جرت في الهند أكبر انتخابات في الدنيا، استغرقت أكثر من عشرة أيام، وتمكن فيها 551 مليون مصوت من أصل 814 مليون ناخب من تتويج نارندا مودي بأغلبية مطلقة، بعد عشر سنوات من حكم حزب المؤتمر. في الهند مئات اللغات والقبائل والملل والنحل، ولكن، لا أحد يجرؤ على اعتبار الشعب قاصراً عن ممارسة الديمقراطية، ولا أحد يدعي أن السبيل الوحيد للتحكم في هذه الفسيفساء المدوخة قبضة حديدية، تعرف ما يصلح وما لا يصلح للشعب الهندي، الحاكمون والمحكومون كلهم مقتنعون بالديمقراطية، مؤسسات ونظام حكم وطريقةً مثلى للتعايش، ولترويض العنف الكامن في كل تعدد، ولضمان الأمن والاستقرار والتقدم. لكن الهند حتى وهي من أكبر ديموغرافيات العالم، ومن أكثر الاقتصاديات المنبثقة حضورا وقوة، تظل تلك الهند الغامضة، التي تنتخب أكبر برلمانات العالم، وتصنع أدق الأنظمة المعلوماتية، وتستثمر في كل القارات، وتتحكم في شركات عالمية. ومع ذلك، مئات الملايين من سكانها في وضع فقر مدقع، جنبا إلى جنب مع قصور الأكابر وثرواتهم، في بلد كل شيء فيه ضخم وغامض، الديانة والثروة والبؤس والسياسة والثقافة والجمال والألم. متى تستطيع أكبر ديمقراطية في العالم أن تضمن لكل من يشارك في بناء هذا المجد الديمقراطي عيشاً كريماً، يجعل الحرية مرادفة للأمل، هذا هو السؤال المحزن في الانتخابات الهندية. في مصر، تُجرى انتخابات رئاسية نعرف منذ شهور نتيجتها، هنا، لا يوجد تردد ولا حياء، فالرئيس المنتظر (الذي بشّرت بقدومه الأنبياء) يقول، علنا، إن الشعب المصري غير جاهز للديمقراطية، ربما يصبح جاهزاً بعد عشرين أو ثلاثين سنة، أي بعد أن يكون سيادة المشير قد شبع حكماً بأصوات الشعب الذي لا يتقن من الديمقراطية إلا التصويت له، وله شخصياً. هنا سيبدأ عهد جديد من حكم الزعيم المنقذ الأوحد، الشجرة التي غرستها الثورة يانعةً بدماء شهدائها، اقتلعتها دبابة كاريزمية، تتصور أن الشعب يحتاج إلى صدر يبكي عليه، وليس إلى تعاقد ناضج بين حاكم ومحكوم. المحزن في انتخابات مصر أن أكبر دولة عربية، سكاناً وحضارة وعطاء، لا تستطيع أن تمنحنا ولو ديمقراطية صغيرةً، نُباهي بها الأمم. وأخيراً، جرت انتخابات البرلمان الأوروبي، بعد حملة انتخابية، لم يدافع فيها أحد باستماتة عن أوروبا، فقد عاش الناخب الأوروبي، منذ انفجار الأزمة الاقتصادية، محنة البطالة والفقر والغلاء، مقتنعاً بأن أوروبا مسؤولة بشكل مباشر عن ذلك، إن لم يكن في استحكام الأزمة، ففي العجز عن إيجاد حلول سريعة لتفاقمها. لم ينجح، إذن، في أثناء الحملة الانتخابية سوى الصوت المضاد لأوروبا، والتي تفرض سياسات تقشفية تخنق النمو، وعملة موحدة فصلت على مقاس المصالح الألمانية، وحتى أكثر المتشبثين بحلم الوحدة الأوروبية تعبوا من تعثر البناء الأوروبي الذي لم ينجح، حتى الآن، في التحول من تجمع ثقيل بطيء الحركة، إلى نظام فيدرالي فعال ومتجانس، وقد وجد هؤلاء أنفسهم مترددين بين إرضاء الشارع الذي يرى في الوطنية الضيقة جواباً عن عجز أوروبا والوفاء لقناعتهم بأن بناء أوروبا قوية باختصاصات واسعة هو الجواب الحقيقي على مشكلات الدول الأعضاء، وهذا التردد بين الأمرين ترك المجال واسعاً لليمين المتطرف الشعبوي ليحصد أصوات الغاضبين واليائسين. بطبيعة الحال، لن يكون لليمين المتطرف تأثير يذكر داخل البرلمان الأوروبي، ولكن رمزية حصوله على المرتبة الأولى في فرنسا، ووصول ممثلين عن النازية الجديدة إلى البرلمان الأوروبي بأصوات الناخبين، يوقظ كوابيس ثاوية، ويجعل من هذه الانتخابات شيئاً حزيناً في بلدان مؤتمنة نظرياً على الرصيد الديمقراطي في العالم. ثلاثة انتخابات حزينة، حتى نعرف أن التصويت ليس دائماً نزهة كل المسرات.