قضى الفقيه بينبين مدة تناهز 31 عاما يشتغل مؤنسا للملك الحسن الثاني.. ابنه ماحي بينبين، اختار توثيق هذه التجربة المثيرة في رواية «مؤنس الملك» التي تمت ترجمتها لعدة لغات.. في هذه الحلقات نجري حوارا مع الروائي والفنان ماحي بينبين، وقصته مع والده، كما ننشر أبرز فصول الرواية. أملك، ككل أفراد الحاشية، منزلا فخما في حي راق من العاصمة، يبعد عن القصر مسافة عشر دقائق. كان ذلك المنزل هدية فاخرة قدمها لي صاحب الجلالة. لا أنوي صدمة أحد، لكنني أريد التوضيح أن ذلك المنزل قدم إلي مفروشا بأثاث ومشتملا على مرآب فيه سيارة ألمانية من الطراز الأول، وغرفة نوم شغلتها بعد أسبوع من إقامتي فيه زوجة لا تخلو من السحر اقترحها الديوان الملكي. كانت مينا شابة من حي التواركة، أنجبت لي ثلاثة أبناء جميلي الطلعة. لم أكن بحاجة إلى وقت طويل لأقع في إغراء تلك السمراء ذات العينين البندقيتين، والتي تحب الطعام الفاخر والشعر. وهكذا فإن تبني القصر لشخص ما عادة ما يرافقه عرض من الصعب رفضه. كان هذا التنظيم الذي يفرضه الديوان الملكي يخضع لاعتبارات أمنية، لأننا كنا ندخل يوميا إلى المقر الخاص بإقامة الملك. لم تكن مينا مخبرة بالمعنى الحرفي للكلمة، ولكنها عملت في القصر بوصفها سكرتيرة. لذلك لم يكن بوسع أفراد الحاشية الاعتراض على الزوجات اللواتي يخصصن لهم. لكنني لا أتذكر أن أيا من رفاقي قد اعترض على من اختيرت له. بل إن عديدين منهم، كانوا متزوجين، لم يترددوا في الزواج مرة ثانية بالشابة التي فرضها عليهم الديوان الملكي. وبما آن كلمة الملك لا ترد، فإن هذا التوجيه السعيد قد أفرح أكثر من رجل. لكنني وبكل صدق لم أكن مغبونا في هذا الزواج. فأنا أنتمي إلى جيل كان تدبير الزيجات فيه هو القاعدة. كما أن تلك الزيجات كانت أنجح من زيجات اليوم مهما قيل في الأمر. بعد اختراع التصوير الفوتوغرافي العجيب، لم يعد اكتشاف العروس ليلة الزفاف يشكل مفاجأة. وخلافا لآبائنا، كنا نعرف تماما أين نذهب. في ذلك العصر، كان الزوج والزوجة يلتقيان، ويتعلمان كيف يتعارفان ويعيشان، ويتحابان، ويبنيان، ويشيخان، ويموتان معا. هذا رأيي برغم اعتراض أولادي الذين يجدونني قديم الطراز. ومع ذلك فالزيجات الحالية فقدت تألق الماضي وسحره. ذات يوم وقع أحد كبار الوزراء، وأتحفظ عن ذكر اسمه رفقا به، فريسة غضب سيدي الشديد. أثارت تلك القصة الغريبة لغطا واسعا في أروقة القصر، ودارت على ألسنه الجميع، من الجنود إلى قادة الألوية، ومن الحراس العاديين إلى رئيس الخدم، ومن العبيد التواركة إلى العسكريين المخضرمين. أما أنا فيمكنني أن أرويها بتفاصيلها لأنني كنت شاهد عيان عليها. استنزل ذلك الوزير الغبي على نفسه غضب الملك الشديد ذات يوم كان فيه هذا الأخير متعكر المزاج جدا. فقد صمم على أن يرفع إلى صاحب الجلالة ملفا غير مكتمل، بدون أن يستشير قبل ذلك أحدا. ولو أنه انتبه إلى القائد موحا الذي وقف عند مدخل الصالون، رافعا سبابته المعقوفة كذيل عقرب مخفية جاهزة لتلسع من يقترب، لكان بكل تأكيد قد أنقذ نفسه. وكما يخطئ بعض المخضرمين الذين يقتنعون بأن ذكاءهم ومهارتهم وخبرتهم تجعلهم بمنأى عن العقاب، ظن صديقنا نفسه لا يمس، واثقا من أن الموهبة وحدها هي كل ما يلزم لحسن سير المملكة. كل ذلك كان خطأ فادحا في أرض الحكم المطلق، فالمصلحة العامة لا قيمة لها حين يتعكر مزاج الملك، وأرق بسيط يعانيه هذا الأخير قد يؤدي بالبلاد إلى شلل يدوم أشهرا، من دون أن يستطيع أحد أن يحرك ساكنا. من المسلمات هنا أنه لا يوجد أحد في بلاط الملك لا يمكن استبداله. وما إن تراود شخصا جسور أحلام العظمة ويخال نفسه من أعمدة الهيكل حتى يغرق في وحل لا يخطر بباله. تشده مجسات أخطبوط خفي. إن رفع الرأس عاليا أمر فيه بعض المخاطر في محيط الملك، لذلك فان إبقاء العنق مرنا، على طريقة السلاحف قد يكون أكثر أمانا. وفي تلك الأمسية الربيعية الجميلة، كان قدر صديقنا الوزير أن يعاني العقاب الملكي المؤلم.