لنميز بين خطاب الدولة وبين شكل التوظيف السياسي الذي يؤول إليه. الدولة لها حاجياتها، وتبحث عن مسالك لتصريفها. تجد أمامها أطرا دستورية وقانونية كابحة أو محرجة، فتسعى، من خلال دينامية العلاقات المؤسسية، إلى تجاوزها. رؤية الدولة أن الإصلاحات الكبرى لم تثمر نموا تصل بركاته إلى الجميع، وأن الفقر والتهميش والإقصاء مازالت هي نصيب شرائح واسعة من المواطنين. لا تتبنى الدولة نظرية الصراع الطبقي لتشخص المعضلة بطريقة الماركسيين، فتعتقد أن الأمر يعود إلى استحواذ الأغنياء على فائض القيمة. فهي، على العكس من ذلك، كلما وجدت نفسها أمام زخم المطالب الاجتماعية رأت السبب في ضعف المقاولة وعجزها عن خلق فرص الشغل، وتنتهي في الأخير ودائما إلى تشجيع المقاولة وتحفيزها، ومد الغني بأسباب أخرى من الغنى، فلا عيش كريم دون شغل، ولا شغل دون مقاولة، ولا مقاولة قوية دون دعم الدولة وحفزها ضريبيا. لذلك، رؤيتها أن النموذج السابق فشل، وأن ثمة حاجة إلى نموذج جديد، وأن الحكومات على تعاقبها لم تستطع بلورة هذا المشروع، وأن السياسيين، بالتجربة، لم يتحملوا مسؤولية الوساطة، وتركوا الدولة بأجهزتها في مواجهة زخم الحراك الاحتجاجي. الحل، إذن، إشراف الدولة بنفسها على المشروع، وإعداد شروطه مهما تكن الكلفة. الدولة تدرك جيدا أن أكبر كلفة هي الكلفة الدستورية، وأن تشكيل لجنة خاصة لبلورة نموذج تنموي يأتي على محاور السياسات العمومية، مالية ونقدية واقتصادية واجتماعية، يطرح سؤال الجدوى من الحكومة ومن بعض المجالس الدستورية التي تشكل بهذه الخلفية؟ جواب الدولة أن اللجنة لن تكون بديلا للحكومة، وسيكون عملها محدودا في الزمن، وستكون بتمثيلية معبرة عن الطيف الفكري والأكاديمي والسياسي الذي يزخر به المجتمع المغربي. لكن، إلى اليوم، لم يظهر أي مؤشر مطمئن بخصوص العلاقة المفترضة بين الحكومة واللجنة التي ستعد هذا المشروع، والمشكلة أن أول شروط هذه اللجنة قبل تشكيلها هو تعديل الحكومة، كما أن التجربة أكدت أن الواقع الذي يترجم ربط الاستحقاق بالكفاءة والتمثيلية المجتمعية لم يكن دائما يعكس خطاب الدولة. وستشتغل ديناميات النخب، التي تسعى إلى توظيف خطاب الدولة، على محورين؛ الأول، أن معضلة الدولة والنخب السياسية هي العجز عن تحقيق توازن سياسي في المشهد السياسي، وأن ضرورات تقليص حجم العدالة والتنمية تفترض إحداث توازن من نوع آخر، بعدما فشلت خيارات أخرى، ضمنها مؤسسية، في تحقيقه، فترى أن ما طرحته الدولة من الأفكار يعين على إنهاء فكرة ربط التمثيلية بصناديق الاقتراع، وأنه يوجد ثقل آخر يتحكم في تشكيل الحكومة وتعديلها غير الاستحقاق الانتخابي. ومن ثمة بدل الحاجة إلى تأسيس أحزاب سياسية أو ضمان تحالفها أو تجميع أعيان أو تفريقهم، الأيسر هو تشكيل الحكومة من خارج الإرادة الشعبية بهذا الثقل. أما المحور الثاني، فيتعدى الفكرة إلى الأبعاد الإجرائية، فهذه النخب تعلم أن رؤية الدولة قد تنتقل بدافع من الدينامية السياسية إلى تعطيل فكرة ارتباط الحكومة بصناديق الاقتراع، لكنها لا تحل مشكلة التمثيلية والأوزان السياسية داخل الحكومة، بل لا تحل مشكلة وجود رموز سياسية في الحكومة لاتزال تؤمن بضرورة أن تعبر الحكومة عن إرادة الناخبين. ينصرف المحور الثاني إلى توظيف مفهوم «الكفاءات»، لتصفية هذه الرموز، ودفع الأحزاب الإصلاحية إلى اقتراح كفاءات تقنوقراطية لا تميز بين القانون والمرسوم والقرار، حتى يتسنى التحكم فيها عن بعد. يؤكد واقع التجربة فعالية هذه النخب في تحويل خطاب الدولة إلى ردة ديمقراطية، فقد طرح مفهوم الكفاءات والانسجام الحكومي في خطاب دكار، لكن الذي انتهت إليه الديناميات السياسية، بعد إعفاء عبد الإله بنكيران، هو تعويض مفهوم الكفاءة بمفهوم المكافأة، وتعويض مفهوم الانسجام بمفهوم التبئير، الذي رأينا، على مدى ثلاث سنوات من العمل الحكومي، فعاليته في إحداث مطبات كادت تعصف بالتحالف الحكومي. لا يهم الوقوف كثيرا عند خطاب الدولة، فقد يجد له السياسيون تأويلات تحمله على رغبة الدولة في تجاوز المعضلة، وفي أسوأ الحالات، قد تُنتقد الخيارات ويُثنى على الغايات، إنما المشكلة في المآل الذي ينتهي إليه التوظيف، والذي سينتهي، في تقديري، ليس إلى إضعاف العدالة والتنمية، وإحداث رجة أخرى في صفوفه تشتعل حربا داخلية جديدة مستنزفة، لكنه سيؤول إلى القتل السريع لما تبقى من السياسة، وستجد الدولة نفسها في نهاية المطاف محاطة بنخب ذيلية دون مؤسسات، تبارك وتثني، لكنها لا تعلم أنها تدفعها إلى مواجهة المجهول.