نشر الدكتور عمر إحرشان في العدد الأخير (31) من الدورية العلمية المحكّمة “سياسات عربية” التي تُعنى بالعلوم السياسية والعلاقات الدولية، دراسة بحثية معمقة حول حراك الريف بعنوان “حراك الريف: السياق والتفاعل والخصائص”. وتبحث هذه الدراسة، التي يصدرها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، في الدينامية الاحتجاجية لمغرب ما بعد “الربيع العربي”، وترصد “حراك الريف” من حيث سياقاته المحلية والوطنية والإقليمية، وأسبابه التاريخية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وتفاعل مختلف مكونات المشهد السياسي المغربي، سواء السلطات السياسية أو الأمنية أو الحزبية أو المجتمع المدني؛ ثم تناولت النقائص السياسية والدستورية والقانونية التي تجعل الاحتجاج في الشارع هو الخيار المفضل للمتضررين من الأثر السلبي للسياسات العمومية المتبعة انطلاقًا من حراك الريف. ورصد الأستاذ الجامعي في هذه الدراسة خصائص وأهداف وتداعيات الحراك وأشكاله النضالية والتنظيمية والخطابية والتعبوية؛ حيث خلص إلى أن هذا النموذج الاحتجاجي أظهر تطورا نوعيا في السلوك الاحتجاجي وأمام جيل جديد من الحركات الاحتجاجية يستفيد من تراكم الحركات السابقة ويضيف إليها سمات جديدة. وتناول الدكتور إحرشان في هذا البحث 4 محاور رئيسية جاءت كالتالي: سياقات الحراك، وأسبابه، ثم تعامل السلطة معه، فسماته وخصائصه. فبخصوص سياقات الحراك قسمها إلى ثلاث، سياق محلي ويتجلى بحسب الباحث الأكاديمي في “غنى منطقة الريف بثروات طبيعية وإمكانيات هائلة، لم تستفد منها لتحقيق تنمية متوازنة تستعين بها الساكنة على تحسين ظروف عيشها. وتأثر المنطقة تأثرا سلبيًّا نتيجة عقود من التهميش والعزلة والإقصاء، ولذلك فقد كانت كل المؤشرات تفيد بأنها مؤهلة لموجة احتجاجات عامة تفوق في حدتها تلك الاحتجاجات التي عرفتها المنطقة في ظل حركة 20 فبراير…”. وسياق وطني تمثل في أن الاحتجاجات في المغرب لم تهدأ بعد عام 2011 “فقد ظلت وتيرتها في ارتفاع ملحوظ مع تغير في طابعها؛ إذ انتقلت من احتجاجات ذات طابع سياسي ووطني، كما كان شأن حركة 20 فبراير، إلى احتجاجات فئوية ومناطقية وذات بعد مطلبي اجتماعي بالأساس. لقد عرف المغرب احتجاجات واعتصامات للطلبة الأطباء، والأساتذة المتدربين، واحتجاجات ساكنة شمال المغرب ضد شركة أمانديس، وعرفت مناطق عديدة احتجاجات حول مطالب بسيطة أحيانًا، ولكن بمشاركة شعبية واسعة، وهو ما يؤكد أن الاحتجاج في الفضاء العام أصبح الأسلوب الأشد ملاءمة لدى المغاربة، للتعبير عن عدم الرضى…”. أما السياق الإقليمي والدولي فقد كان في غير مصلحة حراك الريف بحسب ما أورد الكاتب؛ وعلى عكس الحراك الشعبي لعام 2011 “فقد عرفت المنطقةٍ العربية ثورات مضادةً، وحالة تراجع ونكوص عن مكتسبات الربيع العربي، ونشوء حلف رسمي عربي همه الأساس وأد كل الانتفاضات الشعبية في مهدها؛ ولم يختلف السياق الدولي عن مثيله الإقليمي كثيرا؛ فالولايات المتحدة الأميركية ظلت بمنأى عن الحراك، وإسبانيا بقيت على الحياد رسميًّا، وفرنسا داعمة للموقف الرسمي المغربي في تعامله مع الحراك، والاتحاد الأوروبي، وخصوصا المفوضية الأوروبية التي تعد الذراع التنفيذية للاتحاد، غلَّب مصالحه الاستراتيجية مع النظام المغربي على الاصطفاف المنطقي الذي يتطلبه الأساس الذي بُني عليه هذا الاتحاد. ولم يساند الحراك في هذا السياق سوى هيئات حقوقية…”. ثم انتقل إحرشان إلى النقطة الثانية، تناول فيها الأسباب المباشرة وغير المباشرة لحراك الريف، وتطرق فيها إلى الأسباب التاريخية لحراك الريف، والأسباب السياسية، والأسباب الاقتصادية والاجتماعية، ثم الأسباب الثقافية. ومما ذكره، مثلا، على مستوى الأسباب السياسية تأكيده أنه على الرغم من أن الأسباب السياسية لحراك الريف لا يُعبر عنها بوضوح، إلا أنها بقيت “حاضرة على نحو غير مباشر؛ لأنه لا يمكن فصل المطالب الاجتماعية والاقتصادية والحقوقية عن طابعها السياسي”، مقدما عددا من التجليات مثل المطالبة ب “تقديم جميع المتورطين في مقتل الشهيد محسن فكري إلى العدالة، والذهاب بالتحقيقات إلى أبعد مدى، مع إعلان النتائج في أقرب وقت، والكشف عن حقيقة ملف الشهداء الخمسة في البنك الشعبي خلال أحداث يوم 20 فبراير إضافة إلى المطلبَين الاستعجاليَّين المتمثلَين في إلغاء الظهير الذي يعتبر إقليمالحسيمة منطقة عسكرية، وتعويضه بظهير يعلن إقليمالحسيمة منطقة منكوبة، وإسقاط كل المتابعات القضائية في حق بسطاء مزارعي القنب الهندي بإقليمالحسيمة والمناطق الأخرى”. أما على مستوى الأسباب الاقتصادية والاجتماعية، فشرح أستاذ العلوم السياسية الوضع “منطقة الريف نسب بطالة مرتفعة، خصوصا وسط الشباب. وعلى الرغم من إمكانياتها المتعددة، الطبيعية والسياحية والفلاحية، تشهد هذه المنطقة ركودا اقتصاديًّا؛ بفعل ضعف الاستثمارات والمشاريع الاقتصادية… تفتقر المنطقة إلى المرافق الأساسية، مثل المستشفيات والجامعة، وتعيش شبه عزلة، بفعل غياب شبكة طرقية للربط بين مناطقها وبين المناطق الخارجة عن الريف، وذلك على الرغم من المجهودات التي عرفتها المنطقة في السنين الأخيرة. وقد ساهمت هذه الأسباب والمعاناة الحقيقية في تحقيق التفافً شعبي واسع حول هذا الحراك وملفه المطلبي”. وفي المحور الثالث تحدث فيه الأستاذ بجامعة القاضي عياض عن تعامل السلطة مع الحراك، من خلال منهجية السلطة في التجاوب مع مطالب الحراك، خاصة مع تزامن انطلاق الحراك في الحسيمة مع إعلان نتائج الانتخابات التشريعية ليوم 7 أكتوبر، وما ترتب عنها من تعثر في تشكيل الحكومة استمر شهورا، ثم تحدث عن المؤسسات الرسمية المعنية بالتفاعل مع حراك الريف، ويتعلق الأمر بكل من مجلس الجهة الترابية، الحكومة، وزارة الداخلية، المجلس الوطني لحقوق الإنسان، والمؤسسة الملكية. ليختم هذا المحور ب“النقائص الدستورية والسياسية والقانونية”، وقسّمها إلى ثلاث وهي: 1- النقائص الدستورية، وقال فيها “كشف هذا الحراك أن الإطار الدستوري لا يضمن فصلا بين السلط، وتوزيعا متوازنًا لها، وأن المغرب ما زال محكوما بمَلَكية تنفيذية، تتحكم في مفاصل الحياة العامة كلها، وأن الحكومة والبرلمانُ والجماعات الترابية محض واجهة، ويؤكد هذا صمت الحكومة وعجزها”. 2-النقائص السياسية، ذكر فيها أن حراك الريف يعكس “تحولا كبيرا وسط المجتمع، وتقدما نوعيًّا لم تتمكن السلطة والوسائط المجتمعية الرسمية من مواكبته. ولذلك، تعالت أصوات كثيرة تُنبِّه إلى هذا الأمر وكأنه اكتشاف جديد، مع العلم بأن المتتبع العادي للمشهد الحزبي والنقابي يستنتج أن إضعاف هذه الوسائط لم يأت مصادفة، ولكنه نتيجة لسياسة ممنهجة، اعتُمدت منذ مدة، وسرع نتيجتها قيادات عزلت نفسها عن الشارع…”. 3-النقائص القانونية، قال فيها الباحث السياسي “مثَّل حراك الريف، وغيره من الاحتجاجات الكثيرة في الشارع، ضربة حقيقية للديمقراطية التشاركية والجهوية المتقدمة؛ فلم يمض على انتخابات الجماعات الترابية، وإقرار القوانين التنظيمية المنظمة لها، والقوانين المنظمة لنظام العرائض والملتمسات سوى مدة وجيزة حتى اتضح استغناء المواطنين عن كثير من مقتضياتها التي قُدمت حينها بوصفها آليات للإدماج والمشاركة، وتخلّيهم عن اعتماد كثير من الآليات التشاركية التي تضمنتها، وفي مقدمتها نظام العرائض ويطرح هذا التمسك بالاحتجاج في الشارع أكثر من سؤال حول جدوى المؤسسات الموجودة والقوانين الجاري العمل بها؛ لأنها لم تستطع تحقيق التشاركية والإدماج لفئات واسعة من المواطنين…”. ليختم بالمحور الرابع وهو سمات وخصائص الحراك، وأجمله في ستة وهي: الطابع السلمي للحراك، الطابع الشبابي للحراك، الطابع الشعبي للحراك، الأساليب التواصلية للحراك، طبيعة الخطاب المؤطر للحراك، ثم الأشكال النضالية والتنظيمية للحراك، والتي قسمها إلى أشكال نضالية وتنظيمية جديدة، وحراك غير حزبي، و حراك محلي بطابع وطني وبعد دولي، والمزاوجة بين الراديكالية والمرونة الإصلاحية، والقدرة على الاستمرارية. ليخلص صاحب الدراسة في الأخير إلى أن هذا الحراك “مثّل لحظة أمل جديدة، ومناسبة أخرى لتكسير حاجز الخوف، واستقطاب شرائح اجتماعية جديدة للتفاعل مع الاحتجاجات. كما مثّل مناسبة لتحقيق فرز جديد في المشهد السياسي، وتوضيح حقيقة الاصطفافات السياسية التي تحكم مكوناته”. كما بين أن “الاحتجاجات ذات الأثر الشديد تنشأ في المناطق الهامشية المتضررة أكثر مما تنشأ في المدن الكبيرة والقريبة من المركز، وكشف أن المطالب الاجتماعية والاقتصادية ذات الصبغة المحلية أقرب إلى تحقيق تعبئة وجذب للشعب من أجل المشاركة والتفاعل“، وأظهر أن “الاحتجاجات التي تحظى بتجاوب أكبر هي التي يقودها شباب قريب من الساكنة، بخطاب بسيط، وبوسائل متجددة وغير تقليدية”. وأضاف بأن مخرجات هذا الحراك “تبقى حاسمة في المراحل التي تليه؛ فالسلطة تراهن على الزمن حتى يدخل الحراك في رتابة وخفوت ينتهيان بموته من دون تحقيق أهدافه، وهو ما سيؤدي إلى إحباط شعبي في الريف وخارجه تستمر تداعياته مدة طويلة، وهناك من يراهن على التصعيد المتواصل والصمود لربح الوقت وإنهاك السلطة والأجهزة الأمنية، ورفع تكلفة المقاربة الأمنية، واعتماد أسلوب الاستنزاف، لا أسلوب الحسم“. ليختم مؤكدا أن “هناك من يراهن على القمع المتواصل مهما كلَّف ذلك من ثمن، لتأديب مناطق أخرى بحراك الريف، ويساعده على هذه المقاربة سياق إقليمي داعم، ومساندة رسمية فرنسية، ولامبالاة دولية بما يجري من خروق. ويبقى حراك الريف مفتوحا على كل الاحتمالات، لأن من شأن أيً متغير، مهما بدا صغيرا وجزئيًّا، التأثير في مخرجاته”.