بعدما اختار الصمت منذ اعتزاله السياسة سنة 2003، احتجاجاً على الخروج عن "المنهجية الديمقراطية" في تعيين الحكومة، يقدم الزعيم اليساري والوزير الأول الأسبق عبد الرحمان اليوسفي، يوم الخميس المقبل بالرباط، بمناسبة ذكرى ميلاده التي تصادف يوم 8 مارس، شذرات من سيرته الذاتية كما رواها لرفيقه مبارك بودرقة، في حفل من المرتقب أن تشارك في حفل تقديمه شخصيات مغربية رفيعة المستوى؛ من داخل المغرب وخارجه. يقول بودرقة في المذكرات، التي تنشر هسبريس أبرز ما جاء في جزئها الأول، والمعنونة ب"أحاديث في ما جرى"، إن قضية محاولاته مع عملية بوح اليوسفي كانت بمثابة حلم راوده طيلة ما يقارب عقدين من الزمن، خصوصا أن "العديد من الناس والرفاق والأصدقاء الخُلَّص ظلوا يطالبونه بنشر ما تراكم لديه من كتابات". ويورد الكاتب: "بقيتُ طيلة مشوار محاولاتي مع بوح السي عبد الرحمان أتتبع منسوب الوفاء والإخلاص في شخصية الرجل؛ فهو صاحب نية خالصة، متأن في القول والكتابة، كما قال عنه صديقه الأستاذ الأخضر الإبراهيمي: إنه الشخص الذي يلوي لسانه سبع مرات قبل أن يتكلم. فهو من صنف السياسي الذي اعتبره الزعيم البريطاني تشرشل يفكر أكثر من مرة قبل أن يصمت". ولكن عناد الكاتب كان أقوى بعد أن وضع اليوسفي أمام أمر الواقع بجمعه لمئات الوثائق سلمها له صيف 2017، ليحصل اتفاق بين الرجلين على المضي قدماً في رحلة البوح التي انطلقت من اليوسفي الطفل ومرحلة المقاومة وجيش التحرير، مرورا إلى فترة الصراع بين القصر والحركة الوطنية، ثم مرحلة العودة من المنفى بعد التوافق التاريخي مع الملك الراحل الحسن الثاني، ووصولاً إلى "التناوب المجهض"، كما تطرق إلى خبايا اختطاف الزعيم المهدي بنبركة. الحسن الثاني ووالدة اليوسفي يحكي عبد الرحمان اليوسفي أنه عندما كان في المنفى، استقبل الحسن الثاني والدته في نهاية السبعينيات من القرن الماضي، حيث كلف حينها الدكتور عبد الكريم الخطيب بإحضارها إلى القصر الملكي ليتناول معها الشاي. وقبل انصرافها سأل الملك الحسن الثاني أم عبد الرحمان اليوسفي إن كانت في حاجة إلى أي شيء، لتجيبه بلهجتها الطنجاوية: "بغيت وْلِيدي!". فأجابها الملك: "يمكن لابنك أن يعود إلى بلاده متى يشاء، والوطن سيرحب به". يتذكر اليوسفي هذه اللحظة بحسرة كبيرة، ويقول في مذكراته: "ظلت أمي متشبثة بالحياة إلى أن عدت، سنة 1980 بعد غياب دام 15 سنة، لتنتقل إلى عفو الله سنة 1981". نفي السلطان والثورة يروي اليوسفي أنه بعد نفي السلطان محمد الخامس وعائلته، يوم 20 غشت 1953، قررت الخلايا الأولى للمقاومة الرد على هذه الخطوة بالعنف، وأصبح من الضروري التوفر في مختلف أنحاء المغرب على العتاد والأسلحة لمواجهة سلطات الاحتلال. ويتحدث اليوسفي أنه إبان موجة الغضب في صفوف قادة جيش التحرير المغربي بعد نفي السلطان، وأثناء زيارة له إلى لاس بالماس، بادر إلى الاتصال بالكابتن محمد أمزيان الذي أصبح في ما بعد "مارشال" بالقوات المسلحة الملكية، وكان مسؤولا حينها في الجيش الإسباني، ليطلب منه تقديم المساعدة والدعم لجيش التحرير المغربي، فنظر إليه مليا باستغراب وقال: "يا ولدي، ما زلت صغيرا، اذهب للاهتمام بدراستك، فالثورة ليست لعب الدراري!". وأضاف اليوسفي: "لما استقل المغربالتقيته مجددا، فكانت نظرته مختلفة تماما". دستور 1992 عن وفاة الملك محمد الخامس يوم الأحد 26 فبراير 1961، إثر خضوعه لعملية جراحية، يقول اليوسفي إن "هذا الحدث الأليم شكل صدمة فاجأت الجميع، خرج على إثرها الشعب المغربي، في تلك الليلة الرمضانية، يبكي ملكه الراحل. ساهمت جماهير الشعب المغربي في تشييع جنازته التي حضرها العديد من رؤساء الدول، وكل الطيف السياسي المغربي، المهدي بن بركة الذي كان في مهام خارج المغرب أرسل برقية تعزية؛ قبل أن يلتحق بأرض الوطن لتقديم التعازي". ويُشير اليوسفي في مذكراته إلى أن ولي العهد حينئذ، الأمير مولاي الحسن، بعد أن تولى مقاليد العرش قام، بداية شهر مارس 1961، بتشكيل الحكومة السادسة في تاريخ المغرب المستقل برئاسته شخصيا، مع احتفاظه بكل من وزارة الدفاع ووزارة الفلاحة تحت نفوذه الشخصي، كما أجرى العديد من اللقاءات مع قيادات أهم الأحزاب الوطنية. وعقب هذه اللقاءات، يضيف الوزير الأول الأسبق أن الملك قام بتعيين أحمد رضا كديرة، الذي كان مبعدا لفترة زمنية، مديرا عاما للديوان الملكي. وفي أقل من أسبوعين أسندت إليه وزارة الداخلية ثم وزارة الفلاحة، مع الاحتفاظ بإدارة الديوان الملكي، ليصبح الشخصية الأساسية في كل الحكومات التي تعاقبت على المغرب خلال النصف الأول من ستينيات القرن الماضي. وأضاف: "هذه الهيمنة دفعت في يناير 1963 ثلاثة وزراء من حزب الاستقلال إلى تقديم استقالتهم من الحكومة، وهم علال الفاسي وامحمد بوستة وامحمد الدويري". في محاولة منه لإشراك الأحزاب السياسية، قام الحسن الثاني باستدعاء الأحزاب للمشاركة في إنشاء مجلس دستوري، يتولى وضع مشروع دستور للدولة المغربية؛ غير أن طلب الملك الحسن الثاني ووجه بالرفض من قبل الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، الذي سلك خيار المقاطعة، واعتبر أن "المشاركة في هذا المجلس ما هي إلا مضيعة للوقت". لغز بنبركة قدم عبد الرحمان اليوسفي شهادته في مصير الزعيم اليساري المهدي بنبركة، المختطف بباريس يوم 29 أكتوبر 1965، والذي لا يزال مصيره مجهولاً إلى الآن. ويروي اليوسفي أنه بعد عشرة أيام من الاختطاف أدلى عبد الرحيم بوعبيد لجريدة "لوفيغارو" الفرنسية باستجواب، استعرض فيه الاتصالات الأخيرة التي تمت بين القصر والاتحاد، ودعوة الأحزاب الوطنية بواسطة مذكرة للتفكير في تكوين حكومة وحدة وطنية، وأعلن فيه أن "من كانوا وراء هذا الاختفاء أرادوا منع حل ديمقراطي يشرف عليه الملك الحسن الثاني". بعد يومين من الخرجة الصحافية لبوعبيد أصدر الديوان الملكي بيانا يكذب فيها التصريحات المنشورة، ونفى فيها الملك أن تكون الاتصالات قد تناولت تشكيل حكومة اتحادية ولا دخول هذا الحزب إلى الحكومة. واستحضر اليوسفي موجة المضايقات التي تعرضت لها صحف الحزب، إلى درجة أن التنظيم أصدر بيانا يعلن فيه توقف صدور جريدتي "المحرر" و"ليبراسيون"،نتيجة الضغوط الممارسة من لدن السلطة، ومنع نشر أي خبر حول اختطاف المهدي بن بركة. بعدها سيقول عبد الرحيم بوعبيد كلمته المشهورة: "بيننا وبين النظام جثة المهدي بن بركة". وفي واقعة مثيرة، جاء في مذكرات اليوسفي أن المهدي بن بركة تعرض لمحاولة اغتيال في واد الشراط؛ وهو نفس المكان الذي توفي فيه وزير الدولة السابق عبد الله باها، والقيادي الاتحادي أحمد الزايدي. وحكى اليوسفي أنه "قبل بداية الحملة الانتخابية، في منتصف شهر نونبر 1962، تعرض بن بركة لمحاولة اغتيال عندما كان يسوق سيارته متوجها من الرباط إلى الدارالبيضاء، رفقة المهدي العلوي، عند قنطرة واد الشراط بضواحي بوزنيقة، حين حاولت سيارة مجهولة، دفع سيارة المهدي إلى الهاوية. أصيب إثرها المهدي في فقرات العنق، وهو ما اضطره للتوجه إلى ألمانيا من أجل العلاج". بعد اختطاف بن بركة، يورد الكاتب أن الجنرال دوغول، رئيس الجمهورية الفرنسية وقتها، عقد ندوة صحافية اتهم فيها مباشرة وزير الداخلية المغربي، الجنرال محمد أوفقير، بالضلوع في العملية، وأضاف أن "المغرب لم يقم بأي شيء من شأنه مساعدة القضاء الفرنسي". وتطرق اليوسفي إلى تفاصيل مثيرة عن المخطط الذي قاده أوفقير من الرباط، رفقة مجموعة من القتلة الدوليين طامعين في تسهيلات لفتح ملاه فاخرة للدعارة بالمغرب، و"ذلك طبعا مقابل مساهمتهم في اختطاف المهدي بن بركة"، بتعبير الزعيم اليساري. وأكد اليوسفي مشاركة أطراف دولية في ارتكاب هذه الجريمة، وأشار إلى تورط عناصر "الموساد" في قضية المهدي بن بركة. وقال إنه بعد مرور سنة عن ما جرى، وبالضبط في دجنبر 1966، نشرت إحدى الصحف الإسرائيلية تحقيقا، أنجزه الصحافيان شيمال مور ومكسيم غيلان، أكد فيه تورط جهاز الاستخبارات ذاته في اختطاب بن بركة، إلى جانب أطراف أخرى. كل ما قيل عن القضية اللغز يبقى غير كاف بالنسبة إلى عبد الرحمان اليوسفي، وأكد: "الدولة الفرنسية لا تزال متمسكة بسر الدفاع الوطني كحجة لعدم رفع السرية عن الوثائق التي تهم هذا الملف، بالرغم من أنها قامت مرتين بالكشف عن بعضها. واتضح في الواقع أنها كشفت فقط عن وثائق غير ذات أهمية، ولا يزال المنع يطال الوثائق الأساسية التي من شأنها الكشف عن المستور". صعوبة الإصلاح ومبعوث الملك بعد وفاة بوعبيد سنة 1992، تم تكليف اليوسفي من طرف حزب الاتحاد الاشتراكي بقيادة "سفينة الوردة"، بالرغم من أن أوضاعه الصحية كانت لا تسمح بذلك. وشهدت هذه السنة العديد من الاستحقاقات؛ منها الاستفتاء على الدستور الجديد، والانتخابات المحلية البلدية والقروية، ثم الانتخابات التشريعية. وأبرز اليوسفي أن جيوب المقاومة أفشلت جميع المحاولات لبناء سليم للديمقراطية في البلاد. وأمام هذا الوضع قرر اليوسفي تقديم استقالته من قيادة الحزب والذهاب إلى مدينة "كان" الفرنسية، احتجاجا على كل ما جرى من تزوير على يد وزارة الداخلية. بعد ذلك، أرسل الحسن الثاني مبعوثه إلى عبد الرحمان اليوسفي ليخبره أن القصر يريده أن يتحمل مسؤولية الوزارة الأولى وتدشين العهد الجديد. "طلبت منه أن يشكر صاحب الجلالة على هذا التوجه السليم، أما فيما يخصني شخصيا فرجوته أن يبلغه وضعيتي الصحية لا تسمح لي، على الإطلاق، بتحمل مثل هذه المسؤولية؛ لكن حزبنا، كما جرت العادة، لن يتردد في تلبية أية دعوة فيها المصلحة العليا لبلادنا. وبعد فترة،جاءني نفس المبعوث بجواب الملك: يقول لك جلالة الملك هو أيضا مريض، وهذا قدرنا أن نتقاسم معا تحت المرض عبء هذه المسؤولية"، يورد اليوسفي في مذكراته. يوم 4 فبراير 1998، استقبل الملك الحسن الثاني عبد الرحمان اليوسفي بالقصر الملكي في الرباط، وعيّنه وزيرا أول، وأكد له قائلاً: "إنني أقدر فيك كفاءتك وإخلاصك وأعرف جيدا، منذ الاستقلال، أنك لا تركض وراء المناصب بل تنفر منها باستمرار؛ ولكننا مقبلون جميعا على مرحلة تتطلب بذل الكثير من الجهد والعطاء من أجل الدفع ببلادنا إلى الأمام، حتى نكون مستعدين لولوج القرن الحادي والعشرين". غير أن الحسن الثاني أخبره أن المغرب في حاجة إلى خبرة وزير الداخلية الحالي إدريس البصري، الذي أشرف على إدارة ملف الصحراء منذ خمس عشرة سنة، نظرا لأن مجلس الأمن اتخذ قرارا بإجراء استفتاء في الصحراء قبل نهاية 1998؛ و"ربما يكون هذا هو المقلب الذي شربه اليوسفي؛ لأن جميع المتاعب التي كادت أن تعصف بحكومته جاءت من عند البصري، حسب الأحداث التاريخية". الاستقالة من العمل السياسي كانت أول انتخابات تشريعية جرت في عهد الملك محمد السادس، سنة 2002، محطة فارقة في تاريخ الحياة السياسية لليوسفي؛ فبالرغم من حصول حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية على المرتبة الأولى، وحصول التحالف الحكومي الذي قاد تجربة التناوب التوافقي على أغلبية مريحة من المقاعد؛ فإن الملك أبلغه قائلاً: "في العديد من المرات عبرت عن رغبتك في إعفائك من هذه المسؤولية نظرا لظروفك الصحية، وقد قررت تعيين إدريس جطو على رأس الوزارة الأولى". رد اليوسفي على الخروج على "المنهجية الديمقراطية" جاء سريعاً .. "شكرت جلالته على تلبية هذه الرغبة، وعبرت له أن الدستور الحالي (1996) يمنحه حق تعيين من يشاء وزيرا أول، ولكن المنهجية الديمقراطية تقضي بتعيين الوزير الأول من الحزب الذي احتل المرتبة الأولى في عدد المقاعد البرلمانية كما أسفرت عنها الانتخابات التشريعية الأخيرة؛ وهو حزب الاتحاد".