتابعت “كل شيء مختلف في الثقافة الصينية، كما أن هناك غنى مذهلا في المطبخ الصيني لم أكن لأعرفه، لولا تعلم اللغة الصينية”. تعزيز الوجود الصيني في كل الشراكات.. مغربيا وإفريقيا ولأن السوق المغربي يهم كثيرا المقاولين الصينيين، أعربت عدة شركات صينية العام الماضي عن تطلعها للاستثمار وتطوير شراكات مع المغرب، وفق ما كان واردا في بيان صادر عن الحكومة الصينية، وذلك لنقل شركاتهم إلى دول إفريقية بما فيها المغرب، فالصين بهذا التوسع الرسمي لا تبدو أنها تريد فقط، عرض منتجاتها وشراكات أصلية في دول القارة السمراء، بل تعمل بكل جدية من أجل السيطرة على السوق الإفريقية، وهو ما يدخل في خط المواجهة المحتدمة بين التنين الصيني والمنافسين التجاريين والاقتصاديين، الولاياتالمتحدة أولا، والاتحاد الأوروبي ثانيا. وعبرت الشركات الصينية عن رغبتها في هذا السياق في الاستثمار وتطوير شراكات في المغرب، خلال الزيارة الرسمية المغربية لبكين، والتي كان على رأسها رئيس الحكومة سعد الدين العثماني، في زيارة كانت شاملة أيضا الحديقة التكنولوجية في العاصمة الصينيةبكين. وأشار البيان الحكومي الصيني إلى أن مسؤولي عدة مقاولات أبدوا اهتماما بالاستثمار في المغرب، علاوة على استعدادهم لنقل تجارب شركاتهم إلى دول القارة السمراء، وللسير وفق المبادرات الجديدة التي أطلقها رئيس جمهورية الصين الشعبية شي جين بينغ، والتي سلط عليها الضوء في القمة الثالثة لمنتدى التعاون الصيني الإفريقي العام الماضي. وأعرب المقاولون الصينيون، وفق البيان الحكومي الصيني حينها، أن زيارة الوفد المغربي كانت مناسبة للاطلاع على تجارب عدد من الشركات الصينية الرائدة عالميا، في أفق تطوير شراكات لها مع المغرب ونقل التجارب وجلب استثمارات جديدة إلى داخل المغرب، خصوصا في مجال التكنولوجيات الحديثة واستعمالاتها في الاتصالات والطب والزراعة والذكاء الصناعي والمدن الذكية. وعلاقة بالعزيمة الصينية الرامية إلى غزو العالم اقتصاديا، افتتح الرئيس الصيني شي جين بينغ في أبريل 2019، قمة “طرق الحرير الجديدة”، شارك فيها ممثلون عن 150 دولة، وتتطلع الصين إلى تسويق المبادرة التي ستجعلها محورا للعلاقات الاقتصادية العالمية، عبر استثمار مليارات الدولارات في البنيات التحتية على طول طريق الحرير الذي يربطها بأوروبا، ويتوقع أن يكون أكبر مشروع من نوعه في التاريخ. لذلك، سيكون المستقبل المنظور، على الأرجح، محط صراع تكنولوجي واقتصادي قوي، لن يكون المغرب والمغاربة في منأى عنه.