قرأت السيرة الروائية «رواء مكة» فور نزولها إلى المكتبات، أعترف بأني قرأتها أول الأمر دون أن أكملها، ظنا مني أنها قد باحت برهاناتها ورسائلها، وسيجت أفق انتظار القارئ منذ خطاب العتبات، خمنت أن أوريد يسلك مسلك «الاعتراف» إزاء عارض روحاني أولا، وثانيا أنه مستمر في تصفية حساباته مع ماض لم يختره، كلنا لم نختر حيواتنا إلا في ذرات متناثرة، لكن ما يتاح لنا من فرص الانفلات -نحن «الرعايا»- لا يتاح لمن اقتنصته حياة «القصور» بتقاليدها المرعية ودسائسها، حيث فاتورة الضم إلى نخبة «ولي العهد» يجب أن تدفع ولاء أبديا، مع ما يوجبه الولاء من أعراف التحفظ والصمت، والركن في زاوية النسيان حين انقضاء مدة الصلاحية، حسب تقديرات العيون الساهرة على دوام «الآداب السلطانية». لكن الضجة التي أحدثها السيد أبو زيد، حين قدم السيرة الروائية على «مسلخ» النقد «الدعوي»، محولا العمل إلى مانيفيستو دعوي، يغير حياة قارئه فور الانتهاء من تلاوة المتن، أربكت كل سيناريوهاتي التأويلية، لكنه إرباك محبط، لقد كنت أضع العمل ضمن المؤلفات التي تسائل مركزية «العقل»، وهي أعمال منتشرة في محفل المابعديات، ما بعد البنيوية وما بعد الحداثة وما بعد الاستعمار وما بعد العقل، ضمن موجة مساءلة المركزيات واليقينيات العلموية في الغرب نفسه، وبعد ذلك في الهوامش والبقايا، يكفي الرجوع إلى أعمال إدوارد سعيد، لكن السيد أبوزيد أبى إلا أن ينزل بالعمل إلى مستوى خلق جيش احتياطي من القراء يبحثون عن قصة مدمن خمر يتوب إلى ربه. ليس في «رواء مكة» جديد في الأطر الفكرية لحسن أوريد، كما تعبر عنها كتابات الرجل قبل «الرواء» وبعده، فلطالما نافح الرجل عن فكرة إعادة تملك التراث، بدل استبعاده، لأن النتيجة حسبه لن تكون سوى أن يتملكنا التراث نفسه إذا أبطأنا في تملكه. وفي تقديري، أن الأصولية الدينية مظهر من مظاهر تملك التراث للذات الجمعية، بدل تملك هذه الذات لتراثها، التملك عند أوريد هو ممارسة نقدية، التملك إعادة تشييد وفق التحديات والأنساق المستجدة. يحضر سؤال الهوية بقوة في «رواء مكة»، كما يحضر في «الحديث والشجن» وكذا في «الموريسكي»، يحضر قلقا وجوديا كيرغارديا أكثر منه سارتريا، كما يحضر إشكالا سياسيا وثقافيا في خضم أحداث العالم وتحدياته المتسارعة بفعل العولمة، التي لا يمكن مواجهتها بالانكفاء والتقوقع، ولكن في الوقت نفسه لا يمكن القبول بتذويب الهوية في هوية عولمية، هي نحلة الغالب بالتعبير الخلدوني. في أعمال أوريد تقترن الهوية بالاعتراف، وهو من المفاهيم التي استأثرت بنقاشات فلسفية وفكرية وسياسية في تساوق مع أحداث كبرى انطلقت منتصف القرن العشرين (العدالة الانتقالية في جنوب إفريقيا، محاكمات متورطين في جرائم ضد الإنسانية بما فيها جرائم الهولوكست، اندلاع حروب هوياتية في يوغوسلافيا ورواندا…)، نقاشات أسهمت فيها أسماء كبرى كالأمريكية نانسي فيزر في مساءلتها أزمة العدالة، وبول ريكور في تحليله صراع الذاكرات، ووريث مدرسة فرانكفورت «أكسيل هونيت» في استئنافه نقد أزمة الليبرالية الغربية في كتابه «الصراع من أجل الاعتراف»، طبعا لا يمكن إنكار أن هذا المفهوم يجد أصوله عند هيجل في «فينومينولوجيا الروح». واعترافات أوريد في «رواء مكة» هي اعترافات متوجهة نحو الذات، على خطى اعترافات روسو بشأن دين الفطرة كما سماه العروي، وعلى خطى اعترافات إدوارد سعيد في «خارج المكان»، وهي، في نظري، تتمة لاعترافاته الضمنية في «الموريسكي»، التي يغلب عليها طابع الاعتراف في علاقة الانتماء الهوياتي بالغيرية، من خلال شخصيتي أفوقاي الذي يقر بأنه لو اعترفت إسبانيا بهويته الدينية لفضل أن يكون مواطنا إيبيريا، على خيار الاقتلاع من الأرض بسبب الدين، أو من خلال شخصية أنتاتي الذي يعرف نفسه بالأمازيغي في مقابل من يقدم نفسه عربيا، ولو أنه يقر بأن الله وحده يعلم بجينيالوجيا الأنساب. إنه خطاب في مقابل خطاب، خطاب يروم الاعتراف، خطاب تحركه مقاومة لنزوعات الاقتلاع والإقصاء والتنميط… وفي كل ما كتبه أوريد هناك رهان يضمره، وهو محاولة الحفر في البحث عن ماهية الشخصية المغربية، هي بديل عن الفهم الإقصائي الذي مارسته الحركة الوطنية على الإنسية المغربية، لكنه فهم بعيد عن الشمولية الإسلاموية التي تحط من قدر عناصر الهوية الأخرى، كما أنه فهم يتجاوز أفق مناضلي الحركة الأمازيغية المحكومين في رأيه بهاجس إنتاج خطاب لم يخرج من دائرة رد الفعل الذي يخفي رهان البحث عن الاعتراف. إن الشخصية المغربية يجب ألا ترتكن لتصور منغلق للهوية، فالهوية ليست قدرا، بل هي انبناء وسيرورة ومجرى تشييدات تحتاج إلى التملك والإغناء في الوقت نفسه، لذلك، سيعاني أوريد سوء فهم من لدن فريق من الإسلاميين الذين أوقعهم «أبو زيادة» في جعل أوريد معادلا موضوعيا لكات ستيفنس (يوسف إسلام)، أو عند فريق من الأمازيغيين يرونه مرتدا بعدما كان هو وشفيق سفيريهما عند القصر، أو عند فريق من اليساريين الذين رأوا في «الرواء» انقلابا إيديولوجيا، أو عند ليبراليي السلطوية الذين يختزلونه في باحث عن الانتقام لطرده من نعيم البلاط بعدما أكل الثمرة المحرمة.