قضى الفقيه بينبين مدة تناهز 31 عاما يشتغل مؤنسا للملك الحسن الثاني.. ابنه ماحي بينبين، اختار توثيق هذه التجربة المثيرة في رواية «مؤنس الملك» التي تمت ترجمتها لعدة لغات.. في هذه الحلقات نجري حوارا مع الروائي والفنان ماحي بينبين، وقصته مع والده، كما ننشر أبرز فصول الرواية. كنا نتناول الغذاء حين دخل الوزير الجسور القاعة الكبرى بخطوات حازمة، وكأنه آت للإعلان عن وقوع زلزال في شمال البلاد أو فيضان في محيط العاصمة، أو اندلاع حرب مع جارتنا الشرقية. ساد الصمت وهو يقترب من سيدي. ثم مال فوق كتفه وهمس في أذنه شيئا ما، ليضع بعد ذلك ملفا أزرق على الطاولة، قريبا من الهاتف. كانت جرأته والثقة التي يتصرف بها توحيان بأن ما يجري أمامنا هو قضية من قضايا الدولة، وأنه يجب اتخاذ قرارات عاجلة بدون هدر دقيقة واحدة. حملقنا في سيدي، وخلنا أنه سيثب عن مقعده ويستدعي وزراءه ويمضي حالا إلى مكتبه لإدارة الأزمة. لكنه بدلا من ذلك راح يحملق في السقف مفكرا. كنت أدرك معنى ذلك تماما، حين يخلو وجه سيدي من أي تعبير، وتتجمد عيناه في صمت فريد من نوعه، ويتوقف العالم عن الدوران، ويحبس أفراد الحاشية أنفاسهم، كما كنت أعرف هذا الصمت الخادع، وهذا الهدوء الطريف الذي يسبق العواصف العاتية. التفت الملك نحو حراسه وقال بصوت يكاد يكون رقيقا لولا أن الحقد تقطر منه: (أبعدوا هذا الحيوان من وجهي. لا أريد أن أراه بعد اليوم). كان بين الملك وحراسه المقربين رموز متفق عليها. وبحسب نبرة صوته وقسوة نظرته، يملك الضباط خيارا بين أمرين: إما أن يمسكوا بالشخص المسكين من غطاء رأس جلابيته، ويجروه محنيا عبر الأروقة والحدائق وصولا إلى باب القصر ليرموه بعنف بعد ذلك على الإسفلت فيلحقوا به أشد أنواع الإذلال، وإما أن يواكبوه وهم يحيطونه بأجسادهم الضخمة نحو المخرج بطريقة لا تخلو من بعض التحضر، ولكنها تبقى مع ذلك مسيئة. لكن الوزير العارف بعادات القصر سبقهم إلى المخرج… وهكذا بدأت تلك القصة المدهشة التي لا تشبه أية قصة أخرى مرت على القصر. سبق الوزير الحراس الذين تقدموا نحوه بشيء من التردد والارتباك، لأنه يبقى شخصية بارزة من شخصيات الدولة وغادر القاعة متجها نحو الإسطبلات الملكية يتبعه جيش من الحراس. رغم أن أوامرهم قضت بطرد الوزير، إلا أنهم وجدوا صعوبة في التصرف بخشونة مع أحد أقرب معاوني سيدي. لم يفهم رئيس مروضي الجياد شيئا من تلك الجلبة التي علت وظن أن الملك يقوم بزيارة مفاجئة للإسطبل. فسارع إلى فتح البوابة على مصراعيها، وصفر ليجمع رجاله على عجل. اتجه الوزير إلى حجرة حصان خالية بانتظار تنظيفها، ودخلها ثم جلس أرضا مسندا ظهره إلى كومة قش. نظر الحراس المذهولون إليه وقد اتسخت جلابيته البيضاء. وفجأة صاح بالمروض العجوز قائلا: رأى سيدي أنني حيوان. ليكن إذن فمكاني بين الحيوانات. سآكل وأعيش وأنام مع الحيوانات، ولن أغادر هذا المكان أنا الحيوان. وقف الحراس يتبادلون نظرات الحيرة، ويجهلون كيف يتصرفون أمام هذا الوضع غير المسبوق. كان من الواضح أن الوزير فقد صوابه. اقترب بعض الأعيان لمساعدة (الحيوان) لكنهم لاحظوا أن عقله قد تعطل. ومع ذلك حاولوا التوجه بكلام العقل إلى صديقهم، لكن هذا الأخير رفض سماع أي شيء. بل تفاقمت نوبة جنونه، فأخذ بيده روث الأحصنة وفرك به رأسه وهو يقول بصوت مرتفع: الحيوانات تعيش مع الحيوانات وهذا طبيعي جدا، قال سيدي إنني حيوان أي إن مكاني وسط الحيوانات. سيدي لا يخطئ أبدا في طبيعة الكائنات. أعرف ذلك حق المعرفة، فقد كان لي شرف خدمته نصف حياتي… حاول الحراس أن يخرجوه من ذلك المكان، لكن المفتي الذي صودف مروره من هناك عارضهم الرأي، واقترح استدعاء الدكتور مورا. لم يتأخر الطبيب في الظهور ببطنه الممتلئ ومظهر الطيب، حاملا حقيبته السوداء. بدأ بتفريق العمال الفضوليين الذين اجتمعوا عند مدخل الإسطبل. وطلب من مروض الخيول زجاجة ماء بارد ودخل إلى المريض، فحياه وجلس القرفصاء بقربه، وبدأ معه حديثا وكأنه في صالون عادي. وبعد هنيهة، نجح في إقناع الوزير بابتلاع حبة مهدئة، تكفي حصانا. بعد ذلك غادر الإسطبل بشكل طبيعي جدا.