لم يكن الدافع الرئيس للخروج والاحتجاج غضبا في الشوارع والساحات الباريسية، وفي كل مقاطعات فرنسا إلا طفوح كيل الفرنسيين إزاء ارتفاع أسعار الوقود والغلاء، لتلحق بهما هتافات مناوئة للسياسات الضريبية الفرنسية، وعلى المنوال نفسه امتدت الاحتجاجات في دول مجاورة كبلجيكا، وبشكل أقل في هولندا وألمانيا، وأيضا في إقليم كاتالونيا في إسبانيا. وفي الجهة المقابلة، كان الوضع الاقتصادي والاجتماعي بالمغرب المحفز الأهم للخروج إلى الشارع والاحتجاج شهورا طويلة، مثل حراك الريف وأسابيع في جرادة، وكذلك في زاگورة وغيرها من المناطق التي شهدت احتجاجات شعبية في المغرب، سنوات قبل ذلك كسيدي إفني وصفرو وخريبگة، وبوعرفة وتازة.. إلخ. وفي هذا الصدد، يرى الناشط السياسي والحقوقي فؤاد عبدالمومني، أن الاعتباط لا وجود له في الحركات الاجتماعية، مشددا على أن كل شكل من أشكال الاحتجاجات يختلف باختلاف الشروط التي دفعته للوجود. وأضاف عبدالمومني أن هناك تقاربا بالنسبة إلى المظاهرات في فرنسا وفي المغرب في مشاعر الغبن الذي صار يتقوى في أوساط المجتمع، وفي تضاؤل ثقة المجتمع في النخب التي تمثله، وفي المؤسسات، وهو الأمر الذي صار يدركه الجميع بوضوح أكثر فأكثر. كما أن الحركات الاجتماعية لا يمكن تحديدها بما هو مُطلق، فحسب المتحدث ذاته، فإن المعطيات تختلف حسب كل شعب، فالشكل الذي يرى به الفرنسيون وضعهم وطموحاتهم، وأيضا ما يمكن أن يتعرضوا له مستقبلا، ليس هو المنظار نفسه، الذي يرى به المغاربة أنفسهم. ويُفرق عبدالمومني بين المغرب وفرنسا في أمور أخرى، فهناك في الجمهورية شعور بأن المشكل عام، وبأن حلوله لن تكون إلا عامة، انطلاقا من سياسات عمومية واضحة، كالحديث عن سن التقاعد والسياسة الضريبية، وأسلوب توزيع الضغط الضريبي بين الأغنياء والفقراء، وغير ذلك من الأمور المعبرة عن سياسات الدولة العمومية. أما في المغرب، الذي يؤكد الناشط الحقوقي بأن فكرة مقارنة ما يجري فيه مع دول كفرنسا أمر صعب للغاية، إذ مازالت الأمور فيه تسير بالمنطق الذي أنشأت عليه الدولة شعبها، أي الاهتمام والمطالبة بتحقيق مطالب فئوية ومحلية، فحراك الريف واحتجاجات جرادة وثورة العطش في زاگورة تمحورت حول مطالب محلية. ودعا عبدالمومني إلى العودة إلى سنوات قليلة قبل ذلك، ففي سنة 2011 لوحظ أن الدولة حاولت إخماد المظاهرات الشعبية التي عرفها المغرب، وذلك بتقديم تنازلات اجتماعية باتباع سياسة التوجه نحو كل فئة، وإغرائها بتحقيق مطالب محلية، فمثلا المناطق الفوسفاطية، دُفع ببعض المواطنين للمطالبة بالتوظيف في المجمع الشريف للفوسفاط..، وبالتالي إبقاء المطالب في حدود ما هو محلي وخاص، والعمل على تفادي ما قد يكون ذا طابع سياسي وعام. وهذا الأسلوب مازال معتمدا حتى اليوم في المغرب، حسب الناشط السياسي الذي يعتقد أن هذا الأسلوب لن يُعمر طويلا، لأن الدولة وصلت اليوم، إلى الحدود التي ما عاد بإمكانها تحقيق المزيد من المكاسب الفئوية، لذلك صار فتح نقاشات شفافة حول التوجهات السياسية الوطنية ضرورة ملحة. وبالعودة إلى حركة السترات الصفر، يعتقد الباحث الفرنسي المهتم بالشؤون الفرنسية والدولية بيير لوي رايمون، أن مسألة رفع أسعار الوقود وما تلاها من مطالب، دفعت بالمواطنين إلى الخروج إلى الشارع للفت انتباه الرئاسة الفرنسية التي يعتبرها البعض في فرنسا، نائية بنفسها عن الاهتمامات اليومية للمواطنين، وبالتالي، كان لا بد من ابتكار وسيلة احتجاجية غير مسبوقة، تمثلت في الخروج بسترات صفراء. وبخصوص الجانب التنظيمي للاحتجاجات الفرنسية، قال رايمون إن بعض الوجوه القيادية بدأت تتضح في المظاهرات، ويقصد بذلك سائق الشاحنة إيريك دروي وبائعة أدوات تجميل بريسيليا لودوسكي، اللذين اكتسبا شهرة في الأوساط الفرنسية بفعل إطلالاتهما المتكررة عبر وسائل الإعلام الفرنسية. ويعتقد الأكاديمي والإعلامي الفرنسي أن بصعود لودوسكي ودروي، صعد مواطنون ينتمون إلى شرائح من الطبقة الوسطى في الجمهورية، والذين تمكنوا من جمع عدد من أقرانهم حول مشروع أريد به في البداية، أن يسير في اتجاه “مجلس الشعب”، الأمر الذي أعطى زخما لأهم المحطات المطلبية في تاريخ الحركات الاجتماعية في فرنسا، بداية بالثورة الفرنسية، مرورا بالجبهة الشعبية في الجمهورية خلال ثلاثينيات القرن الماضي، وانتهاءً بما تعيشه فرنسا اليوم. ويعتبر رايمون أن تراكمات السنين كانت سببا في السياسات الضريبية، الأمر الذي جعل الدولة الفرنسية بطلة في الاقتطاعات الضريبية، إذ يرى بأن رفع الدولة يدها تدريجيا عن دواليب الاقتصاد، الذي مافتئت تتحكم فيها بشكل تقليدي، أمر يستدعي الانخراط في مسار شاق وطويل من الإصلاحات، لإعادة فرنسا على سكة التنافس الاقتصادي الدولي، وهذه هي النقطة التي يعتبرها الأكاديمي الفرنسي بيت الداء، إذ يعتبر استحالة بما كان تمكين فرنسا من ريادة صناعية وخدماتية وتكنولوجية فائقة، دون التصدي للمديونية، المشكلة الأولى للبلد. هذه الأخيرة تبقى، حسب المتحدث ذاته، نتاج سنين من المماطلة والتهور، إذ كان هناك تأخير كبير في القيام بالإصلاحات التي يجب القيام بها بشكل فوري من طرف رؤساء فرنسا الذين سبقوا إيمانويل ماكرون. ومن هنا، يعتبر رايمون تفشي الشعور بالغبن بين فئات واسعة من الشعب الفرنسي، والذي لم يتولد جراء وجوب دفع الضرائب بشكل مبدئي، لأنه يشدد على أن فرنسا ليست ذاك البلد العصي في هذا الجانب، كما قد يتصور البعض، لذلك فمشاعر الغبن نجمت بشكل أساسي عن الشعور بأن توزيع الضرائب يتم بشكل سيئ، إذ لا يستوعب معظم الفرنسيين مثلا، كيف يمكن إلغاء الضريبة على الثروة، بدعوى أنه إجراء سيمكن من مضاعفة فرص العمل المتاحة، يقول رايمون. ويؤمن الأكاديمي والإعلامي الفرنسي بأن أي حراك شعبي له ثوابت عابرة للحدود، وهي البؤس، وضيق ذات اليد، والفساد وهي أمور تطال المجتمعات، لكن بأشكال متفاوتة. في المقابل، يرى الصحافي والخبير في الشؤون الأوروبية المقيم في بلجيكا، علي أوحيدة، أن الاحتجاجات حصلت نتيجة خيبة أمل، لأن الرئيس الفرنسي إمانويل ماكرون لم يحقق وعوده الانتخابية بشكل أساسي، مشددا بأن “السترات الصفر” تبقى بلا تنظيم ومن دون أي انتماء حزبي معين، رغم أن الأحزاب اليمينية تحاول احتواءها والسيطرة عليها، لكنها حتى الآن، تعتبر حركة عفوية وبلا قيادة، وهو ما خلق مشكلة واجهت هذه الحركة الاحتجاجية، لأن ليس لها أي إطار تنظيمي واضح يمكن للسلطات أن تتعامل معه. ويعتقد أوحيدة، كذلك، أن من بين صفات الحركة الاحتجاجية في فرنسا أنها منظمة بشكل جيد ودقيق على الصعيد المحلي، وهو الأمر المفقود على الصعيد الوطني والقومي. وكانت ناجحة محليا لأن المواطنين يعرفون بعضهم البعض، عن طريق ارتباطات عمل والترابط الاجتماعي، وكذلك بالاعتماد على وسائل التواصل الاجتماعي، هذه الأخيرة التي كانت، حسب الخبير في القضايا الأوروبية، عاملا مفاجئا، فالنداء كان عبرها في البداية، لتتحول بعد ذلك إلى حركة في الشوارع والميادين العامة، ما دفع بالسلطات للتعامل بقوة لما بلغت الاحتجاجات إلى مركزية الحكم والقرار في العاصمة باريس.