حلّت هذا الأسبوع ذكرى مرور 40 سنة على استرجاع المغرب لإقليم وادي الذهب. هو آخر قسم من التراب الوطنيتمت استعادته إلى حظيرة الوطن، لكنه وخلافا لباقي المناطق التي استرجعها المغرب تباعا بعد استقلاله الأولي عنفرنسا وإسبانيا، لم تتسلّم المملكة إقليم وادي الذهب من يد مستعمر أوروبي، بل سحبتها من قلب اتفاق غادر، كانيقضي بنقل السيادة عليها من موريتانيا التي شاركت المغرب معركة تخليص الصحراء من الاستعمار الإسباني، إلىجبهة البوليساريو. مشهد الأعيان والشيوخ الذين مثلوا بين يدي الملك الراحل، الحسن الثاني، لتقديم البيعة الشرعية له في منتصفغشت 1979، ليس سوى واحدٍ من مشاهد مسار طويل بدأ مع المسيرة الخضراء ولم ينته إلى اليوم. لكن خضوعإقليم وادي الذهب للسيطرة الموريتانية بعد المسيرة الخضراء، وبناء على اتفاقية مدريد الشهيرة التي وقعت بين المغربوإسبانيا وموريتانيا في أبريل 1976، بات أقرب إلى ال“طابو” في النقاشات التي يعرفها المغرب حول ملفالصحراء، بينما يعتبر هذا القوس الفاصل بين 1976 و1979 حاسما في فهم أبعاد وخلفيات هذا النزاع الذي كلّفالمغرب قرابة نصف قرن من الحرب والارتهان للمسارات الدولية والاستنزاف الاقتصادي. حلول الذكرى صادف هذه السنة نشر المزيد من الوثائق الاستخباراتية الأمريكية التي كانت مشمولة بالسرية، وجلهاتقارير وبرقيات دبلوماسية. لكنّنا في هذه المحاولة لإعادة تركيب القصة المتعلقة بالثلث الجنوبي من الصحراء،سنعطي الكلمة أساسا للملك الراحل الحسن الثاني، من خلال أرشيف خطاباته وندواته واستجواباته الصحافية،لنحكي قصة “تنازل” تكتيكي ومرحلي قام به المغرب لفائدة موريتانيا، قبل أن يستعيد أرضه بالبيعة الشرعية والقوةالعسكرية. وفي جذور هذه الفكرة القائمة على اقتسام الصحراء بين المغرب وموريتانيا، نعود إلى الأيام الأولى التي أعقبت تنظيمالمسيرة الخضراء. ل“نشاهد” الملك الراحل الحسن الثاني، وهو في ندوة صحافية عقدها بالقصر الملكي بالرباط يوم25 نونبر 1975، وهو يروي مضمون الحوار الذي دار بينه وبين الأمين العام للأمم المتحدة مستهل العام 1975: “قال لي بعد مأدبة عشاء: لقد بدأت تروج بعض الإشاعات في كواليس الأممالمتحدة عن اقتسام الصحراء بينكم وبينموريتانيا. وقلت: هل تشكون في ذلك يا حضرة الأمين العام؟“. في الأرشيف الرسمي للمغرب، نجد نص اتفاقية مؤرخة في 14 أبريل 1976 تتعلق بتخطيط الحدود البرية بينالمغرب وموريتانيا. الظهير الملكي الذي يصادق على الاتفاق صدر في الجريدة الرسمية عدد 3311 مكرر. إلىجانب هذه الاتفاقية، أبرم اتفاق تعاون اقتصادي ملحق بها، ينص على اشتراك البلدين في رأسمال شركة فوسبوكراع التي تستغل الفوسفاط في الصحراء، “على أن تحدد ترتيبات هذا الاشتراك باتفاق بين البلدين“. ويضيفالاتفاق الاقتصادي أن البلدين اتفقا على تنسيق وسائلهما وطاقاتهما من أجل استكشاف الثروات الباطنية فيالأقاليم الصحراوية المسترجعة قصد العمل على استغلالها بكيفية مشتركة… ما خشيه المغرب حصل بالفعل، وتبديدا لأي شك حول الجهة التي تقف وراءه، فإن الاتفاق بين موريتانيا والبوليساريووقع في العاصمة الجزائرية. وفدان يمثلان الطرفين، اجتمعا رسميا بين 3 و 5 غشت 1979، ووقّعا على وثيقة تلتزمبموجبها موريتانيا بالانسحاب من الصحراء وتسليم الجزء الخاضع لسيطرتها لجبهة البوليساريو، وذلك بعد سبعةأشهر من توقيع الاتفاق، أي أن وادي الذهب كان سيصبح تراب دولة البوليساريو ويمنحها فرصة الوجود المادي لأولمرة. فهم التعقيدات المرتبطة بتدبير المسار الأممي لملف الصحراء، يقتضي الوقوف على ما جرى في تلك المرحلة، من توافقمغربي موريتاني، كان هدفه الأول والأخير، الحفاظ على ارتباط المغرب بعمقه الإفريقي، والحؤول دون زرع كيانمعادٍ يفصله عن موريتانيا، وتتحكم فيه الجزائر. وإذا كان هذا الصراع المرير قد استمر إلى اليوم، فلأن خصومالمغرب أصروا على فصله عن إفريقيا، وانطلقوا من الانقلاب الذي عرفته موريتانيا في يوليوز 1978، للإطاحةبالمختار ولد داداه، رفيق الحسن الثاني في استرجاع الصحراء. بين تاريخ الانقلاب في موريتانيا ومسارعة الجيش المغربي إلى فرض سيطرته على “تيرس الغربية” وبين لحظة قدومشيوخ وأعيان الإقليم لتقديم بيعتهم في غشت 1979، واصل الحسن الثاني مرافعاته الدينية والتاريخيةوالدبلوماسية لتأصيل ما يقدم عليه من خطوات. “… إذا قامت موريتانيا بعمل مثل هذا (التنازل عن وادي الذهبللبوليساريو)، فسوف يكون على المغرب إذاك أن يتحمل مسؤوليته، ولا أقول مسؤولياته، أي المسؤولية الوحيدةالضرورية الواجبة، وهي مسؤولية الدفاع عن البقاء…”، بقول الحسن الثاني في درس حسني رمضاني أسبوعينقبل تلقيه البيعة. الاعتبارات التي جعلت إقليم وادي الذهب في قلب حرب السبعينيات، هي نفسها التي تستمر اليوم، لكن بأساليبأخرى، وغايتها الأخيرة خنق المنفذ البري الوحيد للمغرب نحو عمقه الإفريقي. مصدر جيّد الاطلاع قال ل“أخباراليوم” إن السنة الماضية شهدت إحصاء ما يناهز 109 من الجنسيات التي عبرت النقطة الحدودية “الكركرات“، مايؤكد تحوّل هذه الطريق الرابطة بين المغرب وموريتانيا إلى شريان للمبادلات العالمية. التحركات الدولية والإقليمية التي تجري حاليا لمحاولة التوصل إلى حل نهائي لنزاع الصحراء، أعادت إشراكموريتانيا بقوة، سواء من خلال عودة الحديث في الكواليس عن “حل فيدرالي” بينها وبين البوليساريو، أو طرح أفكارلجعل الحل النهائي للنزاع يبني شراكة جديدة بين المغرب وموريتانيا، من قبيل جعل الميناء الأطلسي الكبير الذييخطط له المغرب يتحول إلى مشروع مشترك بين البلدين، وربما يقام في خليج الكويرة المهجور حاليا. لكن أول خطوةفي بناء المستقبل، هي معرفة حقائق الماضي. خضوع إقليم وادي الذهب للسيطرة الموريتانية بعد المسيرة الخضراء، وبناء على اتفاقية مدريد الشهيرة التي وُقّعتبين المغرب وإسبانيا وموريتانيا في أبريل 1976، بات أقرب إلى ال“طابو” في النقاشات التي يعرفها المغرب حولملف الصحراء، بينما يعتبر هذا القوس الفاصل بين 1976 و1979 حاسما في فهم أبعاد وخلفيات هذا النزاع،الذي كلّف المغرب قرابة نصف قرن من الحرب والارتهان للمسارات الدولية والاستنزاف الاقتصادي.