في التقدير يمكن القول إن الإصلاحات التي باشرها الملك محمد السادس خلال العشرين سنة من حكمه عرفت جيلين متمايزين من الإصلاحات، فالجيل الأول استغرق العشرية الأولى أو ما زيد عنها قليلا (12 سنة تقريبا)، وامتدت من سنة توليه العرش سنة 1999 إلى سنة 2011، وحكمها رهان الاستقرار والسلم الاجتماعي. ويمكن تلخيص أهم عناوينها الكبرى في: إطلاق “المفهوم الجديد للسلطة” (1999)، فتح ورش إنصاف الأمازيغية بالاعتراف بها كمكون أساسي للهوية المغربية واعتبار النهوض بها مسؤولية وطنية (خطاب أجدير 2001)، والحزم في مواجهة الارهاب والتطرف (مند 2003)، فتح ورش “إصلاح الحقل الديني” (مند 2004)، تفعيل “الانصاف والمصالحة” (2004)، و إعداد “مدونة الأسرة” (2004)، وإطلاق “المبادرة الوطنية للتنمية البشرية” (2005)، وإعداد تقرير “50 سنة من التنمية البشرية بالمغرب وآفاق سنة 2025” (2006)،إطلاق مبادرة الحكم الذاتي لمعالجة مشكل الصحراء المغربية المفتعل بتقديم “المبادرة المغربية الخاصة بالتفاوض حول نظام الحكم الذاتي في منطقة الصحراء”. (2007)، إطلاق مخطط “المغرب الأخضر” (2008)، والمبادرة الملكية “مليون محفظة” (2008)… وغير ذلك من المشاريع والمبادرات التي تدور حول الجوانب الأمنية، والتنموية، والاجتماعية، والحقوقية، وغيرها. أما الجيل الثاني من الاصلاحات فانطلق بخطاب 9 مارس 2011، وتعزز بإعداد الدستور الجديد (2011) الذي يعبر عن ثورة بين دساتير المملكة بأبعاده الديموقراطية والحقوقية، وبتنظيم أنزه انتخابات في تاريخ المغرب، واعتماد منظومة من القوانين الكبرى، وإطلاق عدد مهم من مؤسسات الحكامة، واعتماد الصرامة والحزم والوضوح في تدبير ملف الصحراء، وإطلاق جيل جديد من البنيات التحتية الكبرى،… ويمكن اعتبار أهم خاصية الإصلاح في هذه العشرية اهتمامه بالأبعاد الديموقراطية والحقوقية، وتعزيز دولة القانون والحكامة،.. وبالطبع لا تخلو العُشريتين من إخفاقات بعضها كبير، كما أنهما توجتا بإعلان الملك فشل النموذج التنموي المعتمد خلالهما. أما الجيل الثالث القادم، فالملك محمد السادس أعلن عن معالمه الكبرى في خطاب العرش في ذكراه العشرين. ويمكن تلخيص أهم تلك المعالم في 4 قضايا وهي، كما جاءت في الخطاب الملكي: “إحداث اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي”. والتي “لن تكون بمثابة حكومة ثانية، أو مؤسسة رسمية موازية؛ وإنما هي هيأة استشارية، ومهمتها محددة في الزمن”، كما أكد الملك في خطابه”. “التحلي بالحزم والإقدام، وبروح المسؤولية العالية، في تنفيذ الخلاصات والتوصيات الوجيهة، التي سيتم اعتمادها، ولو كانت صعبة أو مكلفة”. ” إعداد جيل جديد من المخططات القطاعية الكبرى، تقوم على التكامل والانسجام، من شأنها أن تشكل عمادا للنموذج التنموي، في صيغته الجديدة”. كسب أربع رهانات كبرى وهي: – تو طيد الثقة والمكتسبات. – الانفتاح على الخبرات والتجارب العالمية. – التسريع الاقتصادي والنجاعة المؤسسية… فالقطاع العام يحتاج، دون تأخير، إلى ثورة حقيقية ثلاثية الأبعاد: ثورة في التبسيط، وثورة في النجاعة، وثورة في التخليق. – العدالة الاجتماعية والمجالية: لاستكمال بناء مغرب الأمل والمساواة للجميع. ولكسب هذه الرهانات فالملك محمد السادس يدعو إلى: انخراط جميع المؤسسات والفعاليات الوطنية المعنية، في إعطاء نفس جديد، لعملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية ببلادنا. التعبئة الجماعية، وجعل مصالح الوطن والمواطنين تسمو فوق أي اعتبار، حقيقة ملموسة، وليس مجرد شعارات. ضرورة انخراط المواطن المغربي، باعتباره من أهم الفاعلين في إنجاح هذه المرحلة. اعتماد نخبة جديدة من الكفاءات، في مختلف المناصب والمسؤوليات، وضخ دماء جديدة، على مستوى المؤسسات والهيآت السياسية والاقتصادية والإدارية، بما فيها الحكومة. إن ما سبق يؤكد أننا بصدد خطاب مؤسس جديد على غرار خطب التاسع من مارس 2011، فهو يضع خارطة طريق للجيل الثالث من الإصلاحات، والتي يعتبر “النموذج التنموي الجديد”، المنتظر، عمودها الفقري. ويتسلح بالمنهج العملي بتكليف رئيس الحكومة بتقديم مقترح حول تشكيلة الحكومة والإدارة اللتان سيعهد لهما بمباشرة الإصلاحات. وبالتدقيق في الرؤية التي قدمها الملك محمد السادس حول الإصلاحات المقبلة، نستنتج أن مسؤولية النجاح فيها يتقاسمها الجميع، الملك محمد السادس من خلال تدبير ملف “النموذج التنموي” على مستوى اختيار الكفاءات اللازمة لعضوية اللجنة التي أعلن عنها، والاستمرار في رعايته. الحكومة من خلال عنصرين كبيرين، الأول يتعلق باعتماد “نخبة جديدة من الكفاءات، في مختلف المناصب والمسؤوليات، وضخ دماء جديدة، على مستوى المؤسسات والهيآت السياسية والاقتصادية والإدارية، بما فيها الحكومة”. والثاني يتعلق بإعداد “جيل جديد من المخططات القطاعية الكبرى، تقوم على التكامل والانسجام، من شأنها أن تشكل عمادا للنموذج التنموي، في صيغته الجديدة”. والخطاب الملكي، تحدث عن تعبئة الجميع وشدد على ضرورة انخراط المواطن في هذا الورش، مما يستلزم توسيع مجال الديموقراطية التشاركية، لتدمج بفعالية أكبر المجتمع المدني وعموم المواطنين. ورغم أن الخطاب الملكي لم يذكر الأحزاب بشكل مباشر، إلا أن فلسفة الجيل الثالث من الإصلاحات تفرض على الأحزاب أن تنخرط في إصلاح ذاتها، بتقوية الديموقراطية الداخلية، وفسح المجال أمام النخب الجديدة والشابة، حتى تكون في مستوى التحديات التي يفرضها ورش الجيل الثالث من الإصلاحات التي أعلن الملك عن فتح ورشها. إن الملك قدم رؤية إصلاحية ترتكز على تجديد النموذج التنموي، واعتماد النخب وتجديد الدماء في الإدارات والمناصب الحكومية، وتحدث عن القيم الأساسية للنجاح في هذا الورش والتي على رأسها الثقة وخدمة الصالح العام. لكن إرادة الإصلاح التي عبر عنها الملك بشكل واضح تتطلب أيضا تنقية الطريق من المعيقات ومواجهة مقاومات الإصلاح، لذلك لم يخل الخطاب من نقد قوي لهؤلاء الذين يقاومون الإصلاح من أجل مصالحهم الخاصة، مما يعني أن طريق الجيل الثالث من الإصلاحات ستكون أيضا محفوفة بالمقاومة و”المؤامرة” ربما بشكل أكبر مما حف طريق الجيل الثاني، والتي عرف بسببها هدرا كبيرا للجهود والتطلعات، أخرجت عددا من الإصلاحات عن روح الدستور أو جعلتها أقل بكثير من الانتظارات.