أقرب وصف للحالة التي يعيشها المغرب، منذ السنوات الثلاث الأخيرة على الأقل، أننا نعيش حالة نكوص، أو تقهقر أو تراجع. المقياس المستعمل هنا هو حركة 20 فبراير، التي تحولت في الذهنية الجماعية إلى مرجعية لتقييم التحولات السياسية التي أتت بعدها، سلبا أو إيجابا. لم تكن حركة 20 فبراير، التي خلّد المغاربة ذكراها الثامنة أول أمس، مجرد محطة فاصلة في مسار التحول السياسي للمغرب، أو صدى لثورات الربيع العربي، حيث أثبتت مدى الترابط والاتصال الاجتماعي بين المغرب وأمته العربية، ولم تستطع فعلا إحداث تغيير جوهري في موازين القوى السياسية في المغرب سنة 2011، كما لم يساعد انزلاق ثورات سوريا واليمن وليبيا نحو العنف في التقدم نحو تنزيل دستور 2011 تنزيلا ديمقراطيا، بل حدث العكس، حيث استغلت القوى النافذة من ذوي المصالح الفرصة التي أتاحها السياق العربي، مرة أخرى، لإفراغ كل ما قدّمه الملك محمد السادس في خطاب 9 مارس -الذي ضُمّنت جل وعوده في دستور 2011 – من محتواه، والأدهى من ذلك أن تلك القوى لم تتوقف بعد عن استنزاف كل مقاومة في المجتمع للاستبداد والفساد. لكن، رغم كل الخسائر التي ألحقتها القوى المضادة بقوى 20 فبراير، فهي لم تهزمها بعد. والسبب أن 20 فبراير تحولت إلى روح تسري في المجتمع والنخب والشباب، بل إن الشعارات الرئيسة التي رفعتها حركة 20 فبراير، والمتمثلة في العدالة الاجتماعية وفصل السلطة عن الثروة، والحرية، والديمقراطية، أضحت مرجعية لقياس الإصلاحات كما الانحرافات عن دستور 2011. تلك الشعارات التي كانت جوابا عن آفتي الاستبداد والفساد، باعتبارهما أصل الداء المنتشر في الجسد العربي، بتفاوت في التركيز من بلد إلى آخر. في هذا الإطار، يمكن استقراء الاحتجاجات التي عرفها المغرب لاحقا، حيث ظهر أن روح 20 فبراير لم تمت، سواء في حراك الريف أو احتجاجات جرادة أو زاكورة أو إميضر، واحتجاجات نوادي «الإلتراس»، والتلاميذ ضد الساعة الإضافية، بل في أغاني العونيات، وصرخات فنانين شعبيين في الأطلس والريف، ويمكننا ملاحظة ذلك بوضوح في شعارات الاحتجاجات الفئوية في قطاعي التعليم والصحة وغيرهما، بل يمكننا أن نقرأ أثر تلك الروح في بعض الخطابات السياسية أيضا، خصوصا تلك التي حذرت، وإن بشكل عابر، من الجمع بين السلطة والثروة، بوصفه تهديدا للدولة. وبقدر ما أكدت تلك الاحتجاجات أن روح 20 فبراير لم تمت، أبانت، في الوقت نفسه، عن دور محدود لمؤسسات الوساطة، مثل الأحزاب والنقابات والمجتمع المدني، التي تُتجاوَز يوميا من خلال قنوات وأدوات أخرى، أبرزها وسائل التواصل الاجتماعي، التي تحولت إلى وسيط يكاد يكون الأكثر فعالية بين السلطة والمجتمع. أما التطور الآخر، في هذا السياق المتوتر، فهو أنه بقدر ما تُسيَّس الاحتجاجات من جانب المجتمع بفئاته المختلفة (حراك الريف، جرادة، إميضر، الإلتراس، العونيات…) -ولا يمكن أن ننكر دور هيئات سياسية تصب بدورها مزيدا من الزيت على النار- فإنها تؤمنن من لدن السلطة، بغرض تبرير قمعها باستعمال القوات العمومية، التي لا يمكن أن تكون المحاور الطبيعي لفئات المحتجين في أي زمان أو مكان. ولعل من نتائج دينامية التسييس من جهة، ودينامية الأمننة من جهة ثانية، مزيدا من الضبط الأمني، أي إقحام الأمنيين في قضايا يفترض أن تكون بيد السياسيين، وهي وضعية غير طبيعية، ولا يمكن أن تثير سوى مزيد من القلق تجاه المستقبل. لقد وصلنا، بعد ثماني سنوات من حراك 20 فبراير، إلى وضعية مقلقة، إذن، والسبب هو التخلي عن برنامج إصلاحات 2011، بغض النظر عن المسؤول عن ذلك. لقد خابت حسابات أولئك الذين اعتقدوا أن حركة 20 فبراير جسد عليل يمكن التخلص منه، وأثبت الزمن أنها روح، والأرواح لا تموت، بل تحولت إلى مرجعية فاعلة في الذهنية الجماعية لكل المغاربة، يقيسون بها المكتسبات كما الانحرافات، وهو مكتسب ثمين للشعب المغربي، لأن توفر مثل هذه المرجعية هو الذي يحفز الوعي الجماعي باستمرار على التساؤل والنقد، وحتى الاحتجاج، ومن ثم الانشغال أكثر بالسياسة الحقيقية، وليست المصطنعة، خصوصا لدى الشباب والنخب من الطبقة المتوسطة. وقد يكون الشعور المتزايد بالنكوص والتراجع عن وعود 2011، والذي نلمسه يوميا في الشارع وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، سببا رئيسا في مزيد من الاحتقان الاجتماعي، بل ينذر من الآن بمقاطعة واسعة للانتخابات المقبلة، وهو سيناريو راجح، إن حصل، سيكون مقدمة للخسران.