كلما علمت بصدور عمل روائي جديد للصديق حسن أوريد، تساءلت: أي جانب سيتناوله حسن من جوانب مروره بدار المخزن، التي غشيها صبيا بدويا، ولازمها إلى أن اشتد عوده وانكسر داخلها، فحمل بعضُه بعضَه، واضطلع بأمر جبره بعيدا عن السلطة؟ ولعل ما كنت أقوله لأوريد، في كثير من لقاءاتنا الخاصة، عن أن سر انبعاثه خارج دار المخزن يعود إلى أنه انتقل من سلطة السلطة إلى سلطة الثقافة، له نصيبه من الصحة. فإذا سلمنا بأن تميزه الذهني هو الذي كسر مساره السلطوي، فمن المؤكد أن ذلك التميز الذهني والثقافي هو الذي عضده وجبر كسره، تماما بالمعنى الذي يتحدث عنه أبو نواس بقوله: «وداوِني بالتي كانت هي الداءُ». أي جانب سيتناوله حسن أوريد من جوانب مروره بدار المخزن؟ تساءلت عندما أهداني روايته الجديدة «رباط المتنبي»، فالرجل أخذ على نفسه مهمة تضمين كل عمل سردي له شهادةً من تجربته الحياتية المتناقضة بانسجام. وسرعان ما جاءني الجواب في الصفحات الأولى من الرواية الجديدة، ناطقا بخفايا علاقته المتذبذبة بالقصر: «كنت أعيش بواشنطن.. وأدخلت المغرب لأنني كنت متهما بالتآمر على الدولة، وربط صلات مع أعدائها، وعدم الإيمان بما توطأ الناس عليه». هكذا هو أوريد مثل دوستويفسكي، الذي يكرر، في أغلب أعماله، مشهد الحكم عليه بالإعدام، وكيف أفلت منه في آخر لحظة. لكن أوريد، كما يشير إلى ذلك في الرواية، أفلت من قطع الأعناق دون أن يفلت من قطع الأرزاق، بسبب وشاية وصلت إلى ولي العهد (محمد السادس) عن أنه كان على اتصال بالأمير مولاي هشام، عندما كان يشتغل في سفارة المغرب بواشنطن في عهد السفير محمد بنعيسى، وهو الأمر الذي ظل أوريد ينفيه. «كان ينتظرني واقع كالح وقد عدت إلى الرباط، من تخرصات عمالة وأنباء خيانة ونضوب مورد رزق». في «رباط المتنبي» يحفر أوريد عن السبب الرئيس الذي جعله، منذ كان طفلا بالمدرسة المولوية، يعيش داخل القصر الملكي، كما يقول المتنبي، «على قلق كأن الريح تحتي»، إنه أصله الأمازيغي الذي تسبب له في «تلك الندوب الغائرة التي يسميها الفيلسوف Avishai Magalit بندوب الاحتقار»، يقول: «هزئ مني، ولم تُوفّر لا أصولي الصحراوية، ولا لساني الأمازيغي. جرى التحامل علي، مع الاختلاق والافتراء.. كُذب علي. أجهز على مساري المهني». بعد «محنته» الأولى، سيصبح حسن أوريد ناطقا رسميا باسم القصر الملكي، مع مقدم الملك الجديد إلى الحكم. «خريف 1999، وكنت حينها من علية القوم. عهد جديد تصالح فيه المتناحرون. ولم أكن ممن تصالحت معه المنظومة فحسب، بل كنت من ذؤابتها وقطبا من أقطابها». لكن أوريد، الذي تدرج في مسالك السلطة ناطقا رسميا باسم القصر الملكي فمسؤولا ترابيا بوزارة الداخلية ثم مؤرخا للمملكة، سرعان ما سيجد نفسه مغضوبا عليه، ليلوذ بالنقد الأقرب إلى سلخ الجلد، خصوصا لتجربته مؤرخا للمملكة: «كنت خادما عند الحاكم بأمر لله وقد ولاني، أصلحه لله، خطة الكتابة.. ثم شفع، عزّ عُلاه، فعهد إلي بسيرة عترته السَّنِية.. بمعنى أن أكتب صحفا مطهرة عن حياة غير مطهرة، وأن أصرف طاقتي، دام سناه، للوشاية والدسائس والاختلاق.. فأنتظر النهار كله، وإن تقضّى شفعته بيوم ثان، وإن لم يسعفه ظرفه، زدت ثالثا، ولِم لا عُمرا، إلى أن يعنَّ يوما ما فأرتمي على قدمه، أو أقبل رجله، وأتشفع به، فيربت علي، وأعلم إذّاك أني قد نلت رضاه، وحزت عطفه، فتهون الدنيا عندي، وأنسى ما كنت أريد بثّه. وما أنسانيه إلا طول الانتظار». هكذا بدأت «محنة» أوريد الثانية مع دسائس زملائه «حاشية الحاكم بأمر لله، أدام لله علاه، كانت تدرك خطورة أن يُسند إليّ تدوين السيرة العطرة، من عوالم عطنة، فجرّدتني من القلم لكي لا أخطّ شيئا، وعهدت إلى بعض الكتبة والنساخين والمتشاعرين والمتصاحفين، في زمن الكمبيوتر، بتدوين ما ينبغي تدوينه وتجميله وتحميله… أتعبتني قصص البلاط ودسائس البلاط». فهل تجربة حسن أوريد المهنية هي ما يشرح انثناءه على المتنبي وملازمته؟ تتساءل إحدى شخصيات الرواية، فيأتي الجواب من شعر المتنبي: «إذا ترحّلت عن قوم وقد قدروا.. ألا تفارقهم فالراحلون همُ»، ثم يضيف: «كنت مستعدا لأن أقبل كل شيء، سواء نهايتي أو مهانتي، لأن المهانة نهاية». في هذه الرواية يقف حسن أوريد عاريا، كما لم يحدث في سوابقه الروائية، لكنه كان يتعرى ويُعري معه بنية «الأصالة والمعاصرة» التي تؤطر الحكم والحاكمين، من زملائه السابقين، الذين بالرغم من أنهم درسوا في كبرى الجامعات، فإنهم بقوا حراس بنية تقليدية: «ما جدوى أن تحدثهم عن لوك وروسو ومومنيسكيو؟ هم درسوا ذلك بالجامعة في السوربون وكامبردج وجورج تاون، لكن الجامعة حلم، حلم في الكرى. وما ليس حلما هو طيف الحاكم بأمر لله، دام علاه، وهو طيف الحاجب المنصور بالله، سدد الله خطاه، وهو طيف صاحب الشرطة، المؤيد بالله، ترِبت يداه، وهي الرعية المستكينة لمن اختارته العناية الربانية، فاجتبت لها من يسوسها، وعليها أن تخضع له وتطيعه، لأن من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة الجاهلية، والعياذ بالله… هكذا، في زمن حقوق الإنسان، وتوازن السلطة، والثورة السيبرنطيقية، تُحكم شعوب بالنزوات والأهواء». وإذ تعرى حسن أوريد، وعرى البنية التي خبرها جيدا، في هذه الرواية التي استعان فيها بالشاعر الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، فلم يبق أمامه سوى أن يقترح النموذج الذي من شأنه أن ينقلنا إلى بنية أخرى: «الأمم التي تقدمت تعقبت الأشباح وأزاحتها. الروس قالوا قولتهم، من يخدم القيصر لا يخدم بلده، ومن يخدم بلده لا يخدم القيصر. انتبهوا إلى هذا الأمر المسلّم به، وهو أن البلدان ليست ضيعات شخصية لحاكم أو أمير، يفعل فيها وبأهلها ما يشاء، ويورِّثها أهله». الرواية، التي تدور أجزاء كبيرة منها في مستشفى للأمراض العقلية، تكشف صفحاتها الأخيرة أن المارستان ليس سوى كناية عن وطن جرى تخدير مواطنيه: «إنكم ترتكبون جريمة في الرباط في حقّ نزلائكم بتخديرهم. ولم أكن أعرف ذلك إلى أن التحقت بالمجانين، ووجدت أنكم من خدّرهم».