نبأ التكريم الملكي الجديد لقائد حكومة التناوب التي عاصرت مرحلة انتقال العرش، انتشر كالنار في الهشيم، مثيرا موجة تعليقات عبر الشبكات الاجتماعية. فالمبادرة ليست الأولى، حيث سبق للملك أن أطلق اسم اليوسفي على أحد الشوارع بمدينة طنجة، وذلك بحضور قيدوم الاتحاديين، كما خصّ الملك الرجل الذي أدى القسم أمام والده، الملك الراحل الحسن الثاني، بزيارة شخصية أثناء خضوع اليوسفي للاستشفاء قبل نحو ثلاث سنوات. «قررنا أن نطلق على فوجكم اسم الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي، الذي يتقاسم مع والدنا المنعم، جلالة الملك الحسن الثاني، ومع جلالتنا، المبادئ الثابتة نفسها؛ في حب الوطن، والتشبث بمقدسات الأمة، وبالوحدة الترابية للمملكة، والدفاع عن مصالحها العليا». هكذا خاطب الملك محمد السادس، زوال أول أمس، الفوج الجديد من الضباط المتخرجين من المدارس العليا العسكرية وشبه العسكرية، في تقليد سنوي يجري بمناسبة ذكرى عيد العرش. الملك، القائد الأعلى ورئيس أركان الحرب العامة للقوات المسلحة الملكية، أضاف مخاطبا الضباط العسكريين قائلا: «وإننا نعتز بما يجمعنا به شخصيا، من روابط قوية ووطيدة، وعطف خاص متبادل. فكونوا، رعاكم الله، في مستوى ما يجسده هذا الاسم، من معاني الاستقامة والالتزام، والثبات على المبادئ، والغيرة الوطنية الصادقة؛ أوفياء لشعاركم الخالد: الله، الوطن، الملك». نبأ التكريم الملكي الجديد لقائد حكومة التناوب، التي عاصرت مرحلة انتقال العرش، انتشر كالنار في الهشيم، مثيرا موجة تعليقات عبر الشبكات الاجتماعية. فالمبادرة ليست الأولى، حيث سبق للملك أن أطلق اسم اليوسفي على أحد الشوارع بمدينة طنجة، وذلك بحضور قيدوم الاتحاديين، كما خصّ الملك الرجل الذي أدى القسم أمام والده، الملك الراحل الحسن الثاني، بزيارة شخصية أثناء خضوع اليوسفي للاستشفاء قبل نحو ثلاث سنوات. بوعبيد: علاقة خاصة «هذه الالتفاتة ليست عادية، بل تأتي عقب شهادات عرفان عديدة صدرت عن المؤسسة الملكية تجاه عبد الرحمان اليوسفي. صحيح أن الملكية معتادة على القيام بتوشيحات لبعض الشخصيات السياسية، لكن في هذه الحالة الخاصة، لا أعتقد أن الأمر يقتصر على التكريمات الاعتيادية التي تقوم بها المؤسسة الملكية لهذه الشخصية أو تلك»، يقول علي بوعبيد، نجل قيادي اتحادي آخر، هو عبد الرحيم بوعبيد. «فرضيتي كالتالي: علاقة شخصية من نوع خاص ربطت بين الرجلين. بين الملك شخصيا ووزيره الأول السابق. علاقة لا تتسم فقط ببعد ذاتي له طبيعة عاطفية تتجاوز الأبعاد السياسية»، يضيف علي بوعبيد في تدوينة نشرها عبر صفحته الشخصية على «فيسبوك»، حيث خلص إلى أن «الملكية الوطنية والمواطنة» تحيي في شخص عبد الرحمان اليوسفي، معنى التفاني السياسي لخدمة المصلحة العامة، «والتي ما أحوج بلادنا إليها». في الصحة والمرض الإعلان الملكي عن إطلاق اسم اليوسفي على فوج الضباط الجدد، أعاد فورا إلى الأذهان لحظات التكريم السابقة، خاصة تلك التي ارتبطت بصورة ملتقطة بعدسة «هاوية» لملك البلاد وهو يقبّل رأس شيخ السياسيين وهو راقد في سرير المستشفى. جرى ذلك في أكتوبر من عام 2016، حيث كان أكثر من مجرد عملية تواصلية تفصل بين افتتاح الملك السنة التشريعية الجديدة، وانتقاله إلى الأدغال الإفريقية لمباشرة زيارة تاريخية وغير مسبوقة إلى شرق القارة. عناية حقيقية واهتمام شخصي فعلي، بدأ حين تناهى إلى علم الملك أن اليوسفي مريض ويتابع علاجا عاديا في بيته لم يثمر نتيجة فعالة، ليأمر بنقله تحت الرعاية الملكية إلى أفضل مستشفيات المملكة، وتزويده بالغذاء من المطبخ الملكي. هذه العلاقة الاستثنائية بين الملك والكاتب الأول السابق لحزب الاتحاد الاشتراكي، انتقلت من الغضب والتشنّج الذي أثاره القرار الملكي إزاحة اليوسفي من منصب الوزير أول عام 2002، وتعويضه بالتقنوقراطي إدريس جطو، لتصبح أقرب إلى علاقة الملك والمستشار. فاليوسفي، ورغم خروجه النادر للحديث إلى الصحافة، كشف عام 2015 في حواره مع جريدة «العربي الجديد»، أن الملك طلب مشورته عام 2011، بعد ظهور نتائج الانتخابات، وقبل تعيينه الأمين العام لحزب العدالة والتنمية، عبد الإله بنكيران، رئيسا للحكومة. استشارة تلتها أخرى من بنكيران نفسه، حيث حلّ يوم فاتح دجنبر 2011، أي بعد يومين من تعيينه، ببيت اليوسفي المتواضع بالدار البيضاء. سلوك السلاطين الأكاديمي والخبير السوسيولوجي، محمد الناجي، قال، في تصريح سابق ل«أخبار اليوم» حول تفسير هذه العلاقة الخاصة، إن تاريخ المغرب يبيّن أن السلاطين يبدون دوما التقدير والاحترام للأولياء والعلماء ومؤسسي الزوايا الذين وإن كانوا متصوفين ويعيشون في أغلب الأحيان في فقر مدقع، فإنهم راكموا رأسمالا رمزيا أسس مكانتهم عند الساكنة، «وهكذا، فإن معاملة السلاطين لهذه الشخصيات تدخل في هذا المنطق؛ الانتفاع من هالتهم ومكانتهم، والاستفادة من رأسمالهم الرمزي لتحسين صورة الملكية وتثبيت قواعدها». ويؤكد الناجي أن اليوسفي مقاوم ينتمي إلى أصحاب الرأسمال الرمزي المرتفع، «يمكن وصفه بواحد من مؤسسي المغرب الحديث المتحرر من براثن الاستعمار. إنه من الرواد الأوائل الحاملين لنقاء الأصول. له دور مشهود في انتقال العرش من الحسن الثاني إلى محمد السادس. وجوده منح بريقا وقوة لشرعية خلافة الابن للأب. بتعبير آخر، فإن اليوسفي جسّد مقولة «مات الملك، عاش الملك». الملك الحسن الثاني، شخصيا، طلب تدخّله بمؤازرته الملك الابن بتعبير أدق. هكذا وكّل الأب إلى اليوسفي مهمة الحرص على انتقال العرش، وقد مرّ بشكل سلمي». شارع اليوسفي الطويل رجل آخر عرف اليوسفي عن قرب، هو مستشاره في الوزارة الأولى والمحامي عبد العزيز النويضي، فسّر ل«أخبار اليوم» المشاعر الإنسانية للملك تجاه اليوسفي بالقول إنها تعود إلى «تقدير كبير للسي اليوسفي الزعيم الوطني الذي له تاريخ مجيد، وهو التقدير الذي كان يكنه له الملك الحسن الثاني في أواخر حياته، بصفته زعيما سياسيا لعب دورا كبيرا في انتقال سلس للملك». وقال النويضي، الذي اشتغل إلى جانب اليوسفي في حكومة التناوب، إن ذلك التقدير يعود إلى إخلاصه ونزاهته ونظافة يده، «وهذه المبادرات وتسمية شارع باسمه في طنجة هي نوع من رد الاعتبار إلى اليوسفي، بعد الخروج عن المنهجية الديمقراطية سنة 2002»، يقول النويضي. مصدر آخر مازال يحتفظ بعلاقة قرب وثيق باليوسفي، قال ل«أخبار اليوم» إن أول مرة التقى فيها الملك محمد السادس اليوسفي مباشرة، كانت عام 1992، وهو بعد ولي للعهد. كان ذلك حين استقبل والده قادة الأحزاب السياسية، وطلب من البروتوكول أن يصعد اليوسفي وحده في المصعد، فيما صعد الباقون عبر الأدراج. حين فتح باب المصعد وجد اليوسفي أمامه كلا من الملك وولي العهد ومولاي رشيد. سأل الملك اليوسفي: «منذ متى لم نلتق؟»، فأجابه اليوسفي بالسنوات والشهور والأيام، أي بالتدقيق. ضحك الملك وقال له: «تبارك الله عليك راك عاقل». أجابه اليوسفي: «ضروري». ثم قدمه الملك لولي العهد وشقيقه قائلا لهما: «سلما على الأستاذ اليوسفي، هذا الرجل دافع عن العرش، وهو من أخطر من كان يزود المقاومة بالسلاح، حتى من تحت سرير مرضه بالمستشفى». أما ثاني لقاء مباشر بين الملك واليوسفي، فلن يكون حسب المصدر نفسه سوى سنة 1998، أي مع تعيين اليوسفي لقيادة حكومة التناوب. «ثم تقوت تلك العلاقة مع وفاة الحسن الثاني، حيث كان اليوسفي من أول من أخبرهم ولي العهد آنذاك بالخبر. وكان اليوسفي رفقة فتح الله ولعلو وعبد الواحد الراضي من أول من حضروا إلى القصر لتقديم العزاء. في تلك اللحظات الحاسمة لانتقال الملك كان التواصل وثيقا جدا بين الملك الجديد واليوسفي. أغلب اللقاءات الثنائية بينهما كانت تجري، حينها، بمقر القيادة العامة للقوات المسلحة الملكية بالرباط، حيث كان يوجد مكتب محمد السادس». «زلزال» 2002 في الأذهان علاقة ودية لم تسلم من مطبات السياسة، فعبد الرحمان اليوسفي هو نفسه الذي خرج من قصر مراكش ذات يوم من صيف 2002، غاضبا مجروحا بعد تعيين وزير داخليته السابق، إدريس جطو، وزيرا أول بدلا منه رغم تصدر حزبه الانتخابات، وهو ما حمله على الرحيل من جديد وإلقاء محاضرته الشهيرة بالعاصمة البلجيكية بروكسيل، والتي باح فيها بما سكت عنه طيلة سنوات حكومته، بين 1998 و2002. يروي كتاب «ابن صديقنا الملك»، لصاحبه عمر بروكسي، كيف تلقى اليوسفي استدعاء من القصر الملكي، يوم 2 أكتوبر 2002، فانتقل على إثره إلى مراكش، حيث تقرر أن يجري الاستقبال. «مرتديا لباسه التقليدي الرسمي، انتقل اليوسفي بعد زوال تلك الجمعة إلى المدينة الحمراء، ليتلقى الصدمة القوية منذ الوهلة الأولى للقائه بالملك. مقرّب من الزعيم الاتحادي السابق قال إن اللقاء لم يدم أكثر من 10 دقائق، ودشّنه الملك بإخبار اليوسفي مباشرة بقراره تعيين إدريس جطو وزيرا أول». المصدر الذي تحدث إلى صاحب الكتاب وصف شدة الصدمة التي تلقاها اليوسفي بالقول إن قدميه لم تعودا قادرتين على حمله، لكنه رد رغم ذلك وقال: «لكن جلالة الملك هذا القرار مخالف للمنهجية الديمقراطية»، ليجيب الملك بالقول إنه علم بكون اليوسفي لم يعد مهتما بمنصب الوزير الأول. مصدر خاص ب«أخبار اليوم» قال إن اليوسفي تقلد يومها الوسام الملكي وغادر القصر ولم يخبر أحدا، حتى صدر البلاغ الرسمي لتعيين جطو. شقة ومعاش وساعتان «عرضت عليه الاستفادة من فيلا ضخمة بالرباط مثلما ظل معمولا به مع كل الوزراء الأوائل من قبله، لكنه اعتذر ولم يقبل. اكتفى فقط بشراء شقة متوسطة بحي بوركون مساحتها 110 أمتار بالدار البيضاء، حيث لايزال يقيم. وتوصل من الملك محمد السادس بهديتين فقط، عبارة عن ساعتين يدويتين لا غير». بعد عودته إلى المغرب، واستفادته من المعاش الاستثنائي، وعودة علاقته بالملك إلى سابق عهدها، ظلّ اليوسفي محتفظا بتقدير واحترام الجميع. وحده بقي قادرا على الجمع بين مصداقية المعارض الثائر وحكمة السياسي المهادن. اللحظة التي جسّدت ذروة هذا الجمع بين النقيضين، كانت عام 2015 في ذكرى اختطاف المعارض المهدي بنبركة، حين تولى اليوسفي تلاوة رسالة ملكية أمام المدعوين إلى القاعة الكبرى للمكتبة الوطنية.