لم يكن الانزعاج الذي أبداه عبدالإله بنكيران، وهو ينتقد الطريقة التي شكلت بها اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي، نابع من فراغ، فقد بدا واضحا أن هذه الخرجة الإعلامية، تحمل رسائل واضحة بأن سفينة البيجيدي تواجهها مصاعب للوصول إلى بر الأمان بعد أكثر من ثماني سنوات في السلطة، فقد أصبح الحزب محط صراع بين مؤيد للإسلاميين ومعارض لهم في العالم. ووفقا لمعطيات الوضع الدولي والإقليمي، فإن مصير الإسلاميين بالمغرب، قد يكون هو الخروج من السلطة والانتقال إلى المعارضة. عبدالإله بنكيران، وقبل أن يتم إعفاؤه بطريقة اعتبرها البعض غير دستورية، خرج إلى العلن، وهو الذي راكم تجربة واسعة بشؤون البلاد، ويعرف خبايا الإدارة المغربية السياسية، لينبه أن ما يجري حول تشكيلة صياغة النموذج التنموي، خطير جدا، لأنه كما يتوقعمصطفى السحيمي، أستاذ القانون، “فإن البيجيدي سيكون أكبر الخاسرين“ في المقبل من الأيام، لأنه حسب المحلل سياسي ذاته،“سوف يجد نفسه متجاوزا أمام النموذج التنموي الجديد بعد ولايتين تشريعيتين سُجلت خلالهما سلبية النموذج الحالي. ومن ثم،يتساءل السحيمي، هل سيكون حزب العدالة والتنمية الإسلامي، “قادرا على التطلع إلى الرتبة عينها بعد 2021 أمام اقتصاد المعرفة، والذكاء الاصطناعي، وأمام المتطلبات والانتظارات؟خصوصا وأن النموذج التنموي الجديد سيكون هو الفرصة التاريخية والسياسية لطي الصفحة والانخراط في طريق المستقبل“. ومن جهة أخرى، فإن خرجة بنكيران أعادت، بالنسبة إلى العديد من الباحثين والمهتمين، النظر في أزمة الثقة بين الحركة الإسلاميةبالمغرب والقصر إلى واجهة الأحداث وإلى نقطة الصفر، وحملت في طياتها خفايا من صراع جديد، يطرح سؤالا مهما، وهو هل باتت الدولة تخشى الإسلاميين بعدما تم إقصاؤهم من لجنة بنموسى؟ لمعرفة خفايا خرجة بنكيران، يؤكد، محمد منار، أستاذ القانون العام وعلم السياسة بجامعة القاضي عياض، أنه “من الوهم الاعتقاد بأن السماح لحزب العدالة والتنمية بقيادة الحكومة منذ سنة2011، كان انعكاسا وتجسيدا لإرادة حقيقية لإشراك فعلي للإسلاميين في السلطة، فهذا الأخيرة لا تقبل الشراكة. والمخزن أحدث مؤسسات عصرية لاقتسام السلطة وتوزيعها والفصل بينها، وعدم احتكارها من قبل جهة واحدة. مؤسسات مثل الحكومة والبرلمان وغيرها“.فمنار هوّن من تداعيات خرجة بنكيران، لأنه “من الضروري التوكيد على هذا الأمر، لأن الذي يستمع إلى بنكيران، يظن كأن ما حدث بخصوص اللجنة الملكية للنموذج التنموي فيه انقلاب على إشراك الإسلاميين، والاكتفاء فقط، بالحداثيين. وهذا غير صحيح لأن إشراك الإسلاميين في السلطة لم يكن فعليا، ولكنه كان توظيفا لتجاوز مرحلة الضغط على النظام السياسي فرضها الربيع العربي، وهو الأمر الذي نجح فيه النظام إلى أبعد الحدود، كما أنه “من الخطأ،أيضا، تصنيف كل أعضاء اللجنة باللادينيين، لأن الأمر ليس فيهأي انتصار للحداثيين على الإسلاميين. إذ ما يهم النظام هو تأمين استمراره، وهو مستعد ليوظف في سبيل ذلك جزء من الإسلاميين أو جزء من العلمانيين، حسب الحاجة وحسب الظروف“. وفقا لهذا الرأي، الذي يقدمه أستاذ القانون العام، ف”المشكل في اللجنة مشكل منهجية، وليس مشكل أشخاص. أليس استمرار هذا الأسلوب، أي أسلوب اللجان الملكية، مظهر من مظاهر الملكية التنفيذية التي ظن بعض الناس أنه تمت القطيعة معه بدستور 2011؟ إذ ما معنى أن تشكل لجان في قضايا السياسة العمومية،التي من المفترض أن تكون الحكومة هي المسؤولة عنها، إذا كان النموذج التنموي أكبر من سياسة عمومية، كما يذهب إلى ذلك البعض، أليس من الأولى أن يكون هناك حوار وطني حر يشارك فيه كل المعنيين، بدل فرض رؤى فوقية على الفاعلين التنمويين؟ التنمية ليست أوراقا وتقارير، التنمية فعلٌ، وهذا الفعل يحتاج إلى تعبئة عامة، وهذه التعبئة لن تتحقق إلا بمشاركة المعنيين في وضع الرؤية والمساهمة في اتخاذ القرار عبر الحوار والنقاش العمومي الحر والمسؤول“. وحسب الباحث في علم السياسة، فبنكيران بتصريحه “يقفز على جوهر المشكل، وكأن وجود أشخاص من حزب العدالة والتنمية في اللجنة سيكون له تأثير كبير في طبيعة النموذج التنموي، مع العلم أن حكومتين بقيادة حزب العدالة والتنمية ظل تأثيرهما جد محدود في السياسات العمومية“. لهذا، فإنه يستبعد “الحاجة إلى الحديث عن تيار ديني أو غير ديني في اللجنة لأن هذا لن يغير شيئا في الواقع، ثم إن هذا الأمر جرّ لنقاش مغلوط، كان الأولى أن ينصب على المنهجية والمقاربة الصحيحتين اللتينينبغي أن يوضع بهما النموذج التنموي. فهل نقبل بنموذج جديدبنفس المقاربة الفوقية والاحتكارية التي أنتجت الفشل التنموي الحالي؟“، على حد تعبيره. محمد جبرون، المهتم والعارف بشؤون الإسلاميين بدا متفائلا، إذ قلّل من فرضية خشية الدولة من إخوان بنكيران، ف”الدولة المغربية تدبر الأخطار والتهديدات، وتحرص على توازنات دقيقة بين الفاعلين السياسيين الداخليين والخارجيين، واللجنة كما فهمنا من خلال الخطاب الملكي يفترض أن تكون غير حزبية، وغير إيديولوجية.. وأي شكل من أشكال المحاصصة الحزبية أو الإيديولوجية، هو إعلان مبكر لفشلها. فالأحزاب والجماعات الإيديولوجية لديها أكثر من مؤسسة للتعبير عن تصوراتها للنموذج التنموي، وهي حاضرة في مؤسسات القرار على مستوى الدولة“.ومن ثم، فإن المفكر جبرون، يعتقد أن ملاحظة بنكيران مبالغ فيها.ربما، هناك بعض الأسماء التي لها قناعات فكرية أو سوابق حزبية،لكنها كفاءات في مجالات معينة، والإسلاميون من هذه الناحية يعانون من مشكلة الكفاءات“. ويستبعد جبرون، وجود صراع خفي، من وراء إبعاد الإسلاميين من لجنة بنموسى، لأن “السياق الذي برز فيه الحديث عن النموذج التنموي في المملكة يحيل إلى ثلاثة أمور أساسية، الفشل الاجتماعي للدولة المغربية في السنوات الأخيرة، بحيث عجزت عن ترجمة النمو الاقتصادي إلى مكاسب اجتماعية للمغاربة على صعيدي الصحة والتعليم والتشغيل، وتزايد حدة الاحتجاج علىالدولة وارتفاع منسوب عدم الثقة، والتوزيع غير العادل للثروة الذي يجعل كل الجهد التنموي يصب في صالح الحيتان الكبيرة“. وهذا السياق، بحسب جبرون، و“ما يقتضيه، ربما، لا يطرح سؤال الدين،أو بعبارة أخرى لا يجوز “استعمال” الدين في الجواب عن السؤال الاجتماعي المغربي أو خلق الارتياح لدى المواطن. ومن ثم، فالتحفظات التي سجلها البعض على لجنة بنموسى لا يجب أن تُحمل أكثر مما تحتمل، فهي ليست شرارة حرب بين المحافظين والحداثيين، وليست إقفالا لقوس الإسلاميين“. وحسب عبدالصمد بلكبير، المحلل السياسي، الأمر لا يتعلق بإبعاد أعضاء البيجيدي لوحدهم من لجنة بنموسى، بل إنه يتعلق، أيضا،ب”إبعاد كل المكونات ذات المرجعية الإسلامية، وفي مقدمتها علماء الدولة الرسميين، إذ لا يوجد من يمثل وجهة النظر الإسلامية، ذلك لأن الطابع الفرنكوفوني والعلماني هو الذي غلب على تشكيلة اللجنة، وهو يعكس تماهيا مع التيار العولمي المضاد للقيم والأخلاقالعامة والدين والعرف وضد الروابط والميثاق الموحد للأمة، والذي ليس بالضرورة يمثله حزب العدالة والتنمية لوحده. إذ إن غياب التوازن كان السمة الغالبة، ولم يتم الأخذ بالاعتبار في تشكيلة لجنة النموذج التنموي، الأطراف المكونة للشعب المغربي منذ 1400 سنة”. قبل أن يتساءل بلكبير، هل هناك من عضو في لجنة صياغة النموذج التنموي، مؤهل للتعبير عن وجهة النظر الدينية والهوياتية، فالأمر بالنسبة إليه “لا يعدو أن يكون إلا تنزيلا لتوجهات خارجية بشروط مغربية“، لا يوجد في ذلك مكان للأصوات المحافظة، مادام أن المقاربة اقتصادية واجتماعية بامتياز. بلكبير قال إن “بنكيران لم يتحدث كعضو من العدالة والتنمية في خرجته التي انتقد فيها تشكيلة لجنة بنموسى، فقد “عبر عن انزعاجه كزعيم حزب سياسي سابق، وكرجل مسؤول. وشدد بلكبير على “أن المغرب يوجد في وضع خطير، ومقاصد الأجنبي هي الفتنة”، قبل أن يؤكد أن الدولة لا تخشى الإسلاميين، بقدر ما تخشاهم أطراف أجنبية في فرنسا وقسم من الإدارة الأمريكية، وبالتالي، فالمغرب محط صراع بين مؤيد للإسلاميين، ومعارض لهم في العالم“. وأمام هذا الوضع العالمي يتحدث بلكبير أن “مصير الإسلاميين بالمغرب، قد يكون هو الخروج من السلطة والانتقال إلى المعارضة، وهي الإشارة التي لمح إليها بنكيران في خرجته الإعلامية الأخيرة، حين هدد بالخروج للمعارضة، لأن أطرافا خارجية، يؤكد بلكبير، “لها أغراض حقيقية لكي يخرج الإسلاميون من الحكومة، فلذلك يفكر حزب العدالة والتنمية الآن، هل من الأفضل له أن يقلل من خسائره السياسية، أو الخروج للمعارضة، لأنها أفضل له من تقليل الخسائر وهو موجود في السلطة، وهو النقاش الذي أكد بلكبير على أنه “غير موجود علنا، لكنه يُدار على مستوى أفراد قياديين كسعد الدين العثماني، ومصطفى الرميد، وعبدالإله بنكيران، على نار هادئة، إلا أن المثير هو أن بنكيران بعد خرجته بدا يمتلك الجواب، لأنه قال إنب”وجودنا في الحكومة، نخسر جماهيرنا ونخسر قضيتنا في الدفاع عن الإسلام والذاكرة والعربية والمقومات، أكثر مما لو خرجنا إلى المعارضة“. وهي التحولات المقبلة، التي ستعجل بها لجنة صياغة النموذج التنموي، يضيف بلكبير، لأن “إرادة انتزاع المغاربة من جذورهم تتجلى في مظاهر كثيرة، وبالتالي، مبرر وجود الإسلاميين، أصبح مطروحا بحدة، إذا ما استمروا على ما هم عليه، لأن جدارتهم هي في الدفاع عن الهوية، وفي الجانب الاجتماعي الداعم للفقراء والعاطلين والنساء الأرامل، فالمعنى التاريخي لوجود العدالة والتنمية والعدل والإحسان، يُفرغ الآن من محتواه تدريجيا، وبالتالي، سيهمشون، ولن يبقى منهم إلا من هو مستعد للاندماج في النظام العالمي الجديد“. إدريس الكنبوري، الباحث في شؤون الحركات الإسلامية، استبعد “الخوف من الإسلاميين لدى الدولة في المغرب، خصوصا في مرحلة ما بعد الربيع العربي التي لايزال العالم العربي لم يخرج منها حتى الآن. لذلك، فورقة الإسلاميين لازالت مهمة من الناحية الوظيفية“.ليشدد أن “الإسلاميين في حزب العدالة والتنمية، كانوا شركاء أساسيين للدولة في عملية الانتقال التي حصلت عام 2012، وهيالشراكة التي لازالت قائمة وإن كان هناك تحفظ حول حدودها والهوامش المسموح لها بها، لأنه لا ينبغي أن ننظر إلى الدولة كطيف واحد، بقدر ما هناك رؤى مختلفة قد تكون متضاربة، بل، ربما،كانت التيارات الموجودة في المجتمع هي نفسها داخل الدولة باعتبار الدولة نظريا، هي التعبير المكثف عن المجتمع أو هي الانعكاس“. وشدد الباحث في شؤون الإسلاميين، “أن ما يحصل في الحقيقة يكشف أننا لم نحسم في أمور كثيرة بسبب عدم ترسيخ قيم الديمقراطية والتعددية منذ حقبة الحصول على الاستقلال، ولهذا السبب نجد أن التنظيمات السياسية، وحتى التيارات التي توجد خارج مسمى التيارات بالمعنى الكلاسيكي، تتعامل مع الدولة بمنطق الغنيمة، بمعنى بدلا من النظر إلى الدولة باعتبارها تعكس المصالح المشتركة، في إطار الفكر الديمقراطي تتعامل معها بوصفها أداة للاستعمال ضد الآخرين. وهذا المنطق للأسف نجده عند الإسلاميين وعند غيرهم. لذلك، أنا أعتقد أن إقصاء الإسلاميين من بعض المؤسسات ليس اختيارا واعيا من الدولة، بل من جهات تعتبر الإسلاميين خصوما“. وحسب الكنبوري، “لا توجد أي علاقة لصراع محتمل بين المحافظة والتحديث بما نعيشه في المغرب اليوم. إذ بكل بساطة أن معركة التحديث تُخاض بأدوات مختلفة عن هذه الأدوات، وهي معركة جماعية لا تقوم على الإقصاء، بل على التداول والحوار الطويل وبنخبة وطنية حقيقية ليس لديها أهداف سياسية مباشرة وفورية. قبل أن يتأسف من “المدافعين عن التحديث في بلادنا، والذين يمثلون اليوم نموذجا للفشل والتقليد والإقصاء والعنف الرمزي، لذلك قضية المحافظة والتحديث هي قضية حسابات سياسية يقودها سياسيون بدون رؤية“. ومن ثم، يؤكد الكنبوري أن “لجنة النموذج التنموي هي رد فعل من القصر على هذا الفشل. لقد انتقد الملك في السنتين الأخيرتين الطبقة السياسية والأحزاب، وأنا أظن أن تشكيل اللجنة أولا، ومن خارج الأحزاب ثانيا، معناه الحكم بالفشل على النموذج الحزبي القائم“. وتابع الباحث في شؤون الحركة الإسلامية، أن “لجنة بنموسى لم تستند على معايير الانتماء الحزبي حتى نتحدث عن إقصاء الإسلاميين، فهي أقصت التكتلات الحزبية، ومن الطبيعي أن لا تنفتح على الإسلاميين كتكتل حزبي. صحيح أن هناك ملاحظات تخص تركيبة اللجنة، مثل عدم مراعاة الحساسيات الثقافية، ولكن هذه الملاحظات لا علاقة لها بطبيعة اللجنة كلجنة فوق حزبية، وغير مرتبطة بأي لون سياسي معين“. ويضيف الكنبوري أن أي حكومة في المستقبل ستكون “مضطرة للتكيف مع توجيهات اللجنة التي تحظى بالمباركة الملكية، بمعنى أن الحكومة المقبلة سواء قادها إسلاميون أو غيرهم ستكون محدودة الحركة، ومرتهنة لتنزيل توصيات اللجنة“، وهو الأمر الذي “سيكون مهما من الناحية البراغماتية، وربما، يعود بنا إلى مرحلة المخططات الوطنية في السبعينيات والثمانينيات، ويعطي نتائج أفضل، ولكنه من ناحية أخرى سوف يزيد في إفراغ الحياة السياسية من المعنى، إلا إذا كان أحد أهداف المرحلة المقبلة هو إعادة تجديد النخب والقيام بتحولات ثقافية، في إطار نموذج تنموي مبتكر وحقيقي“.