في البدايات الأولى لظهور حزب الأصالة والمعاصرة، سألت، في حوار منشور، أحد مؤسسيه البارزين، ممن رحلوا دون أن يقولوا شيئا عن الرحلة: «كيف اخترتم لحزبكم اسما يضم مفهومين على طرفي نقيض؟». أجاب محاوَري، وهو صلاح الوديع، بكلام فضفاض عن إمكانية الجمع بين «الأصالة» و«المعاصرة» في تنظيم سياسي! الآن، تبين بوضوح أن ذلك مستحيل، وأن المعاصرة أصبحت معيقة للأصالة. كيف ذلك؟ كثير من متتبعي مسار هذا الحزب يتحدثون عن أنه يجتر خطيئة النشأة، ويقصدون بذلك ولادته بملعقة من ذهب في كنف الإدارة التي عبدت له كل الطرق، ووضعت رهن إشارته كل إمكانيات الصعود سريعا. وهذا صحيح، لكنه لا يخص حزب الأصالة والمعاصرة وحده، بل يشمل كل الأحزاب التي أُسست بقرار إداري، وأبرزها التجمع الوطني للأحرار الذي أخمد، بسرعة وحزم، خلافاته في عهد مصطفى المنصوري، المبعد عن الحزب بقرار إداري، عقابي، شأنه شأن خلفه صلاح الدين مزوار، وقد تابعنا طريقة إنزال عزيز أخنوش، بعدما كان قد أعلن استقالته وابتعاده نهائيا عن السياسة، وها هو يقود الحزب بالطريقة التي يقود بها أي رئيس مجلس إدارة شركة ما. هناك أيضا الحركة الشعبية، التي أطفأت، هذه السنة، شمعتها الستين، وعرفت تحولات واضطرابات، لكنها لا ترقى إلى حجم المشاكل والقلاقل التي هزت البام خلال المدة القصيرة من نشأته. فأين يكمن الخلل والخطر الذي بات يتربص بالحزب الذي أسسه فؤاد عالي الهمة؟ يكمن في هجانة بنيته الجامعة بين نقيضين، هما: الأعيان (الأصالة)، والقادمين من تجارب سياسية يسارية (المعاصَرة). هذا المكون الأخير (المعاصرون أو «اليساريون») هو الذي أصبح يهدد ثاني حزب في المغرب من حيث عدد المنتخبين، لأنه يتوفر على حضور مهم داخل الأجهزة، حيث إن ثلاثة من خمسة أمناء عامين عرفهم الحزب (بنعدي والعماري وبنشماس) هم من جذور يسارية. كما أن أبرز الذين قادوا التمرد على إلياس العماري ويقودونه، الآن، على حكيم بنشماس، هم يساريون سابقون. قد يقول قائل إن الصراع الذي عرفه الحزب في عهد إلياس وبنشماس لم يكن بهذا الصفاء الاصطفافي، أي «يساريون» ضد أعيان، وأن كلتا الجبهتين كان يوجد فيهما من هؤلاء وأولئك. لكن المنهجية والذهنية المحركة لصراع كالذي عرفه البام، منذ نهاية 2016، هي منهجية وذهنية يسارية؛ لأن الأعيان الخالصين لا يمكنهم أن يحتجوا على استفراد أمينهم العام بالقرار، أو يطالبوا باحترام الديمقراطية الداخلية، لأن ذلك يفقدهم شرط وجودهم السياسي، وهو وصولهم إلى مواقعهم التمثيلية في ظروف تغيب فيها الشفافية والديمقراطية. فكيف يخوضون صراعات من أجل الديمقراطية تُناقض جوهرهم اللاديمقراطي؟ إن الأعيان عندما ينتفضون داخل حزب مثل الأصالة والمعاصرة، فاعتقادا منهم، أو إيحاء لهم بأن «الفوق» لم يعد راضيا عن هذا الأمين العام أو ذاك القيادي، وبالتالي، يجب الوقوف في وجهه لإضفاء نوع من الشرعية التنظيمية على إزاحته الإدارية. وهكذا، فإن الصراع داخل البام ظاهره حداثي ديمقراطي، لكن باطنه تقليدي، ينطلق من أن التغيير هو رغبة جهات من خارج الحزب. وهذه القناعة توجد حتى لدى «يساريي» الحزب الذين لا يتردد الكثيرون منهم في الاعتراف بأنهم قد يعبرون عن غضبهم على الأمين العام، وقد يرفضونه ويسعون إلى دفعه إلى الاستقالة، لكنهم يعرفون جيدا أن تحديد من سيقود الحزب ليس شأنا حزبيا. إن زرع أسماء ذات ماضٍ يساري في هذا المشتل الإداري، المسمى الأصالة والمعاصرة، أملاه تهلهل أحزاب الحركة الوطنية بعد مشاركتها في حكومة إدريس جطو، وصعود سهم الإسلاميين في المشهد السياسي. لقد اعتقدت الإدارة أن اليساريين الذين اشتغلوا، بمرونة، مع الدولة في تجربة العدالة الانتقالية، وأبانوا عن قدرة سجالية مهمة في معركة الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية لسنة 1999، هم الأقدر على مواجهة الزحف الأخضر. ولم تفكر في أن هؤلاء اليساريين المهرولين إلى دخول الحزب الإداري الجديد، قد أصبحت لهم تطلعات اجتماعية تسلقية، ولم يحتفظوا من ماضيهم اليساري سوى بنمط عيش حداثي يرون أن الديمقراطية الحقيقية تهدده، لأنها ستأتي بالإسلاميين، وبالتالي، اهتدوا إلى فكرة أن التناقض الرئيس هو مع الإسلاميين، وليس مع الفساد والاستبداد كما كانوا يقولون في ما مضى. فما الذي حدث؟ حدث أن الشارع رفض توليفة الأصالة+المعاصرة، وبدلا من أن يساعد «اليساريون» أعيان البام في مواجهة الإسلاميين، أو يتركوهم يواجهون البيجيدي انتخابيا بمساعدة الإدارة، أصبحوا معيقا لهم، خصوصا مع وجود حيوان سياسي بضراوة عبد الإله بنكيران، نكل بيساريي البام في مساجلاته معهم، وأحسن استعمال خطاب المظلومية، بعدما انخرط بعض هؤلاء «اليساريين» (جمعية آيت الجيد مثلا) في محطات كان الغرض منها النيل من البيجيدي، مثل مسيرة ولد زروال، فانقلب السحر على الساحر. ختاما، لعلهم محقون أولئك الذين يقولون إن مسؤولي إدارة عهد محمد السادس لم يستفيدوا من خبرة نظرائهم في إدارة الحسن الثاني؛ فلو نظروا خلفهم قليلا، لرأوا الفشل الذي منيت به الأحزاب الهجينة، التي حاولت الجمع بين الإرادة والإدارة؛ بدءا من الحزب الذي أنشأه مستشار الحسن الثاني، أحمد رضى اكديرة، واختار له اسما براقا “الاشتراكي الديمقراطي”، ومرورا بالحزب التاريخي، الشورى والاستقلال، الذي وقع شهادة موته بعدما انخرط، سنة 1963، في جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية (الفديك)، بعد أشهر من رفضه الشجاع لدستور 1962، ووصولا إلى الحزب الاشتراكي الديمقراطي الذي أسسته سنة 1996 نخبة يسارية، اعترف إدريس البصري بدعمه إياها، وانتهاء بالبام الذي لم ينجح يساريوه في تحويله إلى حزب ديمقراطي، ولم يتركوه يتحول إلى حزب إداري خالص. خلاصة القول: الهجانة في السياسة تعيق وتقتل.