ماذا يجب على كتاب الرواية السياسية أن يفعلوه كي يصبحوا أكثر إثارة للاهتمام؟ هذا الفن ليس سهلا، فهو يحمل رسالته في ذاته. رسالة ممتعة بقدر ما هي خطرة. في هذه السلسلة، يحاول الكاتب أن يؤسس لتصور حول مشروع للطريقة التي ينبغي أن تكون عليها الرواية السياسية. فلفهم ظروف وأحوال العرب لا بد من الرجوع إلى أشعارهم، والنبش فيها بالرغم من اعتبار البعض أن الدعوة إلى سياسية الشعر نبرة عصبية تنحاز جهة الموضوع وتجعله الغاية الوحيدة المقصودة منه دون الاهتمام بسائر مقومات القصيدة كالبناء، والهيكل، والصور، والانفعال، والموسيقى، والمعاني الظاهرة والخفية، وإنما تقتصر عنايتها على موضوع القصيدة، وكأنه العنصر الوحيد الذي يكونها، فهناك من يعتبر الموضوع في الشعر أتفه مقومات الشعر، وأقلها استحقاقا للدراسة المنفصلة، فكل المواضيع صالحة للشعر. وبالرغم من القيمة المعرفية لهذه النزعة النقدية لسياسية الشعر، فلا أحد ينكر حماسة الشعراء، ورغبتهم في الإفصاح عن رؤواهم السياسية في ظروف عصيبة، ومواقف محددة، فمن الصعب عزل وقراءة مجموعة كبيرة من قصائد الشعر السياسي عن سياقها السياسي والاجتماعي والتاريخي. لذلك من الأهمية بمكان الحفاظ في القراءة الفنية للشعر السياسي على مكوناته ومقوماته الفنية. من المعروف أن الشاعر قديما كان هو لسان القبيلة يدافع عن حوزتها، ويسعى جاهدا بسليقته الشعرية إلى رفع شأنها أمام القبائل الأخرى. لذلك سيتم الإشارة في هذا المقام إلى منتخبات من الشعر السياسي موصولة بسياقها التاريخي، تعزيزا لأطروحة سياسية الشعر، واعتباره الديوان الأول (السجل) لسياسة العرب. والبداية من الشعر الجاهلي، حيث إنّ قبائل الجاهلية كانت في صراعٍ مستمرٍّ، تتناحر فيما بينها وتتقاتل من أجل الحصول على مقوّمات الحياة، فيؤدّي ذلك إلي حروبٍ تدوم طويلاً، وقد لا ينحصر النزاع بين قبيلتين اثْنَتين، بل يتعدى ذلك إلى عدّة قبائل. وفي هذه الأجواء كان الشعراء كالمحامين يذودون عن مصالح قبائلهم وسياستها. فلذا كانت القبائل في الجاهلية تعتّز بشعرائها النابغين وتحتفل بظهورهم. «وكانت القبيلة من العرب إذا نبغ فيها شاعر أتت القبائل الأخرى فهنّأتْها، وصُنْعِتْ الأطْعمة واجتمع النساء يلعبن بالمزاهر، كما يصنعون في الأعراس، ويتباشر الرّجال والولدان؛ لأنّه حماية لأعراضهم، وذبّ عن أحسابهم، وتخليد لمآثرهم، وإشادة بذكرهم، وكانوا لايهنّئون إلّا بغلامٍ يُولد، أو شاعر ينبغ فيهم، أو فرسٍ تنتج”. ومن الطّبيعي أن تكون فنون الشعر السياسي أو أغراضه هي الحماسة، والفخر، والهجاء، ثم المدح، والوصف، والرثاء. وفي هذا المقام نستحضر موقف زهير بن أبى سلمى السياسي من الحرب، حيث شهد زهير حرب السباق وتطاحن القبائل، ورأى أن الحروب من أشدّ الويلات على الإنسان فكرهها كرهاً صادقاً، وسعى في أمر الصلح، وامتدح المصلحين، وندّد بالمحرّفين على استخدام قوة السلاح، ودعا إلى نبذ الأحقاد، ووقف موقف الحكم والقاضي، كما وقف موقف الهادي والمرشد والمصلح. وكان مبدأه أن ما يحلّ سلمياً خير مما يحل حربياً، وأن الحرب هي آخر ما يجب اللجوء إليه، وأن الطيش والعناد يقودان إلى الدمار ويقول في هذا المدمار في معلقته: ومنْ يعص أطراف الزِّجاج فإنه . . . يطع العوالي ركِّبت كلّ لهذم ومن يوف لا يذمم ومن يفض قلبه. . . إلى مطمئن البر لا يتجمجم ومن هاب أسباب المنايا ينلنه. . . ولو رام أسباب السماء بسلّم ومن يك ذا فضل فيبخل بفضله. . . على قومه يستغن عنه ويذمم ومن لا يزل يسترحل الناس نفسه. . . ولا يُعفها يوما من الذل يندم ومن يغترب يحسب عدوا صديقه. . . ومن لا يكرم نفسه لا يكرّم و من لا يذدْ عن حوضه بسلاحه. . . يهدّم ومن لا يظلم الناس يظلم ومن لم يصانع في أمور كثيرة. . . يُضَرَس بأنياب ويوطأ بمنسم فقد أراد زهير أن يقول من أبى الصلح لم يكن له بدّ من الحرب، وهو لم يقل ذلك مباشرة، بل ذهب يبحث عن صورة تمثل الصلح عند العرب في زمانه، وسرعان ما لمعت في خياله عادة كانت معروفة لديهم، وهي أن يستقبلوا أعداءهم إذا أرادوا الصلح بأزجّة الرماح، ومن ثم قال “ومن يعص أطراف الزجاج”، أي أنه يقصد “ومن لا يطع الدعوة إلى الصلح والسلام”، إشارة إلى الدخول في الحرب بإطاعة أسنة الرماح. ولكنّ عنصر القوة من مقتضيات الحياة القبلية في الجاهلية، والقبائل متربصة بعضها ببعض، فلم يستطع زهير، على حبّه للسلام، من الخروج على سنّة المجتمع القبلي. فهنالك العرض والشرف، وهنالك العصبية التي تدعو إلى مناصرة أبناء العشيرة، وهنالك تقاليد الثأر، والدفاع عن الجار، وهنالك موارد المياه ومراعي القطعان، والطبيعة البشرية في شتّى أهوالها وأطماعها. كلّ ذلك يفرض على الجاهلي أن لا يتغاضى عن وسيلة السلاح، وأن لا يظهر بمظهر الضعف في مجتمع لا يؤمن إلا بقوة. “ومَن لا يذُد عن حَوضِهِ بسلاحِهِ يهدَّم ومَن لا يظلِمِ الناسَ يُظلَمِ”.