— آسية العمراني وكوثر أبوتير ما الذي تُخفيه الحانات المغربية غير شُرب كؤوس النبيذ؟ وإلى ماذا تنتهي ليالي الرقص والغمز والإغراء؟ كيف يتصيد مرتادو النوادي والملاهي زبوناتهم؟ وكيف تتفنن العاهرات في إقناع الزبون بأداء فاتورة «القصارة» وقضاء الليلة؟ بدأت المغامرة في تلك الليلة الباردة باتصال من طرف صديقنا محمد، يخبُرنا بأنه جاهزٌ لمرافقتنا من أجل مباشرة روبورطاج صحفي، اخترنا أن يكون حول واقع الدعارة في الحانات والملاهي الليلة، فكانت وجهتنا عاصمة الأنوار مدينة الرباط، نكشفُ من خلالها حقيقة هذا النور الغامض الذي ينطفئ بمجرد ما نسبرُ أغوارها ونفكُ خيوط ألغازها المتشابكة، ليبوح لنا ليلها بالكثير من الأسرار. بداية المغامرة.. عقاربُ الساعة تشير الآن إلى العاشرة ليلا، هو عادة موعد عودتنا من العمل إلى المنزل، لكن هذه الليلة تشكل الاستثناء. نتواجد الآن أمام حانة تقع على الساحل، لا صوت يعلو فوق صوت الأمواج وبعض سيارات الأمن الوطني والإسعاف التي تحيط بالمكان، تساءلنا عن سبب تواجدها بكثرة وحول ما إذا كان الأمر يتعلق بمداهمة أمنية للحانة، بالرغم من خفوت الأصوات داخلها، فكان جواب أحد رجال الأمن: لم تبدأ السهرة بعد. غيرنا الوجهة نحو القلب النابض للرباط؛ بين أزقة الجولان، قصدنا حانة صغيرة، بالكاد تعرفنا عليها بالموسيقى الصاخبة التي تجذب كل مار من المكان. الجو مختلف ومختلط، بين رجل ورجل تجلس امرأة، منذ أن وطأت أقدامنا ذلك المكان الشبيه بصالة حمام حي شعبي، سيطرت الدهشة علينا وهو الشعور الذي محا كل معالم الارتياح والمتعة على وجوه الجالسين في الحانة، ربما لأننا نبدو غريبتين، وصديقنا شرع في البحث لنا عن مكان نجلس فيه. دقائقٌ قليلة، دقّقنا في كل العيون والوجوه، كل ما يُؤثث الفضاء هو أجساد المخمورين من رجال ونساء وقنينات الخمر الكثيرة التي ترتعش بين أيديهم على إيقاع موسيقى شعبية يعزفها أحد الشبان. لم تفرغ سوى مائدة صغيرة وسط الحانة، جلسنا فيها من دون أن نثير الشكوك، لكن حدث ما لم يكن في الحسبان. ارتفع صوت سيدة ترتدي فستانا أسود- يبدو أنه من الماركات الرخيصة- وتضع على وجهها ماكياجا لا يثير إلا اشمئزازا ونفورا، لكنه في عادات بائعات الهوى أو في القاموس الشعبي “العاهرات” وسيلة للتواصل مع الزبناء واستقطابهم. بنبرة حادة وبصوت زادت بشاعته كلمات بذيئة، تخبرنا السيدة بأن الطاولة التي جلسنا فيها مسبوقة الحجز، بالقول “حيدو من تما راه البلاصة عامرة، واش بغيتو تديو ليا الكليان”. تنهي كلامها ويأتي النادل ليبحث لنا عن مكان آخر نجلس فيه، لكن لا طاولة فارغة، ولا يمكن أن نظل واقفتَيْن، لأننا في مخيال النساء المخمورات “ننافسهن في جذب الزبائن في ليلة الحظ وهي ليلة السبت”، كما يصرح لنا النادل نفسُه معتذرا لنا عما حدث. غيرنا البوصلة للمرة الثالثة، وغير بعيد عن “الجولان” وعن مسجد السنة، تنقلنا صوبَ ملهى آخر، لكن هذه المرة، في فضاء لا يمكن وصفهُ إلا ب “الراقي” و”عالي الجودة” حسب تصريح محمد، صديقنا الذي اصطحبنا، وهو من الزبناء لهذه الحانات لكنه لم يعد يرتادها منذ أكثر من خمس سنوات. “المغرب غادي فالدعارة والشراب”، يقول لنا محمد، وهو يُحاول الرفع من صوته، الذي يكاد يذوب بين أصوات الرجال وقهقهات النساء التي تحاول إغراء زبناء هذه الليلة، فهذا هو العالم الذي “يُباع ويُشترى فيه الجنس اللطيف”، يُضيف محمد. في هذه الحانة، لا فرق بين الزبناء، والدليل أنه في طاولة يجلس رجلان بملامح إفريقية، وبجوارهما رجلان تتوسطهما فتاة، كانوا ينفثون دخان السيجارة ويقرعون كؤوس النبيذ الأحمر.. يبدو من طريقة تواصلهم التي اقتصرت على لغة الإشارة، أنهم بُكمٌ، فرغم عدم قدرتهم على الكلام والسمع، إلا أن البحث عن “المتعة” تعد “ضرورة” اللغة. وإذا حظيت هذه الشابة بحظ التعرف على الرجلَيْن اللذيْن جلسا بصحبتها من أجل إشباع رغابتهم الجنسية، فإنه في الحانة نفسها تجلس امرأة وحيدة، تشرب قنينة خمر صغيرة، علّق على المشهد محمد بالقول: “إن تلك المرأة تنتظر أن يأتيها زبون يدعوها لشرب قنينة خمر أولا ثم يتفاوضا على ثمن الليلة التي سيقضيانها معا في الفندق المُجاور للحانة أو في منزل الزبون”. إغراءاتٌ وإيحاءات.. الخدماتُ الجنسية المُقدمة في هذه الحانة، ليست للرجال فقط، وإنما للنساء كذلك، فالكثير منهم يأتين ليضعن فتيات في شباك مصيدتهن، وهو ما تعرضتْ له إحدانا، حيث بادرت سيدة طاعنة في السن إلى الابتسام والغمز ثم الإشارة بيدها داعية إلى الالتحاق بها صحبة رفيقاتها اللواتي يُشاركنها الطاولة نفسها المليئة بكؤوس الخمر. بعد كل المحاولات الفاشلة، توجهت السيدة صوبنا، قائلة “تبارك الله عليك الغزالة”، لنكتفي بصمت مطبق دفعها إلى التوجه مباشرة نحو دورة المياه، وأمام هذا المشهد الذي حاولنا فهمه، يقول محمد، ساخرا “هاد السيدة عارفا راسها شكدير، يا إما قوادة أو مثلية”. بقيت الفرضية مُعلقة، إلى أن عادت السيدة إلى مكانها، وقبل أن تجلس، مدت يديها على عنق الفتاة التي تجلس معها ثم أطبقت شفتيها على وجنتيها بطريقة ذات إيحاء جنسي لا يمكن التشكيك فيه، ليثبتَ أنها مثلية. طلبنا من مُرافقنا محمد، أن يغادرنا ثلاثين دقيقة، لنُعاين ما سيحدث، لأننا في نظر الجالسين “هوتة” فاز بها الرفيق، وتعني في قاموس الخدمات الجنسية “سلعة مضاعفة فاز بها السكير”، وقد تخلق المنافسة بينه وبين السكارى الآخرين. لم نكن نظن أنه في مكان كالحانة يُمكن أن تُلقى التحايا، غير أنه دائما في عالم الخمر والبغاء كل شيء ممكن ومباح، لأنه بلا شك، وسيلة لاستدراج ممتهنات الدعارة. ولم تمر سوى خمس دقائق حتى صرنا فريستين تتربص بهما نظرات رجل دخل الحانة وألقى السلام على الجميع، أما نحن فكان لكلامه معنا مختلفا، مرددا مرتين” تشربو شي قرعة معايا الزوينات البوكوصات”. شكرنا دعوته لنا، لكنه أصر على إقناعنا، محاولا التغزل بإحدانا قائلا “عويناتك غزالات، أنا متأكد شي نهار غنشوفك فهاد البلاصة، واغير أجي نشربو بجوج ولي حبيتي هو لي يكون”. لم يكن السكير، طالب الجنس، يعرفُ هويتنا، لكن المعروف في مثل هذه الفضاءات أن كل رجل يبحثُ عن الجنس، وفي المقابل تستجيبُ النساء لرغبته بثمن محدد يتفقان عليه، لذلك حاول الرجل التقرب من “الهوتة” والفوز بها. لم تمر سوى عشر دقائق حتى انتبه ساقي الخمر بالحانة إلى غياب صديقنا محمد، توجه إلينا بالسؤال التالي “فين مشا خونا لي كان معكم؟”، أجبناه، بدون أن نعرف خلفية سؤاله، بأنه خرج ليجري مكالمة هاتفية ويعود، وبعدها تمتم بكلام لم نفهمه، ربما هو معجم خاص بهذا المكان فقط. في ركن آخر من الحانة، يجلس شاب وحيدا، ينتظر أن يأتيه النادل ليلبي طلبه، وهو ينتظر، يُلوح إلينا بيديه، كأنه يستشيرنا في القدوم إلينا، ولم نتردد في الابتسام في وجهه، حتى يتشجع ويأتي. يعود محمد، يسألنا عما حدث، نحكي له ويوضح لنا سبب سؤال النادل عنه بالإجابة “راه كيخافو يهرب الكليان بلا ميخلص، كيوحل الشراب فالبنات وكيخرجو تاهوما بلا ميخلصو وكيتلاقاو برا وكيمشيو معاه”، مُضيفا بأن هذا السلوك “يُنجيهم” من أداء الفاتورة، بالإضافة إلى أجر حارس باب الحانة، أي “الفيدور”. بورصة الخمر والدعارة! تتجه عقارب الساعة إلى الانتصاف، وفي الوقت نفسه “الفلوس كضور صحيحة” حسب تعبير محمد، الذي حكى لنا عن جزء من مغامراته الليلة في الملاهي والحانات، إذ كان يعاينُ إقبال بائعات الهوى عليها، حيث تتغير أسهمهن في “بورصة” الخمر والدعارة، لتنتهي ليلتهن بين جدران فندق أو منزل الزبون، يُلبين طلب الجنس ويأخذن المُقابل، إنه الخمرُ الذي يُلازم البغاء. ليس سهلا على روادِ الحانات ومُدمني الخمر والبغي أن يضعوا حدا لهذا الوضع، غير أن خديجة، ذات الخمسين سنة، بتجاعيدها التي أخفت جمالها، استطاعت أن “تستقيل” من “البارميطر”، هذه المهنة التي دفعتها لقضاء ما يُقرب عشرين سنة داخل جدران حانات مدينتي الرباط وتمارة، حيثُ اشتغلت ساقية للخمر ومُرافقة لزبنائه، وفي تجارب أخرى داعرة ولها في اختيارها كل المبررات الاجتماعية كما تقول. “خدمت من 1993، كنت كنخوي البيرة للكليان واخا فالأول مكنتش كنعرف نحلها ولا حتى كغندير باش نعقل عل الكليان يلا هرب ليا بلا ميخلص”، تحكي خديجة بندم على مهنة أجبرها على مُزاولتها طلاقها من زوجها وحملها بابن، لم يكن له مُعين سواها، فاختارت أن تدق أبواب الحانات. ظروف العمل في الحانة، بالنسبة إلى خديجة، كانت جد صعبة ومعقدة، بالنظر إلى قلة خبرتها والتنافس وأحيانا إلى الحقد الذي يتفشى بين “البارميطات” اللواتي يعملن في الحانة، وأيضا بسبب من ستحظى بدعوة زبون، تُنهي معه الليلة “الحمراء” مُقابل كل ما يشتهيه، وتحصل هي الأخرى على نصيبها من المال. وعن المقابل المالي الذي تحصل عليه الباغيات، تقول خديجة “كاينين البنات لي كيتنقلو من بار لبار آخر باش يلقاو الزبون ويتافقو معه على الثمن لي كيبغيو، وغالبا 300 درهم للفوق، على حسب الزين ديالها والسن أيضا”، مستدركة أن الكثير من بائعات الجسد يُحاولن السطو على مال الزبون إذا أغرقَ في سكره، إما بسرقة ماله من دون أن ينتبه، أو بالتجرؤ على استعمال قطرات بعض الأدوية ووضعها في كأس النبيذ الخاص به، فيغيبُ الزبون عن وعيه وتنصرفُ من بيته بعدما تستحوذ على ممتلكاته المالية. رَواجُ المال أو “عمر” بلغة مُرتادي الحانة، لا يحقق دائما العدل بين الجميع، فإذا استثنينا الاتفاق بين الزبون و”البارميطة” أي ساقية الخمر لإكمال دعوتها إلى بيته من أجل ممارسة البغي، فإن هذه الأخيرة لا تربح سوى دريهمات تجنيها بعد مجالسة الزبون، الذي يؤدي في النهاية ثمن كل كؤوس الخمر والنبيذ، وهو ما تؤكده خديجة بالقول: “إذا عرض عليا شي كليان، كيحسبو ليه للكأس لي كنشرب أنا 25 درهما وهو غير 12 درهما”، مُضيفة، وعلامات الحزن بادية على وجهها، “أنا كنربح 3 دراهم فكل كاس”. لم تكن 600 درهم التي تتقاضاها خديجة بشكل شهري من عمل سقي الخمر في الحانة كافيا لتغطية احتياجاتها الأسرية، فكانت تقوم بطرقها المُغرية، كما تبوح لنا، بالتقرب وجذب انتباه الشخصيات الكبرى التي كانت تتوافد على الحانات، ملبية احتياجاتهم الجنسية مقابل أموال تكفيها من أجل العيش. ليلُ السكارى لا نهاية له.. قريبا من هدوء البحر، يوجد صخبٌ غير معلن عنه، لا ينكشفُ إلا عندما تطأ قدماك الملهى الليلي بفضل جدرانه عازلة الصوت. استطعنا هذه المرة أن نظفر أريكة مريحة مصنوعة من جلد يعكس رقي رواد المكان، غير أن ما يؤثث الملهى ليس هو العنصر الوحيد الذي يميز الفضاء، فمن يستقبل طلبيتك هذه المرة ويحضرها هي نادلة، تضع الكثير من مساحيق التجميل، ترتدي ملابس ملتصقة تبرز كل عضو في جسدها بشكل مثير، يدفعُ بالسكير إلى الإكثار من طلبيته فقط لانتهاز فرصة الحديث إليها والتغزل بجسدها، وربما الظفر بليلته معها، حين ينتهي توقيت عملها. توجهت إلينا إحداهن بالقول “مرحبا بيكم شنو تشربو”، أجابها محمد” ثلاثة سبيسيال”، وأضافت بنبرة حادة “لكن أسيدي راك شاد طبلة”، ليُقاطعها “من بعد وناخذ الروج”. ذهبت وبعد دقائق قليلة عادت إلينا بطبق فواكه متنوعة قائلة، بابتسامة “هادي من عندي ليكوم بالصحة، هاهي الكوموند غتجي دابا”، انتهزنا الفرصة لتشتيت نظرنا على المكان، ومن أول نظرة لاحظنا بأن هناك فتيات صغيرات السن في كل زوايا الملهى، بل توجد مجموعة من ست فتيات قرب منصة المغني، تجلسن، شبه عاريات، فخوذهن مثيرة وصدورهن شبه مكشوفة، يبعثن بقبلات للرجال الجالسين قربهن، يرقصن بعد نفاذ كؤوسهن، أما نظراتهن فهي على تعبير محمد “تثير الزبائن وتتصيدهم”. وعلى خلاف الحانات التي زرناها، بالرباط دائما، حيث يبتسم بعض السكارى والبعض الآخر يغرقُ في التفكير لأجل مضاعفة حظه لنيل باغية، فالأمر في هذا الملهى مختلف، الكل سعيد وفرح، يرقص السكير بجنون وبمتعة مضاعفة، كأن حظه في الظفر في نهاية الليلة بباغية ثابتٌ. الساعة تُشير إلى الواحدة والنصف بعد منتصف الليل، محطتنا الأخيرة كانت ملهى من صنف خمس نجوم، حسب تصنيف محمد، يصعب الولوج إليه، إن لم يكن السكير من أصحاب السيارات الفارهة التي يلمحها الحراس من بعيد، ولحسن الحظ أن لصديقنا قريب يعمل مديرا للملهى، فاستطعنا الدخول، لاكتشاف دعارة الفتيات اللواتي لا يتجاوزن 20 سنة. رائحة “الشيشة” تطغى على المكان، وفي كل ركن تنزوي شابة صغيرة برجل غالبا ما يظهر فرق السن بينهما كبيرا جدا، استطعنا الجلوس في مكان مريح يلتقط كل زوايا الملهى، فلاحظنا بأن مقاعد الجلوس معدودة على رؤوس الأصابع كما الزبناء، استفسرنا عن الأمر، فأجابنا محمد “هنا البلايص كتكون محجوزة للناس الكبيرة، كل واحد كيجيب بنت أو كيجي يضبر على شي وحدة هنا، كيشيشو ويبداو السهرة هنايا وكيكملوها فالأوطيل”. السهرة هنا بتعبير محمد، ليست فقط الرقص وشرب الخمر وتدخين “الشيشة”، ولكنه أيضا الجنس كما يحلو لممارسيه تسميته، لكن الحقيقة أنها “الدعارة”، بعدما يُشترى الجسد بثمن مقابل ليلة، وفي هذا الفضاء مقابل ساعة، إنها حقيقة بورصة الجسد. — طالبتان صحفيتان بالمعهد العالي للإعلام والاتصال