نشرت جريدة «الصباح» رسالة مطولة من حسن أوريد إلى رشيد نيني، وهي رسالة تنتمي إلى زمن نقائض جرير والفرزدق، غير أن ما يفقدها قيمتها الأدبية -بالمفهوم الأخلاقي- اليوم كونها تأتي في إطار مجازر سياسية بين أطراف كان من المفترض أن تكون في خندق واحد، لولا كيد الكائدين ودسائس المندسين، لذلك وجد الفاسدون ضالتهم في أديب وشاعر وفقيه من فقهاء المخزن الحديث ومثقفيه، الذي انبرى يرد على رشيد نيني في ما عجزوا عن فعله منذ زمان، واعتبروا أن اتهامه للرجل بالعمالة للمخابرات سند ليس بعده سند وتأكيد لا يضاهيه دليل وشهادة عدل على ذلك الانتماء الذي يفسر للشعب كل هجوماته على مليارديرات النهب والتبييض، فلم يعد هناك من شك في أن رشيد نيني عميل لرجالها المضطربين والبراغماتيين والشيطانيين الذين يبيعون القردة ويضحكون على من يشتريها، وهو الرجل «العارف» بكل ذلك حق المعرفة، بحكم كونه أحد أبناء الدار، المطلع على خباياها وأسرارها. وحتى لا تغطي حرارةُ الخطاب «شبه الديني» على سلامته اللغوية وشعبويتُه الناعمة على أدبيته الغائبة، دعونا نحلل قليلا البنية اللغوية والدلالية لخطاب هذا المثقف التليد والمتنبي الجديد، الخارج لتوه من دار المخزن، في سياق توبة ثيوصوفية، نتمنى لها أن تكون صادقة ودائمة. السؤال الأول الذي يطرح نفسه من خلال طريقة إخراج الرسالة هو: هل الرسالة خاصة بأوريد الفرد وموجهة إلى رشيد نيني المنفرد أم إنها تستهدف نقاشا عموميا دائرا وخطا تحريريا ومنهجا صحفيا برمته، وتتغيا وصول شظاياها إلى كل من يهمهم الأمر؟ والسؤال الثاني هو: هل الرسالة صادرة عن الكاتب والشاعر والمثقف حسن أوريد، وهي بذلك ملك «أدبي» لكاتبها، أم إنها هبة من سيادته، تفضل بها لخدمة كل من يتلقفها أو ينشرها أو يوظفها، وتصب في مصلحة كل من كتب عنهم رشيد نيني وعن فسادهم؟ وحين نتحدث عن كل مَن نشر الرسالة، فإننا لا نقصد جريدة «الصباح» وحدها، بل تلك التي أعادت نشرها أو ترجمتها وعشرات المواقع التي تلقفتها أو التي انبهرت بغزارة ثقافة الرجل الذي وظف كل مخزونه فيها، من أجل قصف غريمه. هل يعي رجل الدولة والناطق الرسمي باسم القصر الملكي -ولو سابقا- أن رسالته هاته، وفي هذا الظرف بالذات، تأتي كهدية مجانية للكثير من الفاسدين الذين نشرت جريدة «المساء» مقالاتها عن فضائحهم، وأنه يصطف موضوعيا بجانب هؤلاء ضد حرية التعبير، التي ينظّر لها، بهجومه على صحيفة وطنية. أعتقد أن حسن أوريد لا يزال يفكر بمنطق الشخص المتعالي عن النقد، وربما فكر في كتابة رسالة في شكل قصيدة مثل لبيد، لولا أنه اكتشف أن لبيد بن ربيعة، رضي الله عنه، لم يكتب بعد إسلامه إلا القليل، فاكتفى بالاستشهاد بالشطر الأول من بيته الشعري الذي يقول: ألا كل ما خلا الله باطل وتغافل عن الشطر الثاني الذي يقول فيه: وكل نعيم لا محالة زائل لأن رمزية الشرط الأول تكمن في الثاني منه. ويبدو أن أوريد حاول أن يهجو «المساء» بقصيد لم يأت به شاعر قبله، يمتح من قوافي القريض الجاهلي وأنانيات المتنبي وخمريات أبي نواس وشعرية خليل مطران، ويجمع، كحاطب ليل، بين صوفية المسيح وشيطانية فاوستوس وعذرية هيلينا الحسناء، التي تشبه بالمناسبة في حسنها حسن أوريد، فهو كالنبع الفياض بالحياة الأبدية، فجاءت قوافي شعره تحني رقابها وعافته القوافي فأقصرا. بدأ أوريد رسالته بصورة شعرية غير موفقة حول ثنائية النور والظلام، ليقول إن غبش «المساء» قد غشيه الظلام، متناسيا أنه يطل علينا بطلعته البهية من خلال جريدة «الصباح»، وجاهلا أن الغبش عند العرب هو ظلمة آخر الليل وأول الفجر، حين يكون الظلام مخلوطا ببياض «الصباح»، وفي الحديث، أيها الفقيه المتمرن، أنه صلى الفجر بغبش. ويستمر حديث صاحبنا عن الظلام، إيحاء بظلامية جريدة «المساء»، في حديثه عن علاقة نيني بخفافيش الظلام، تلك الخفافيش التي يخبرنا بأنها هزمته في معارك خاضها دون أن يسمع عنها أحد، وعن «قلاع الزيف التي تتهاوى يوما عن يوم، وعن الحقيقة تطاردها في عزم وإصرار، وتزحف نحوها زحف النور على الظلام...». أما عن استعاراته اللغوية الفاشلة، فتبدأ حين يتنازل أوريد «وهميا» عن ممتلكات «حقيقية» لرشيد نيني، ويعطيه إياها «جزاء وفاقا» بتعبير الساخر المستهزئ، في موضع الاستعارة من القرآن الكريم، في قول الله تعالى متوعدا الكافرين بأنهم سيكونون في نار جهنم خالدين فيها «لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا إلا حميما وغساقا، جزاء وفاقا»، فيكون الجزاء على أعمال القوم في الآخرة وفاقا لأعمال السوء التي قاموا بها في الدنيا، نسأل الله السلامة والعافية. كما نسي فقيهنا الحداثي أنه، بهذا «المن الادعائي»، ينعم على رشيد نيني بالقول دون العمل، فيكون بذلك كمثل «صفوان عليه تراب»، والعياذ بالله. إذا كان صاحبنا يحاول أن يوهمنا بأنه قد التحق بدراويش الطريقة ممن يسهرون ليلهم في التعبد والتهجد ويظمؤون نهارهم في صيام النفل ويكتفون برغيف خبز وتمر، وبأنه لم يعد يعبأ بمتاع الدنيا وصار يهزأ من حطامها، بعدما كان فقير الروح فأصبح الآن غنيا حقا، فإننا نهمس في أذن الرجل لنقول له إنك لم تصب الرمية، ففقير الروح يا سيدي المتصوف المبتدئ هو الإنسان المتواضع، وفقر الروح هو على عكس الفقر المادي، وكان عليك أن تقول إنك أصبحت فقير الروح، لا أن تنكر على نفسك ذلك، فكأني بك تقول من حيث لا تعلم إنك صرت متعجرفا متكبرا معتزا بنفسك، وكما يقول شيوخك فإن لكل قول حقيقة. إذا كان رشيد نيني يعتبر «حاكي الصدى»، في اعتقادك، فستكون أنت «صوت الحق»، وكأني بك تنصب نفسك متنبي زمانك حين قال مزهوا مغرورا: ودع كل صوتٍ غير صوتي فإنني أنا الصائح المحكي والآخر الصدى فقير الروح يا متنبي العهد الجديد هو الذي تخطى الأنا والأنانية وحب الذات، ولم ينظر إلى نفسه بنرجسية مرضية، معتقدا أنه الحسناء البتول في هودجها ليلة دخلتها، فأنت لست فقير الروح كما تقول، وأنت لست بالحسناء العذراء أيضا. لست أدري لماذا تذكرني إحالة السيد أوريد على جذوره الفيلالية من جهة الأب وأصوله الأمازيغية من جهة الأم والأخوال، بخطاب سيف الإسلام القذافي وهو يؤجج بغباء ثورة الشعب الليبي ضد أبيه، وكيف أن أوريد، بإشارته إلى صمود الشاعرة تاوكرات نايت عيسى في وجه الاستعمار، خلع عنه لباس الزاهد المتصوف فجأة ولبس لباس دكتور العلوم السياسية. إذا كان حسن أوريد يتهم رشيد نيني بالإرجاف، فلأنه يجهل معنى الإرجاف، كما يجهل اسم الحسناء التي أحبها فاوستوس. الإرجاف يا سيدي، والمرجفون في المدينة، هم أولئك المنافقون الذين كانوا ينشرون الإشاعات وسط المسلمين، من أجل تخويفهم من الجهاد، أي -بلغة العصر- هم أولئك المندسون وسط الشعب من أجل الدعاية للعدو وزرع الفتنة وسط العباد، فالإرجاف عمل مدبر ضد أمة المسلمين وليس ضد فرد زاهد في الدنيا مثلك، ولا يحتاج إلا إلى رغيف خبز شعير وتميرات، وبذلك فرشيد نيني يتعرض للهجوم من طرف أمثالك، لأنه يفضح المرجفين الذين ما إن لفظتهم السلطة وفقدوا الشعور بالعظمة والحركة، حتى صاروا يرون أنفسهم كمتخلى عنهم أو كسقط متاع بلا إرعاء، واكتشفوا ذاتهم الجريحة في شخصية فاوست في مسرحية غوته. أما إذا كنت يا سيد أوريد تعتبر أن الموقف المعارض لدعوات الخروج إلى الشارع، أو بالأحرى المعارض للركوب الانتهازي على حركة شبابية مواطنة، إرجافا فما عليك إلا أن تكشف عن ذلك بشجاعة، لا أن تتخفى وراء هجوم غير مبرر على رشيد نيني. عيب عليك أن تتحدث عن هراش الجراء وأنت تمارس حقك في الرد على ما تعتبره مسا بشخصك، لأن هراش الجراء -«أبناء الكلاب»- وهو تحرش بعضها ببعض، وهو مذمة لنفسك قبل أن تكون لغيرك.