إذا كنت الموجة الأولى من ثورات الربيع العربي قد عصفت بالأنظمة الجمهورية أساسا، في مصر وتونس واليمن وسوريا وليبيا، بينما نجت الأنظمة الملكية بعدما سارعت إلى القيام بإصلاحات، فإن التوقعات تشير إلى أن الملكيات ستكون المستهدف الأول في أي موجة ثورية قادمة. كيف نجت الملكيات في 2011؟ خلال ثورات الربيع العربي نجت الأنظمة الملكية. وشهدت البحرين فقط أزمة زعزعت النظام الملكي هناك. بينما التفت بقية الملكيات على مطالب التغيير من خلال إجراء إصلاحات دستورية ومؤسساتية في اثنتين منها هما المغرب والأردن، في حين لجأت السعودية والإمارات وعمان إلى موارد النفط لإغراق مواطنيها في الامتيازات. وفي دراسة بعنوان “ملوك لجميع الفصول: كيف اجتازت الأنظمة الملكية في الشرق الاوسط عاصفة الربيع العربي”، شرح الباحث غريغوري غوس الاستراتيجيات التي اعتمدتها الملكيات العربية للبقاء في السلطة. يميز غوس بين الملكيات التي تقود حكم الفرد مثل المغرب والأردن، والملكيات التي تحكم فيها العائلة كاملة، ويؤكد أنه بينما أحدث الملوك الفرديين ثغرات في نظامهم السياسي، اعتمد ملوك الخليج على النفط والقمع. لكن ليس هذا هو السبب الرئيسي بحسب الباحث، الذي يرى أن العامل الرئيسي في تفسير قدرة هذه الملكيات على الحفاظ على استقرارها يرجع إلى التحالفات التي أنشأتها لدعم نفسها. يرأس الملوك مجتمعات متعددة الهوية تجعل الملك فوق الجميع، فلا يكون عضوا ضمن أي من المجموعات المتنافسة، هذا يمنحهم القدرة على وضع أنفسهم على مسافة رمزية ومؤسسية من الصراع السياسي. لكن هذا التفسير يلتقي مع الصورة التي يرغب الملوك في تسويقها عن أنفسهم. ف”الملوك ليسوا حكاما محايدين بين أحزاب متنافسة، بل ممثلين لمصالح فئات معينة، ويربطون استمرار النظام الملكي باستمرار مصالح تلك الفئات”. وعند الأزمات يعتمد الملوك على تلك الفئات للحصول على الدعم. في هذا السياق يجب فهم علاقة الثروة النفطية باستمرار الأنظمة، فالنفط لا يضمن الاستقرار في حد ذاته، ولا يؤدي إلى زعزعة الاستقرار كذلك، الحقيقة أن الثروة النفطية تمكن الأنظمة التي “تستخدمها بحكمة من توسيع تحالفاتها التي تقدم لها الدعم واضعة حدا لمظاهر الصراع السياسي المحتدم”. بناء التحالفات على المستوى الداخلي بين النظام الملكي الذي يستخدم الثروة والسلطة لتوسيع تحالفاته، لا تقتصر على ذلك، بل أنشأت الملكيات فيما بينها تحالفات وشبكة فعالة من الدعم المتبادل في أوقات الأزمات تقوم على التضامن الملكي الذي يزيد من مواردها الفردية عن الحاجة. أما على الصعيد الدولي، تقيم كل الملكيات العربية تحالفات قوية مع الولاياتالمتحدةالأمريكية والقوى الغربية. بالنسبة للمغرب تمثل فرنساوأمريكا خير حليف للنظام الملكي الحاكم، ولطالما “كانت مساعدة الغرب أساسية للملوك الذين واجهوا مخاطر دولية أو اضطرابات داخلية مسلحة”. لكن أمريكا والقوى الغربية تبقى أقل فائدة حين تواجه هذه الأنظمة احتجاجات شعبية ضخمة. احتجاجات قوية ثلاث وقائع تزكي هذا التوقع؛ الأولى ما حدث في الأردن من احتجاجات عمّت البلاد في يونيو الماضي على خلفية قانون رفع الضريبة على الدخل، وأدت إلى سقاط الحكومة في ظرف قياسي وتعيين أخرى بديلا لها التزمت بالتخلي عن القانون والقيام بإصلاحات لتحسين القدرة الشرائية للأردنيين، احتجاجات فرضت إرادتها في ظرف قياسي على الملك عبد الله الثاني، وأعادت إلى الأذهان ما سبق وأن عاشه الأردن سنة 2011 في سياق الربيع العربي. الواقعة الثانية: تتعلق بالاحتجاجات التي ضربت المغرب سنة 2017، وخصوصا حراك الريف، وهي احتجاجات نمت وتطورت في سياق فرض “بلوكاج” سياسي على نتائج انتخابات 7 أكتوبر 2016، واشتعلت كرد فعل على حدث طحن الراحل محسن فكري في شاحنتة للنفايات، ما جعل بعض الكتابات الغربية تشبهه بمحمد البوعزيزي التونسي، وتوقعت أن تعم الاحتجاجات البلاد، وبالفعل فقد خرجت أزيد من 20 مدينة للتظاهر والاحتجاج تضامنا مع فكري، لكن السلطة استطاعت أن تفرض إرادتها في النهاية باستخدام قوات الأمن لقمع المحتجين واعتقالهم. الحدث الثالث يتعلق بالسعودية التي فرض ولي العهد فيها إجراءات ألحق الضرر بالقدرة الشرائية للمواطنين (رفع أسعار المحروقات، فرض الضريبة على الدخل،…)، وهي إجراءات خلّفت غضبا واسعا وسط السعوديين، اضطر معه الملك سلمان بن عبد العزيز إلى التدخل، ومنح الموظفين في القطاعين العام والخاص تعويضات شهرية لمدة عام كامل، تعادل ما فقدوه نتيجة تلك الإجراءات، التي باتت وكأنها لم تتم. أما في الدول الجمهورية التي شهدت الموجة الأولى من ثورات الربيع العربي سنة 2011، والتي عرفت كذلك ثورات مضادة حاولت نسف ما حقّقه الربيع العربي، فلم تنتصر فيها أي من الإرادتين؛ بل انزلقت تلك البلدان، خصوصا في اليمن وسوريا وليبيا نحو الفوضى أو الحرب الأهلية. أما مصر فتشهد احتقانا اجتماعيا غير مسبوق يهدد بالانفجار في أي لحظة، رغم المساعدات والأموال الضخمة التي منحها حكام الخليج للعسكر في مصر للتدخل ضد نتائج الانتخابات الرئاسية لسنة 2012. وإذا كان البعض يرى أن الملكيات نجت بسبب ما تتمتع به من شرعية دينية وتاريخية، فإن سعيد السالمي، أستاذ العلوم الجيوسياسية في جامعة بيزانسون بفرنسا، يرى خلاف ذلك. ويعتبر أن الموجة الأولى من ثورات الربيع العربي لم تشمل الملكيات “ليس بسبب الشرعية التاريخية أو الدينية، كما يقال أحياناً، ولكن لأن الملكيات سارعت إلى إجراء إصلاحات سياسية، مثلما حدث في الأردن والمغرب حيث تم تعديل الدستور، وإجراء انتخابات تشريعية سابقة لأوانها، وإصلاحات اجتماعية في دول أخرى على غرار السعودية”. وأضاف أن تلك “الإصلاحات لم تغير الجوهر السلطوي للأنظمة، ولم تصغ سياسات اجتماعية متوازنة، بل اكتفت بقرارات عابرة اتخذتها بهدف شراء السلم الاجتماعي”. ومضى قائلا:” لقد سعت، أي الملكيات، إلى كسب الوقت وبعد مرور العاصفة استعادت القبضة الحديدية بشكل أقرب إلى الأنظمة الشمولية في تدبيرها لمسألة الحريات الأساسية وحرية التعبير. ويمكن القول إن الملكيات استنفذت كل أوراقها، وانقطع حبل الثقة بينها وبين رعاياها، وبالتالي فإن الموجة القادمة من المتوقع أن تضربها أساساً”.