أفادت جريدة لوموند الفرنسية منذ أيام أن محمود السيسي إبن أبيه ورئيسه، وهو في الوقت نفسه ضابط سامي داخل جهاز الاستعلامات المصرية كما كان والده خلال عشرات السنين، يترأس منذ بعض الوقت اجتماعات استخباراتية مكثفة وذات زخم كبير. يبدو أن الهدف الرئيسي لهذه الاجتماعات هي التحضير لحملة دعائية وإعلامية يكون الهدف منها هو تعديل الدستور بحيث يصبح بإمكان الرئيس عبد الفتاح السيسي أن يستمر في السلطة بعد 2022 ممدداً حكمه لأكثر من ولايتين. بل إن بعض أوساط المعارضة المصرية تتخوف من أن يُعلن نفسه رئيسا مدى الحياة كما فعل بورقيبة في السبعينيات. والذي يشيخ في الحكم، والحكم متعب ووساوسه كثيرة، ينتهي بأن يحيط نفسه بجماعات من المعجبين والمصلحين والمحابين و»الرخويات» ليطمئنوه وهم بذلك يخففون عنه ضغوط ممارسة السلطة على أعصابه. إنهم لا يرفضون له شيئا -»هذي فكرة عظيمة يا باشا.. ومفكر فيها كثير أوي أوي أوي». تصبح مثل هذه العبارات المخدرة لازمتهم حتى قبل أن يدققوا في ماهية الفكرة أو ربما قبل أن يسمعوها منه مباشرة. إنهم يستبقون «أفكاره العظيمة» بل قد يحرضونه على أمور لم تخطر له على بال، كتعيين خليفة له من بين ذريته، وهذا من مصلحتهم حتى يضمنون مستقبلهم بعده. أول «المعجبين» الذين يرتبط بهم الرجل وقد ضعف أو بدأ يضعف، بعد الستين أو السبعين، هو الابن البكر أو الابن المفضل الذي قد يفوّض له بعضاً من أعباء الحكم مع ثقة معقولة فالتفويض للرفاق السياسيين مغامرة غير محسوبة العواقب. إنهم محل شك وريبة إذ هم في الغالب منافسون بالقوة. إن الإنسان الغارق في شؤون الدولة عموماً في هذا العمر يكره كل ما يحرق الأعصاب فيبعد المستشارين والشركاء الجديين أو المهنيين ويستكين لمن يدغدغ عواطفه وينبهر بأدائه ويتكلف عن طواعية بشؤونه الشخصية واليومية. يبدو أن الأنظمة السلطوية العربية تخضع لهذا النسق العلائقي البطرياركي أكثر من غيرها في العالم. اعتقد أن ذلك يرجع لعامل أساسي وهو أن المجتمعات السياسية العربية ما زالت تغرف من الأخلاقيات التقليدانية في أغلبيتها، بما في ذلك الجماعات السياسية الحاكمة أو التي تصبو إلى الحكم على أساس إيديولوجيات حداثية. فكلنا يعرف الدور الكبير داخل السلطة وخارجها التي كان يلعبها إبنا صدام حسن، عدي وقصي من دون الحديث عن أبناء عمومته كحسن المجيد وغيره من الأقرباء. الشيء نفسه يمكن ملاحظته على النخبة العسكرية والاستعلاماتية المتحكمة في سوريا منذ بداية السبعينيات. ناهيك عن اليمن الذي حاول الرئيس علي عبد الله صالح توريث ابنه عرش الجمهورية. وكذلك فعل حسني مبارك رئيس مصر حتى الربيع العربي. أما الأنظمة العشائرية بالخليج فالتوريث فيها رسمي ولا يحتاج إلى تذكير. إلا أن السعودية ونظراً للوضع الصحي للملك سلمان فإن «مبدأ الرابط البيولوجي»، وهو أصل الروح العشائرية ومصدر مشروعية النظام الأساسي، قد تم تأُويله بشكل بالغ الضيق. هكذا عيّن الملك ابنه البكر ضارباً بعرض الحائط أعراف العائلة المكتوبة وغير المكتوبة ومغامراً بإضعاف مشروعية النظام أكثر مما هي ضعيفة. وفعلاً فإن «الرابط البيولوجي» وما ينتج عنه من تعلق عاطفي وولاء لمصلحة أو ما يفترض أنه مصلحة أقرب أعضاء الأسرة هو ما دفع الملك سلمان إلى تعيين ابنه محمد الذي يظهر أنه لا يتوافر على أي من مؤهلات الحكم ليصبح ولياً للعهد وحاكماً بأمره يتصرف بعنجهية ومزاجية ونزق في شؤون أغني بلد عربي. وقبل الختام لا بد من التذكير أن المجتمع السياسي العربي كله وليس فقط السلطوي أو العشائري منه، ما زال يعاني من آفة مبدأ الولاء البيولوجي، فالبلدان العربيان الديمقراطيان الوحيدان أي لبنانوتونس لا يخفى على الملاحظ الأثر السيئ لهذا المبدأ داخل الحياة السياسية فيهما. فالكل يعرف الدور الطاغي الذي تلعبه العائلات الكبرى والروابط العشائرية في النسق السياسي اللبناني. وحتى في تونس، وهي ربما البلد الأكثر تقدما على طريق خلق مجتمع الضمير الفردي المتحرر من روابط التضامن العتيقة، لا يمكن إلا نلاحظ أن ابن الرئيس باجي قايد السبسي يتصرف «كبولدوزر» حقيقي داخل حزب الرئيس الحاكم، مستمداً مشروعيته الوحيدة من كونه إبن الرئيس وأن والده يحبه ويتمنى له كما كل الآباء مستقبلاً زاهراً. فمتى سيخرج العقل السياسي العربي من هذه الشرنقة البيولوجية؟