لقد حاول الملك، من خلال خطابه بمناسبة عيد العرش المجيد الذي يصادف الذكرى العشرين لتربعه على العرش، مساء الاثنين 29 يوليوز 2019، أن يبين الأسباب الكامنة وراء مجموعة من الإصلاحات التي عرفتها المملكة بداية بالدستور/ والقوانين التنظيمية المصاحبة، ثم الجهوية المتقدمة، ومدونة الأسرة، وأجرأة النموذج التنموي الجديد للمملكة. زيادة على أن الملك دائما يؤكد في خطبه على الثوابت الراسخة للبلاد والتي تجتمع حول أربع أساسيات جاءت في ديباجة الدستور والتي جاء فيها أن : "المملكة المغربية دولة إسلامية ذات سيادة كاملة، متشبثة بوحدتها الوطنية والترابية، وبصيانة تلاحم وتنوع مقومات هويتها الوطنية، الموحدة بانصهار كل مكوناتها، العربية - الإسلامية، والأمازيغية، والصحراوية الحسانية، والغنية بروافدها الإفريقية والأندلسية والعبرية والمتوسطية. كما أن الهوية المغربية تتميز بتبوإ الدين الإسلامي مكانة الصدارة فيها، وذلك في ظل تشبث الشعب المغربي بقيم الانفتاح والاعتدال والتسامح والحوار، والتفاهم المتبادل بين الثقافات والحضارات الإنسانية جمعاء". بالإضافة إلى الرباعية التي استطاعت المملكة أن تلامسها من خلال ملكية وطنية ومواطنة، وخيار ديمقراطي وتنموي، وإصلاحات عميقة، ثم أخيرا المشاريع الكبرى المنجزة والتي من أمثلتها ميناء طنجة المتوسط 2 الذي دشن مؤخرا. إن عاهل البلاد لامس مجموعة من النقط من خلال خطابه الاستشرافي المستقبلي، الاقتصادي، الاجتماعي؛ وهو الأمر الذي جاء به الخطاب الملكي الذي أكد أن المرحلة المقبلة هي مرحلة المسؤولية والإخلاص الكامل، وأيضا خطاب الثورة الجديدة التي تستبدل أصحاب الأفكار التي مر عليها الزمن، بأصحاب الكفاءات والنخب الشابة المجددة. إن عهد الملك محمد السادس اليوم، بعد عشرين سنة من اعتلائه العرش، أكد أن هناك عدة اختلالات جعلت من الإصلاح لا يمس الجميع ولا يقيس المواطن بالدرجة الأولى؛ وهو الأمر الذي أكده من خلال تضمينه لمصطلح الملكية الوطنية والمواطنة التي تعتمد على القرب من المواطنين، وهو ما يحتاج إلى نخب وأطر كفؤة لتحقيق الغايات والأهداف. فما هي، إذن، النقط الكبرى التي لامسها خطاب السنة العشرين لاعتلاء الملك العرش؟ أولا: مكتسبات وأوراش كبرى ونموذج تنموي محدود لقد أكد الملك، من خلال خطابه، أنه : "لقد أنجزنا نقلة نوعية، على مستوى البنيات التحتية، سواء تعلق الأمر بالطرق السيارة، والقطار فائق السرعة، والموانئ الكبرى، أو في مجال الطاقات المتجددة، وتأهيل المدن والمجال الحضري. كما قطعنا خطوات مشهودة، في مسار ترسيخ الحقوق والحريات، وتوطيد الممارسة الديمقراطية السليمة. إلا أننا ندرك بأن البنيات التحتية، والإصلاحات المؤسساتية، على أهميتها، لا تكفي وحدها. ومن منطلق الوضوح والموضوعية، فإن ما يؤثر على هذه الحصيلة الإيجابية هو أن آثار هذا التقدم وهذه المنجزات لم تشمل، بما يكفي، مع الأسف، جميع فئات المجتمع المغربي. ذلك أن بعض المواطنين قد لا يلمسون مباشرة تأثيرها في تحسين ظروف عيشهم، وتلبية حاجياتهم اليومية، خاصة في مجال الخدمات الاجتماعية الأساسية، والحد من الفوارق ا لاجتماعية، وتعزيز الطبقة الوسطى. ويعلم الله أنني أتألم شخصيا، ما دامت فئة من المغاربة، ولو أصبحت واحدا في المائة، تعيش في ظروف صعبة من الفقر أو الحاجة. لذلك، أعطينا أهمية خاصة لبرامج التنمية البشرية، وللنهوض بالسياسات الاجتماعية، والتجاوب مع الانشغالات الملحة للمغاربة. وكما قلت في خطاب السنة الماضية، فإنه لن يهدأ لي بال، حتى نعالج المعيقات، ونجد الحلول المناسبة للمشاكل التنموية والاجتماعية. ولن يتأتى لنا ذلك، إلا بعد توفر النظرة الشمولية، ووجود الكفاءات المؤهلة، والشروط اللازمة، لإنجاز المشاريع المبرمجة". فالملاحظ هو غياب عدالة اجتماعية وضريبية ومجالية ببلادنا، الأمر الذي يسائل مجموعة من الأوراش التي تم إحداثها سواء على المستوى الصحي (نظام التغطية الصحية RAMED)، أو على مستوى التوزيع العادل للموارد والثروات ما بين الوحدات الترابية، الأمر الذي يؤثر لا محالة على مستوى إنجاح الجهوية المتقدمة ويشكل عقبة أمام تحقيق التنمية المنشودة. وأيضا على مستوى التشغيل فهناك مجموعة من الأوراش لم تحقق أهدافها؛ من بينها برنامج المقاول الذاتي ومقاولتي وأيضا برنامج المبادرة الوطنية للتنمية البشرية الذي يعيش مجموعة من الاختلالات في استهداف الأشخاص. وهناك أيضا مشكل العدالة المجالية، بوجود مناطق تعيش الهشاشة والفقر؛ فتنمية العالم القروي تستدعي ضخ تمويلات كافية لدعم البرامج المخصصة لتنمية العالم القروي على المستويين الجهوي والترابي، ناهيك عن ضعف التأطير والتشجيع للمشاريع المتوسطة والصغيرة إلى جانب غياب تمويل كافي يدعم حاملي هذه البرامج ويغذي ثقافة المقاولة والريادة والمشاريع في قاموس الساكنة القروية والجبلية. إن عاهل البلاد تساءل أكثر من مرة حول ما الجدوى من الإصلاحات، سواء على مستوى البنية التحتية أو المؤسساتية، إن لم تلمس المواطن بالدرجة الأولى؛ فمجموعة من الهياكل والبرامج والأوراش لم تحقق أهدافها وغاياتها التي تصب في التنمية وخلق فرص الشغل والصحة. لذلك، حاول الملك وضع خارطة جديدة وحلول جديدة من أجل رفع التحديات والوصول إلى الأهداف المبتغاة، وهو ما أكده: "وفي هذا الإطار، قررنا إحداث اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي، التي سنقوم في الدخول المقبل، إن شاء الله، بتنصيبها. وقد راعينا أن تشمل تركيبتها مختلف التخصصات المعرفية، والروافد الفكرية، من كفاءات وطنية في القطاعين العام والخاص، تتوفر فيها معايير الخبرة والتجرد، والقدرة على فهم نبض المجتمع وانتظاراته، واستحضار المصلحة الوطنية العليا. وهنا أود التأكيد أن هذه اللجنة لن تكون بمثابة حكومة ثانية، أو مؤسسة رسمية موازية؛ وإنما هي هيئة استشارية، ومهمتها محددة في الزمن". فالتفكير في خلق لجنة خاصة بالنموذج التنموي تكون مهمتها استشارية تمارس عملها بكل تجرد وموضوعية، هي رؤية مستقبلية يبتغي من خلالها الملك معرفة مكامن القوة والخلل في النموذج التنموي للمملكة، ومدى استجابته لتطلعات المواطنين، وحل مجموعة من المشاكل التي يعانون منها، والتفكير في حلول ناجعة مبتكرة نستطيع من خلالها التكريس الواقعي والحل الفعلي لهذه المشاكل. إن الملك من خلال خطابه جاء بخارطة طريق سلسة قابلة للتطبيق ولها حدود زمنية، الأمر الذي عبر عنه بأن المغرب اليوم يحتاج إلى جيل جديد من المخططات القطاعية الكبرى، وأيضا فالبلاد اليوم والقطاع العام بصفة خاصة يحتاج إلى ثورة ثلاثية الأبعاد، ثورة في التبسيط، ثورة في النجاعة، وثورة في التخليق، وذلك في باب إنجاح هذا النموذج الجديد للمملكة، وهو مدخل للمرحلة الجديدة التي تحتاجها البلاد، ومن تحقيق المغرب الجديد الذي يحتاجه كل المغاربة. ثانيا: خطاب العرش والحاجة إلى الكفاءات إن الحديث عن ضرورة وجود أشخاص ذوي كفاءات في مناصب المسؤولية يجرنا إلى الحديث عن التخليق داخل هذه الفئة، التي لها علاقة مباشرة بنجاح النموذج التنموي ببلادنا، الأمر الذي لم يتحقق، والذي عبر عنه الملك: "فالمرحلة الجديدة ستعرف، إن شاء الله، جيلا جديدا من المشاريع. ولكنها ستتطلب أيضا نخبة جديدة من الكفاءات، في مختلف المناصب والمسؤوليات، وضخ دماء جديدة، على مستوى المؤسسات والهيآت السياسية والاقتصادية والإدارية، بما فيها الحكومة. وفي هذا الإطار، نكلف رئيس الحكومة بأن يرفع لنظرنا، في أفق الدخول المقبل، مقترحات لإغناء وتجديد مناصب المسؤولية، الحكومية والإدارية، بكفاءات وطنية عالية المستوى، وذلك على أساس الكفاءة والاستحقاق. وهذا لا يعني أن الحكومة الحالية والمرافق العمومية، لا تتوفر على بعض الكفاءات. ولكننا نريد أن نوفر أسباب النجاح لهذه المرحلة الجديدة، بعقليات جديدة، قادرة على الارتقاء بمستوى العمل، وعلى تحقيق التحول الجوهري الذي نريده". إن نجاح الأوراش والإصلاحات لا يمكن أن تتم بوجود عقليات هدامة همها الوحيد هو تحقيق الأنا الأعلى والوصول إلى غايات وأهداف شخصية، بل بكفاءات وأطر وجيل مبتكر ذات نظرة مستقبلية قادرة على التغيير وقادرة على العطاء وإبداء المبادرة، وقادرة على إنجاح ورش التنمية ببلادنا، بالإضافة إلى أننا اليوم في حاجة ماسة إلى نخب جديدة بنفس شبابي جديد، قادر على العطاء، قادر على العمل وخلق وتصور رؤى تفيد الوطن وتدفع به إلى الأمام، هذه النخب التي لم تستطع مواكبة التصور الملكي المستقبلي لا نريدها، ولا يحتاجها الوطن، ويجب أن تكون لها الشجاعة والقدرة على الخروج والبوح بالفشل، وترك المناصب والكراسي التي التصقوا بها التصاقا حتى أصبحت تكرههم من طول الجلوس عليها، أو حولوها إلى شركات وغلات يوزعونها بعلاقات قبلية وعائلية فيما بينهم. الرهان اليوم على الشباب والكفاءات الوطنية، التي أصبحت تغادر البلاد بسبب العقليات الرجعية لمسؤولينا التي تهمش الكفاءات. الثورة اليوم يجب أن تكون على الأحزاب والنخب السياسية من أجل التجديد وتوازي الأفكار مع التوجهات المستقبلية لملك البلاد. الشباب، اليوم، يحتاج فقط إلى الفرصة من أجل تفجير طاقاته الإبداعية والبوح بحبه لهذه البلاد ولتراب هذه البقعة الغالية من مملكتنا الشريفة. *باحث في العلوم السياسية